ضبطت معركة الكرامة جيلي أثناء التحضير لامتحانات "البجروت"، فقد وقعت في 21 آذار 1968م، وفي آذار هذا العام مر عليها خمسون عاما بالتّمام والكمال.
في تلك الفترة وبعد عدوان حزيران 1967م والنكسة التي حلّت بالعرب، كان الشباب يبحثون، والشعوب العربية كلها كانت تبحث ولو عن أمل مهما كان ضئيلا بالنصر وإعادة ما تمرغ من الكرامة العربية في حرب حزيران 1967م، ولم نكن نحن الشباب في ذلك الحين نختلف في تفكيرنا عن مجمل الشباب العرب، خاصّة وأن عدوان حزيران كان بالنسبة لنا أيضا والقوى التقدمية اليهودية هو عدوان سافر على ثلاث دول عربية، والهزيمة أصابت نفسياتنا أيضا فكنّا نبحث نفسيا على الأقل "بسراج وفتيلة" كما يقول مثلنا العربي عن أمل بالنصر، أو شبه نصر.
وإذا بقوات الجيش الإسرائيلي تقتحم بلدة الكرامة الأردنية وتعبر النهر مع غطاء جوي كثيف، وكنا نتابع الاحداث عبر المذياع - جهاز "الراديو الترانزستور" في غرفتنا الطلابية في الطيرة في المثلث، نتحلق حول الجهاز ونستمع لعدة مصادر، إسرائيل بالعبرية، وصوت إسرائيل بالعربية الذي كنّا نشك في أخباره ونعتبره بحق موجها لضرب نفسيات العرب في الداخل والخارج، ولصوت فلسطين من أكثر من موقع من القاهرة ودمشق، وللإذاعة الأردنية من عمّان.
ولأول مرة نفرح بأن القوات الفلسطينية مع القوات الأردنية وبتنسيق وتعاون استطاعت صد العدوان، سررنا وفرحنا للنتيجة العامة نفسيا لأن العرب يقفون ولو لمدة قصيرة وبمعركة محددة، وبذلك يثبتون أنه بالتعاون وبوضوح الرؤيا يصبح بالإمكان احراز مما كان في حزيران 1967م.
طبعا لم أكن أعرف في تلك المرحلة أن أفرادا من قريتي ومن أجيالي كانوا في المعركة، ولكن بعد ان انقشع غمام المعركة وإذا بجريدة المرصاد التي كان يصدرها حزب " مبام– وهو حزب اشتراكي ديمقراطي صهيوني" تكتب أن أحد شهداء المعركة هو الشاب محمد قاسم الشريدي من عرعرة، وأن القوات الإسرائيلية أسرت أحمد حسين حبايب من قرية عرعرة أيضا.
يا للهول شابان يستشهدان وأعرفهما جيدا، الأول محمد قاسم الشريدي من مواليد 1951م، وكان يصغرني صفا، عرفته في الابتدائية،ابن لعامل كادح عرفته جيدا العم قاسم الشريدي(أبو محمد) جار دار عمي أسعد صيداوي (أبو توفيق) لهما الرحمة جميعا، الذي يسكن في بيت متواضع بالقرب من مدرسة السلام الابتدائية اليوم، وغاب عن ناظري، بعد انهاء الصف الثامن أو أقل،لا اذكر بالضبط، وكل ما سمعته في ذلك الحين أن محمد "طلع على حي العرب" كما كنا نقول وهذه فترة قبل سنة 1967م كان العديد من الشباب العرب من القرى الحدودية مثل عرعرة وأم الفحم وباقة الغربية وغيرها وبسبب الحكم العسكري وأحيانا الضائقة المالية، وأحيانا الاختلاف مع الاهل خاصة في جيل المراهقة، أو الأمل بالعرب بأنهم سيعاملونهم معاملة أفضل أو قد يحققون لهم آمالهم، كانوا يغادرون قراهم إلى الأردن ويعودون يسجنون هنا أيضا، وهي مرحلة بحاجة لدراسة تاريخية واجتماعية، المهم أن الصحيفة كتبت أنه كان ضمن شهداء حركة فتح، ويبدو أنه انضم هناك للحركة في الأردن، فله الرحمة، أما الشهيد الثاني، ولم يكتب أنه من عرعرة لأن والديه من قرية عرعرة المثلث ولكنهم من مهجري 1948م، فهو الشهيد تيسير مرعي، لم أعرفه شخصيا ولم يتح لي أن اعرف أهله بسبب هجرتهم قبل مولدي، فله الرحمة أيضا.
أما الأسير فهو أحمد حسين حبايب، وهو ابن صفي من الأول حتى الصف الثامن، وهو من مواليد 1950م، أذكره طالبا هادئا مبتسما، خرج إلى سوق العمل مبكرا بعد الصف الثامن، وعمل مع المرحوم والدي في الحدائق "الجناين"، وكنت في العطل أعمل معهما، وكان والدي يحترمه ويقدره وكذلك أنا، وفجأة افتقدته أيضا، كما افتقدت ابن صفي الآخر قبله والذي استشهد في مكان آخر وهو الشهيد عصام سليمان يونس (عارة – المسقاة)، واعتبر الأمر في غيابه كغياب بقية الشباب في تلك الفترة، ولكن القوات الإسرائيلية ألقت القبض عليه وتعرفت على هويته بأنه عربي فلسطيني ممن يحملون الهوية الإسرائيلية، فأبقته في السجن لمدة طويلة لا أذكرها بالضبط، ولكنه خرج من السجن مع مرض نتيجة التعذيب كما قيل في البلدة، ولكنه تزوج بعد خروجه من السجن وخلف عائلة نتمنى لها الحياة الكريمة ومؤخرا توفي في القرية وحزنت شخصيا عليه كزميل دراسة وحاول أن يجد نفسه في الخط الوطني، فله الرحمة أيضا.
هذا شعبنا وهذا الترابط وهذا هو المصير المشترك. وهذا جزء مما تجلبه الحروب ويجلبه العدوان على المستوى الشعبي والشخصي للبشر.
مرت خمسون عاما على هذه المعركة التي اعتبرت نصرا رغم خسارة القوات الأردنية 86 شهيدا والقوات الفلسطينية بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية وخاصة قوات فتح95 شهيدا وإصابة 108 جرحى أردنيين ومئتي جريح فلسطيني وكما قدمت كان هناك أسرى من الجانبين الأردني والفلسطيني إلا أن القوات الإسرائيلية أيضا خسرت كما جاء في الصحف 30 جنديا، و95 جريحا وعدد من المفقودين إلى جانب خسائر في العتاد.
وتحتفل القوى الفلسطينية بهذه المناسبة سنويا باعتبارها محطة مركزية مهمة في النضال الفلسطيني الأردني المشترك ضد الاحتلال وباعتبارها أفشلت القضاء النهائي على الفدائيين الفلسطينيين ولم تسيطر القوات الاسرائيلية على الأرض الواقعة شرقي الأردن. وبدلا من تردي الروح المعنوية فمعركة الكرامة زادت من الروح المعنوية لدى المقاتلين ولدى الشعبين الأردني والفلسطيني بشكل خاص في كل أماكن تواجدهم، وشددت على أهمية تأصيل وتكثيف اللحمة الفلسطينية الأردنية كشعبين شقيقين جارين باستطاعتهما النصر إذا ما تعاونا معا وبذلك لم تنفذ مجمل أهدافها.
(عرعرة – المثلث)