في مدرسة جسر الزرقاء لم أجد أمامي خيارًا غير تعليم الصف الأول الابتدائي، رغم أنني كنت معلمًا مهنيًا متخصصًا في العلوم الطبيعية، حاولت الرفض في البداية، لأن قدراتي المهنية والتعليمية أكبر من دروس الصف الأول، توجهت للمدير المرحوم أحمد قندس الذي أكد لي: "هذا هو الموجود إذا لم توافق على تعليم الصف الأول ستفصل من المعارف.. في مدارسنا العربية لا يوجد معلم متخصص ومعلم عام.. هذا رأي المفتش.. يعني بالعربي حط راسك بين هالروس وقول يا قطاع الروس".
لم أجد أمامي إلا الرضوخ والسكوت، سلمني المدير "خُشّة " خارج بناية المدرسة – المدرسة كانت عبارة عن مجموعة من الخشش والزرائب المستأجرة، وقد تحولت الى صفوف دراسية وجميعها مبنية من الطين ومساحتها صغيرة دون تهوئة أو شبابيك - أما خشتي أو – صفي - فهو عبارة عن "أنبوب" قطره 3 امتار وطوله ستة امتار، لم يكن بالإمكان تنظيم ممر بين مقاعد الطلاب، لذلك كنت مضطرًا أحيانًا للزحف فوق المقاعد للوصول الى المقاعد الأخيرة داخل الصف، والأدهى أن السقف كان منخفضا حيث كلما رفعت رأسي كان يضرب بالسقف.
طلبت من المدير أن يشتري للصف لوحًا خشبيًا أسود كما هو في المدارس، لكن تجاهل الطلب وقال لي مثلك مثل باقي الصفوف، عليك استخدام لوح من الكرتون الأسود بدلًا من اللوح الخشبي التقليدي، حتى عندما حاولت تعليق وسائل إيضاح للاستعانة بها في التدريس لم أجد جدارًا أعلق عليه لأن الرطوبة متغلغلة في الحيطان.
مرت السنة التعليمية وأنا أعاني الأمرّين من ضيق الصف والرطوبة، الى معاناة طولي ورأسي الذي يضرب بالسقف كلما رفعته، وكان الوعد الصادق من المدير أن السنة القادمة سيقوم بتغيير الصف، وبدأت السنة الدراسية الجديدة وإذ بالمدير يعلمني أن صفي الجديد جاهز، توجهت الى الصف بفرح، اذ كان غرفة جانبية لم أدخلها يومًا، وما أن دخلت الصف برفقة المدير حتى اصطدم رأسي بسقف الغرفة وفقدت توازني من شدة الضربة، فما كان من المدير الا أن انفجر ضاحكًا وأخذ يخفف من وقع الضربة ويردد والله نسيت طولك.. اتحملنا هذه السنة وانتبه لرأسك، ثم تركني وخرج مسرعًا .
كان ارتفاع سقف الغرفة لا يزيد عن 180 سم، أي أقل من طول قامتي البالغة 190 سم، ووجدت أمامي مشكلة كبيرة عند الوقوف، حيث كنت مضطرًا للانحناء مرة لليمين ومرة لليسار أمام الطلاب، وإذا عزمت على الوقوف فجأة كان رأسي يصطدم بالسقف مما يسبب لي دوخة ووجع عدا عن المهزلة امام الصغار.
في أحد الأيام بينما كنت منهمكًا في الكتابة على اللوح، دخل المدير وبرفقته رجلًا قصير القامة، وعندما رآني هذا الرجل واقفًا ورقبتي منحنية انفجر ضاحكًا، ورغم محاولته خنق ضحكته الا أن الاستهزاء كان ظاهرًا على ملامحه.
مد يده ليصافحني ورقبتي ما زالت منحنية والألم يكاد يقفز من تحت قبة القميص، اسمي يوسف قديش.. أنا مدير المعارف العربية.. ثم قال أحمد الله على قصر قامتي ولولا ذلك لفتح هذا السقف شارعًا في رأسي، وقبل أن يكمل عبارته أدار ظهره دون أن يودعني وخرج مسرعًا.
لم تغير الزيارة من وضع المدرسة المأساوي وتدني مستوى التحصيل فيها، وبقي رأسي رهينة الشج يوميًا، وكنت أعد الأيام حتى تنتهي السنة الدراسية.
خلال العطلة الصيفية كان تنقل المعلمين يأخذ حيزًا كبيرًا من اهتمامهم، وقد استخدم بعض المفتشين العرب ورقة نقل المعلمين وتعيينهم في مهنة التدريس للمقايضة والابتزاز وكانت الواسطات تصول وتجول مما زاد من توسيع دائرة الفساد.
وبعد تردد ووقوف ساعات انتظار طويلة في مكتب المعارف في مدينة يافا، وأمامي مسيرة التنقل من طمرة الزعبية الى كفر مصر الى عرب الشبلي الى جسر الزرقاء، رافضًا العودة، تم تعيني في قرية كفر قاسم التي كانت خارجة من المجزرة وما زالت صدمة القتل والدم تطفو على سطح الحياة اليومية في القرية.
استقبلتني المدرسة في كفر قاسم وعيون الطلاب غارقة في دموع الحزن، عشرات الطلاب من الأيتام الذين قتل آباؤهم، لم يقم أحد بإحصائهم وتسجيل أسمائهم، لكن كان الإحساس العام في المدرسة ان الجميع قد نالوا حصتهم من القتل، على سبيل المثال تعرفت في المدرسة على أربعة اشقاء ذبح والدهم في المجزرة، حيث كانت ملامحهم تدل على مدى الحزن الساكن في اعماقهم.
رغم مضي عشر سنوات ومحاولة الحاكم العسكري طمس معالم المجزرة وتغيبها عن ذاكرة الأجيال، حيث لم تقم وزارة المعارف بإدراج ذكرى المجزرة كيوم عطلة، بل كان يومًا عاديًا كأن شيئًا لم يكن، لكن الأهالي والهيئة التدريسية التي أصبحت أنا منها كانت تصر على احياء ذكرى المجزرة مع بقية أبناء القرية، ورغم أن الوزارة كانت تمنع ذلك الا ان الطلاب وبدافع من عائلاتهم والسلطة المحلية كانوا يحولونه الى يوم حداد ويتغيبون عن المدرسة، ونحن كمعلمين كنا ملزمين بالدوام المدرسي، لكن كنا نشارك في المسيرة التقليدية التي كانت تمتد من اضرحة الشهداء الواقعة في الطرف الشرقي الى موقع النصب التذكاري الواقع في طرفها الغربي، وبعد الانتهاء من المسيرة يعود المعلمون الى المدرسة، أما المعلمين اليهود العراقيين فقد كانوا يتغيبون في هذا اليوم بإذن من وزارة المعارف.
عند قدومي الى قرية كفر قاسم، فوجئت بوجود عدد كبير من المدرسين اليهود من أصل عراقي، تم جمعهم في مدارس كفر قاسم الابتدائية والثانوية مع بداية تأسيسها، لم يأت جميعهم الى العمل في مدارس كفر قاسم صدفة، كان الهدف مقصودًا وأهدافه معروفة، منها توفير العمل لهم في هذه القرية، وكان معظمهم يسكنون في مدينة بيتح تكفا وبني براك وكفار سابا.
كان مستواهم ومقدرتهم العلمية متفاوتة، لم يعمل العديد منهم في مهنة التدريس قبل قدومهم من العراق، لذلك كانت مدارس كفر قاسم وبقية القرى العربية التي عملوا بها ساحات تجارب لهم، أما وزارة المعارف فقد أغدقت عليهم التدريج المهني الاكاديمي. كان معظمهم متقدمين في السن، المرض والانهاك باديان عليهم، وكانت لهجتهم العراقية تجعل الطلاب ينفرون منهم، ومن ميزتهم الانعزال، ويتحدثون مع بعضهم البعض بلهجتهم الخاصة، وقد خصصت شركة "دان" للباصات حافلة خاصة تنقلهم كل صباح من مدنهم الى كفر قاسم.
كانت علاقتنا في غرفة المعلمين تقوم على المجاملات الى حد النفاق، أحيانًا كانت لحظات توتر مثل قدوم ذكرى عيد الاستقلال، اذا اصطدمت مرة مع معلمة عراقية تدعى "نعيمة" تجاوز عمرها في ذلك الوقت الخمسين عامًا، كانت دائمًا منزوية هادئة لا تتكلم كثيرًا، لكن عندما سمعتني انتقد وزارة المعارف التي أرسلت منشورًا تطالب فيه المدارس بتزيين الصفوف وإقامة مسابقات رياضية وشعرية بمناسبة قدوم عيد الاستقلال، مع العلم ان هذا التزيين والاستعدادات تأخذ من السنة الدراسية أيامًا وشهورًا، فما أن سمعتني انتقد حتى انتفضت واكفهر وجهها وأخذت تردد "ما يحترمون مشاعرنا" وسارعت الى الخروج وهي غاضبة، حاولت افهامها أن عليها احترام مشاعر العرب أيضا، لكن هي استمرت بغضبها، وقلت لها ما دمت تكرهين المدرسة وطلابنا انتقلي الى مدرسة يهودية؟! بعد ثوان همس استاذ "الياهو بشت" وكان من المعلمين العراقيين الذي يعترف بفضل العراق عليه "شلون تسأل.. نحن لسنا قادرين على العمل في المدارس اليهودية حاول بعضنا لكن طردونا".
بعد سنوات طويلة في مدارس كفر قاسم التي كانت قريبة من الحدود الأردنية وقد جرت أحداث وقصص كثيرة مع الجيش الأردني، بالإضافة الى وقوع حرب 67 – سجلتها جميعها في كتابي الأمس لا يموت - كان لا بد من طلب النقل الى قريتي الطيرة، يكفي ابتعادي عنها والمدارس فيها تستطيع استيعاب العديد من المعلمين، وقدمت طلبًا للنقل ووافقت الوزارة على النقل لكن لم يصلني اشعار بذلك، توجهت الى مدينة نتانيا للقاء المفتش المسؤول عن ذلك، التقيت به وقد شعرت بأنه محرج وعلى لسانه الكثير من الحكي، لكن اختصرها قائلًا "يا عمي هناك من قام بايقاف النقل... تفو على وزارة المعارف من نتانيا حتى القدس.. ارجع يا عمي على كفر قاسم ما الك الا الله" حاولت سؤاله لكن لم يجب وعرفت بعد ذلك أن احد المدراء في الطيرة عرقل اعادتي الى القرية لأنه وضع قريبًا له بدلًا مني..
إضافة تعقيب