في البدء سارت الأمور كالمعتاد. قامت أحلام من فراشها وبدأت بتحضير نفسها وأفراد عائلتها، من اجل عبور يوم جديد- هي الى مدرستها التي تستقبلها يومياً كمعلمة منذ عشرين سنة، وأولادها الثلاثة الذين يتجهون الى مدرسة أُخرى، وزوجها الذي يتثاقل كلَّ صباح يومياً في سلخ نفسه من فراشه، ليعدَّ نفسه من اجل الالتحاق بالبنك التجاري الذي يعمل فيه.
خرجت من الحمام، فسمعت بكاء خافتاً يتسلل من غرفة الاطفال. أسرعت الى مصدره، فاصطدمت بسمير على باب غرفة ابنتها.
أُمي رانية تبكي..
أسرعت الى سرير الطفلة وقبّلتها. وضعت يدها على جبينها "يا حبيبتي.! البنت بتغلي!" همست بصوت مخطوف.
"نادي أباك!". توجهت لسمير بلهجة المستغيث، وهي تتناول الطفلة من سريرها وتضمّها في حضنها.
حضر زوجها مسرعاً. وضع يده على جبين الطفلة، وقبّلها بحنان شديد.
لا بدًّ من نقلها إلى العيادة حالاً.. قال والهمُّ يخطف وجهه.
اتصلت بالمديرة وأعلمتها أنها ستتغيّب اليوم عن المدرسة لأمر طارئ. جهّزت الطفلة ووضعتها في مقعدها الخاص في السيارة وتوجهت الى العيادة.
وعندما وصلت تناولت" نمرة" من حافظة "النمر" القريبة من باب العيادة. خطفت نظرة إليها فوجدتها تحمل الرقم 35، فعرفت أن وقتا طويلا ينتظرها وينتظر ابنتها فاشتد خوفها وهلعها. رمت بنفسها على مقعد الانتظار، لينقذها من خطر الانهيار.
جالت بناظريها على وجوه الجالسين على مقاعدهم، فوجدتهم كالعادة كل واحد منهم يحمل آلامه أو آلام من معه، متخذاً من الصمت ستاراً يحجب معاناته.. كان هنالك نساء ورجال وأطفال.
رجعت الى ابنتها فوجدتها تغيب في أتون من نار. تئِنُ أنات كأنها تستغيث من بعيد. وضعت يدها على جبينها، فوجدتها جمرات لنار يشتعل لهيبها، فزادت وتعالت دقات قلبها التي كادت ان تتوقف عاجزة عن الوقوف أمام هذا السيل الجارف، من هذا الهلع والخوف.
"ستموت الطفلة بين يدي.!" خرجت من أعماقها أصوات متتابعة، انفجرت في داخلها قبل ان تصل الى شفتيها..
حولت أنظارا مستغيثة الى المنتظرين لأدوارهم عند الطبيب.. فوجدتهم كأنَّهم كتل من حجارة من الهموم تلفعت بستائر من صمت رهيب. نظرت في داخل عيونهم، فوجدتها تغور في قاع بئر من الجمود.
سأطلب منهم بالسماح لي بالدخول الى الطبيب.. لا بد من انقاذ الطفلة! تصاعدت موجات من كلمات محمومة، أطلقتها الثورات التي بدأت تعلو من داخلها.
ابنتي وضعها صعب وأطلب منكم السماح لي بإدخالها الى الطبيب. زعقت باستعطاف محموم.
لا.! لا.!. انطلق صوت امرأة عجوز هشَّم الزمان وجهها.
انتظري دورك!.. كلنا هنا مرضى وكلنا نحتاج الطبيب بسرعة.. أكملت كلامها وهي ترسم على وجهها علامات المقت.
لماذا!؟ لماذا!؟ صاح رجل في منتصف العمر، كان يجلس في الجهة المقابلة، "إنها تقول ان ابنتها في حالة خطرة ". أكمل محتجاَ.
" إنها تعارض إدخالها بسبب كونها عربية".. همست شابة في مقتبل العمر في أُذن الرجل.
" أنا لا أحب العرب. ولكن هنا حالة إنسانية".. ردَّ الرجل على الشابة، وكأنه يحاول ان يبرِّر لهم، أسباب مطالبته بالسماح لها بالدخول.
"قُتلت ابنة أخي في انفجار القدس". همست صاحبتها، كانت تجلس ملتصقة بها، "إنها طفلة!".. أكملت بحزن شديد.
" أيتها المرأة هل قلبك من حجَّر.!؟ ان ابنتي ستضيع بين يدي.!!". صرخت الأم بصوت تتنازع فيه الثورة والاستعطاف.
" نعم تحجَّر وأنا أُشاهد مناظر لمْ أشلاء قتلى الإنفجارات".. قالت بصوت يخلو من الأحاسيس.
"ولكن هذه الطفلة لم تكن هناك. وليس لها ذنب فيما تقولين".. سمع صوت لشاب كان يجلس على مقعد بعيد.
" سأدخل بعد ان ينتهي الطبيب من عمله، مع المريض الذي يعالجه الآن.. وليكن ما يكون".. قالت بتحدٍّ مستميت.
" لن تدخلي! لن تدخلي!".. انطلق صوت حنجرة شاب "تزيَّن" راسه قبعة المتدينين.
"لماذا.!؟" تدخَّلت شابة أخرى في الحديث "لأنها عربية.!؟ ليكن في قلبك رحمة". أكملت بصوت يحمل في طياته اليأس.
"فلتذهب لغزة!. هناك سيساعدونها". أكملت قوله امرأة كانت تجلس بجانبه تحمل طفلاً رضيعاً ربما تكون زوجته.
قامت من مكانها تحمل الطفلة.. ووقفت بجانب باب العيادة، مصممة على الدخول، عندما يُفتح ليخرِج المريض، وأصَمَّت أُذنيها كيّ لا تسمع النقاش الذي استمر يدور بينهم.
"هم لم يعيشوا في المانيا، ولم يروا معاملة النازيين لليهود، حرموهم من العلاج والدواء".. توجهت العجوز بالحديث، لامرأة كانت تجلس بجانبها.
"أنا من أصل عراقي، سمعت الكثير عن معاناتكم في أوروبا".. قالت العراقية محاولة الإشتراك معها بالحديث.
"انتم عشتم بينهم".. قالت محاولة استدراجها لحديث تتوق الى سماعه.
"آ عشنا بينهم حياة طبيعية.. ولم نذق مرارة الظلم إلا هنا".. اجابتها محاولة عدم فتح جراح لم تندمل بعد.
أطلقت العجوز همهمات فيها معاني انسحاب المهزوم، وأشاحت بوجهها عنها إلى الجهة المعاكسة.
وإذا بصرخة تنطلق لتكسِّر كابوس صمت المكان، توجهت العيون نحو مصدر الصوت، فرأوا الأم العربية ترمي بطفلتها في حضن الأب اليهودي المتديِّن، وتنتزع ابنه من حضن زوجته، وتسرع الى باب عيادة الطبيب، وتبدأ بالطرق على الباب بكل قوتها. وهم ينظرون إليها متجمِّدين في أماكنهم، عاجزين عن فهم هذا الموقف المذهل الذي يتكون أمامهم.
"عربية.!عربية.! سرقت طفلي" صاحت الزوجة المتدينة.
قامت من مكانها، وتوجهت بسرعة نحو المرأة باتجاه الباب. ولكنها قبل ان تصل، فُتح الباب ودخلت أم الطفلة مع الطفل الى العيادة، وسط صرخات الطبيب المحتجَّة على الطرقات المحمومة.
"إسعفه يا دكتور! لقد ابتلع شيئاً".. صرخت به بهلع.
بدأ الطبيب بإسعاف الطفل، غير آبه بالطرقات التي كانت تنصب على باب العيادة.
كل هذا كان يحدث، والرجل المتديِّن يحتضن الطفلة العربية.. نظر الى شحوب وجهها والدموع الخرساء التي كانت تسيل من أطراف عينيها.. وفمها الصغير الذي كان يتعذَّب من وجع سياط المرض.. فامتدت يده المرتجفة الى جبينها الملتهب، فدخلت في أصابع راحته موجات حارة من المعاناة، تسللت الى قلبه فملأته بأحاسيس الشفقة والرحمة، فذكره بما حدث لابنه في ساعات الليل.
قام من مكانه وتوجه الى باب العيادة. وعند وصوله رفع رجله وركل الباب بكل ما أوتي من قوة ففُتح الباب. سحب ابنه من سرير الطبيب، ووضع الطفلة مكانه غير آبه باحتجاجاته وهو يصيح صارخاً:
لم أنته بعد من علاج الطفل.. انك مجنون!
سنكون مجانين، ان لم ننقذ هذه الطفلة المسكينة.. لا بدَّ ان تعيش!
إضافة تعقيب