تملكني شعور غريب لم أستطع وصفه وأنا أغلق الغلاف الأخير لرواية الكاتبة سعاد العامري المعنونة "بدلة إنكليزية وبقرة يهودية"، والصادرة عن دار المتوسط عام 2022، ولن أخوض في محاولة تفسير هذا الشعور ولا في البحث عن أسبابه ولكن ربما يظهر بين هذه السطور ما يصلح تفسيرا لهذه الظاهرة أو يتضمن دلالة تشير إليها!!
كما أنني لا أود الخوض في ماهية الأسماء المستخدمة، وهل هي أسماء حقيقية؟ أم أنها جزء من نسج الخيال للتورية وضمان خصوصية الأشخاص والعائلات؟ فما يهم أن هذه الأسماء أدت ما قصدته الكاتبة من دلالات، وقد تكون الأسماء مزيجا بين الحقيقة والاستعارة.
في مقدمة هذه الأسماء ومحور الاهتمام منها "صبحي"، الفتى البارع في أعمال الميكانيك، وحديث يافا برمتها لمهارته وإبداعه، بالرغم من صغر سنه "15 عاما" وبطل الرواية وشخصها الرئيس، ثم محبوبته "شمس" ابنة قرية سَلَمَة المجاورة، ونجمة أحلامه، وعروس المستقبل المنشودة وود لو يكون ذلك في الغد القريب لو سمح عمرها بذلك، منذ رآها أول مرة وسلبت لُبَّه، وهو يخطط للقائها، ببراءة أحيانا وببعض الخبث أحيانا، فإذا التقاها تبادل معها ابتسامة، أو غمزة، أو لمسة يد، أو ربما أكثر قليلا! وكان موسم "النبي روبين" الفرصة الأكثر ملاءمة لهذه المغامرات، أما ما عدا ذلك فقد شغلت تفكيره، وبات همه البحث في فرص الارتباط بها، ودون ذلك مصاعب جمة، خشية الرفض بسبب الفارق الاجتماعي بين مجتمع القرية ومجتمع المدينة، ولكن الأهم هو ما تشير إليه الأمور من خطر داهم مرتبط بمستقبل المدينة، متمثل في تأهب العصابات الصهيونية المتصاعد نحو يافا وغيرها من المدن والقرى، والمرتبط بقرب انتهاء الانتداب البريطاني، هنا تبدو المصائر مشتبكة، وبرغم ما يتوقعه المرؤ من تراجع ما هو فردي وخاص لصالح ما هو جماعي وعام، إلا أن شمس باتت الهم الأول لصبحي في إرهاصات أحداث النكبة، وخلالها، وبعيدها. بل وبعدها إلى آخر الخطوات التي قادته في رحلة البحث عنها، في أي اتجاه كانت هذه الخطوات؟ لن يجد القارئ هذا الجواب بعيدا عن الصفحات الأخيرة لهذه الرواية
من هنا ظهر ارتباط قصة حب صبحي لشمسه بقصة يافا وفلسطين، أقول ارتبطت ولا أقول ابتدأت فالبداية سبقت، ولكن هنا بدأت الكاتبة تروي القصتين مرتبطتين معا. والحقيقة أن الكاتبة استهلت القصتين معا على نحو متواز أحيانا أو متعاقب في أحيان أخرى، فتارة تتحدث عن صبحي، وقليلا عن شمس وكثيرا عن يافا المدينة الجميلة، الكبيرة، الآهلة بالسكان، تفاصيل أحيائها وعلاقاتها ببعضها من حيث المكان، والمكون السكاني بطبقاته الاجتماعية المتعددة، والبيارات القريبة والبعيدة، وبحر يافا الغدار، والمدينة التي زُرِعَت على الحد الشمالي "تل أبيب"، تفاصيل رسمتها ببراعة المهندسة المعمارية التي تسكن شخص الروائية سعاد العامري.
ولم يكن هذا الوصف ليكتمل دون الحديث عن حياة يافا وتفاصيلها، بمقاهيها، ومسارحها ودور السينما فيها، حتى السينما الصيفية، والحركة الناشطة للفن والفنانين العرب، وكذا حراك المثقفين من كتاب وصحفيين وغيرهم، يتوافدون إليها في مواسم مختلفة لإحياء الحفلات أو عقد الندوات، ولم تغب الصحف، والمكتبات، والجوانب المختلفة من الحياة الثقافية عن التفاصيل.
رواية الواقع هي بما أشار إليه غلاف الرواية "هذه الرواية مقتبسة عن قصة حقيقية" ولا يتوقع القارئ رواية بلا تخييل، ولكن هذا التخييل كان مولودا من رحم المدينة الجميلة أم الغرباء "يافا" عروس البحر وعنوان فلسطين بكل مكوناتها، ولا يكون الواقع واقعا إلا بالشفافية ودقة نقل التفاصيل، ومن بين هذه التفاصيل صور المجتمع الذي عاش المدينة كما هو، برقيه وثقافته ولكن أيضا بمصطلحاته المستخدمة في الحياة اليومية للناس ولكنها جميعا لا تخرج من بوتقة الواقع، ولا تشكل أي إدانة للمجتمع اليافوي، ولا لأي مجتمع فلسطيني آخر وتبقى محصورة بكونها جزءا محدودا من الواقع، وقد استخدمتها الكاتبة بهذه الدلالة وفي هذه الحدود. ومن السذاجة أن يفترض المرؤ أن الواقعية تقف عند هذا فقد حفلت الرواية بالكثير من الصور عن المجتمع اليافوي بمكوناته الحضارية وطبقاته الاجتماعية المتعددة، وصور الحياة الثقافية، بمقاهيها ودور السينما والمسارح والصحافة، والاقتصادية القائمة على حركة نشطة في زراعة البرتقال وتصديره في هذه المدينة، وتفاعلها مع الحراك الوطني وتفاعله مع دعوات الإضراب سلبا أو إيجابا، والوعي المشحون بالقلق تجاه حراك العصابات الصهيونية ضد يافا وسائر المدن الفلسطينية.
تسير كل هذه المكونات معا في التحام وثيق مع حياة صبحي، ومشاعره، وأمله في المستقبل الذي بات يتراجع مع ما يفرضه الواقع من أحداث، ومخاوفه التي باتت تتعزز بابتعاد الفرحة بلقاء شمس.
أما البدلة الإنجليزية التي تراوحت في دلالاتها من مكافأة نالها صبحي من الخواجا ميخائيل لبراعته في إعادة المياه إلى شرايين البيارة، تلك المكافأة الثمينة بقيمتها التي تساوي قطعة حمراء "خمس جنيهات فلسطينية " وثلاث خضراء "جنيهات فلسطينية" ابدعت الكاتبة في وصف تفاصيلها وما عليها من الرسومات، وقيمتها الاقتصادية في تلك الحقبة من الزمان ، ومثلت لصبحي حلم الزواج بشمس بدقيق تفاصيله، ورمزا للتباهي، وفرصة للقاء مختلس بشمسه في الخيمة أثناء احتفالات "موسم النبي روبين"، ثم شكلت البدلة بعد النكبة تهمة لصبحي بسرقة هذه البدلة؟، في مفارقة بين من يحاكم الناس بسرقة بدلة هي ملكهم وقد اقترف سرقة بلد بأكملها. وباتت حقا دافع عنه صبحي باستماته ضد الجاسوس فواز، واستعادها ولو أشلاء، ثم احتفظ بهذه الأشلاء ذكرى يستعرضها مع الأبناء والأحفاد.
ومثل البقرة الهندوسية تكتسب بقرة صفة القداسة، وفي سخرية سوداء تعرِّفها الكاتبة بأنها "بقرة يهودية"، ويستحق من قتلها المحاكمة وتتكرر المهزلة بمن يسرق ومن يحاكم! وما أدت أليه هذه المحاكمة من تفريق بينهم وبين عائلاتهم "والد شمس ورفاقه" ولم تكن هذه إلا بقرة فارقها صاحبها مهاجرا نحو الأردن واستخدمت لسد رمق اللاجئين المهجرين من مدنهم وقراهم بفعل ممارسات الطرد والتطهير العرقي. ثمة تفاصيل لم تكشفها هذه السطور أترك للقارئ دهشة اكتشافها والتفاعل مع مؤثراتها.
ومن البقرة اليهودية إلى السيدة اليهودية التي ترعى ثلاث بنات إلى الطفولة أقرب، وبالتعاون مع زوج مصري يجمعهما فكري نضالي تقدمي، ويأبى الفكر المتجمد إلا انتزاعهن من حضن أم محبة حانية، وإلحاقهن بسيدة غائبة عن الواقع، وتحتاج هي بذاتها إلى الرعاية، وفقط لكونها مسلمة وهي التي لم تدر بوصول البنات ولا برحيلهن وهي التائهة بين حيواناتها وخردواتها، إلا أنه لا يصح إلا الصحيح، فقد أمكن إعادة تهريب البنات إلى السيدة اليهودية لينلن رعاية، ومحبة تمتد إلى عقود من الزمن، هل أرادت سعاد العامري أن تقول أن ثمة يهود مختلفون عن من اقترفوا كل فظائع التطهير العرقي؟ هل أرادت أن تقول أن ثمة فارق بين ما هو يهودي وما هو صهيوني؟
تحفل الصفحات الأخيرة من الرواية بكشف العديد من التفاصيل من رحم الحقيقة والواقع، منها ما يشير إلى مصائر تحظى بنوع من الاستقرار على أرض الوطن برغم الظروف الصعبة المحيطة، وأخرى تحمل أخبارا مؤلمة لنفوس تعذبت بالترحال، والبحث عن تفاصيل مصائر عائلات تفرقت، وغاب بعض أفرادها عن هذه الدنيا دون أن يهنأ باستقرار ولو جزئي، فأي مصير آل إليه صبحي وشمسه في هذه اللجة؟!
عمان في 30/03/2023
إضافة تعقيب