news-details

رسالة الغفران لأبي العلاء المعري بعيون إسبانية

// سميح مسعود

يعتبر هذا الكتاب من درر الأدب العربي ، له أثره وتأثيره  في الأدب العالمي حتى يومنا هذا بعد ما يقرب من تسعة قرون على صدوره، تدور النقاشات حوله، و يعود البحاثة إلى كل جانب من جوانبه ذكرًا واقتباسا، أملاه شاعر المعرة على كاتبه وهو في الستين من عمره، مزج فيه كل ما وعاه عقله من علم  وثقافة وأخبار وأشعار وتوجهات فكرية، صاغها بطابع روائي.

وعلى امتداد هذا المسار،عرض المعري في كتابه صورا لرحلة فكرية خيالية،انتقل فيها من بيئته المكانية الواقعية إلى عالم الآخرة، استرسل بها بخياله الجامح إلى السماء العليا، وحاور في تفاصيلها شعراء وأدباء كثرا في الجنة والنار، أثرى بحواراتهم الحياة الفكرية والفلسفية والثقافية والدينية في أيام زمانه، كما أثرى الفكر الإنساني بشكل عام،وفي الوقت نفسه أثار كتابه هذا صخبًا، وطال صاحبه المعري اتهامات الكفر والزندقة، وقد استندت هذه الاتهامات إلى حد كبير على التأويل الخاطئ لأفكاره، لكن التاريخ أعاد له اعتباره، ووضعه في مصاف أعظم الأدباء والشعراء في العالم أجمع.

ويكفي أن أذكر في هذا السياق أن طه حسين تفاعل مع ابي العلاء المعري على نحو قل نظيره، وبين رأيه فيه ببصيرة الأديب الناقد، واستشهد بما قاله عنه بهذه الكلمات "ليس  بين أعلام الضاد في تاريخها القديم والحديث على السواء، كاتب أو مصنف أو رجل علم وأدب،أو صاحب رأي أو حكمة، جمع في آثاره من ألوان الكتابة نظمها ونثرها، وضروب المعرفة وأشتات الفكر، ما جمع أبو العلاء المعري من هذه الأبواب جميعًا، فهو الشاعر والناظم وهو الناقد والشارح وهو الواعظ والمرشد، وهو صاحب حكمة وتفلسف وهو الأستاذ  في كل هذه الوجوه."

وبالنسبة لي، أود التأكيد هنا بأنني لست بصدد التعريف بأبي  العلاء المعري، ولا بعرض كتابه "رسالة الغفران" وإنما أرغب فقط بذكر أثر هذا الكتاب في الغرب،وقد تلمست ذلك أثناء زيارتي لمكتبة "الإسكوريال" الإسبانية في نيسان الماضي، وهي مكتبة فريدة  يصفها الإسبان بأنها "ثامن عجائب الأرض" تضم بين جدرانها مخطوطات نادرة مختلفة في مواضيعها، كُتبت في حقبات زمنية مختلفة، منها مجموعة كبيرة من المخطوطات العربية، لأهم الكتاب العرب بمن فيهم كتاب الأندلس، مما يضفي على هذه المخطوطات مزايا استثنائية في الذاكرتين العربية والإسبانية.

ويجدر بي القول في هذا الإطار، بأنني تمكنت في تجوالي في مكتبة "الإسكوريال" من التعرف على بعض المخطوطات العربية، واقتربت من التعرف على الماضي الذي تقاسمه الإسبان مع العرب في الأندلس، كما تمكنت من التعرف على أهمية كتاب"رسالة الغفران"لإسبانيا وأوروبا من تعدد ترجمته، فقد ترجم إلى القشتالية بعد سقوط الأندلس بتوجيه خاص من ملك قشتالة الفونس العاشر الملقب بالحكيم، كما طلب نفس الملك ترجمته إلى اللغتين اللاتينية والفرنسية القديمة،ومن ثم تم ترجمته إلى اللغة الإيطالية، مما ساعد على التعرف على ترجمة كتاب "رسالة الغفران" في أوروبا مبكرا، وأثار مضمون المسائل الأدبية والفكرية  المطروحة في رحلته العجائبية للآخرة، اهتمام الكتاب والشعراء الأوروبيين، على امتداد عصور طويلة، بل ان بعضهم أدرج الكتاب على أساس حجج صحيحة، في إطار إرث إنساني استثنائي، لا يضاهيه آخر في مجاله.

ولا يسعني في هذا الجانب  سوى أن أعترف بثقة كاملة، بأن كتاب "رسالة الغفران" يُشكل إرثا على جانب كبير من الأهمية للإنسانية جمعاء، ويستحق أن يدرج في  قائمة الكتب الأكثر تأثيرًا في تاريخ البشرية، ورغم تأكدي من أن استنتاجي هذا غاية في التعقيد ومثير للجدل خاصة في زمننا الذي تسوده عدم القراءة، والاهتمام فقط بالغيبيات على صعيد التأمل الفكري، والاستهتار بالكتب التراثية القيمة التي تتحيز للعقلانية العلمية.

ومن حُسن حظي أن  زيارتي لمكتبة "الإسكوريال" مكنتني من التعرف على مثال قل نظيره، يثبت استثنائية كتاب "رسالة الغفران" ويؤكد بدون مبالغة على عظمة كاتبه، وأنه رغم مرور زمن طويل على رحيله فإنه ما زال موجودًا في فكره، وفي تفاصيل رحلته التي تشكل مادة للتذكر في كل الأزمنة.

والمثال الذي أنا بصدده يتعلق بالقسيس الإسباني المستعرب "ميغيل آسين بلاثيوس" وهو مثال جوهري وأهميته لا يستهان بها، يتجلى باكتشاف هذا المستعرب الكبير لكتاب "رسالة الغفران" وانكبابه على دراسته  وتحليله فترة طويلة من الزمن،يقدرها البعض بربع قرن،تمتع بفكر المعري ووضعها ضمن أولويات اهتمامه، وأصدر في نهاية المطاف على أساس دراسته الطويلة، كتابه الموسوم بعنوان"علم اللآخرويات الإسلامي في الكوميديا الألهية" وقد قدمه للأكاديمية الملكية الإسبانية بمناسبة تعيينه عضوا فيها، وكان الكتاب كما وصفه الأكاديمي المصري الراحل عبد الرحمن بدوي " قنبلة كبرى" أكد فيها القسيس "بلاثيوس" بالحجة والبرهان تأثر الشاعر الإيطالي الكبير دانتي في تأليف ملحمته" الكوميديا الألهية" برسالة الغفران لابي العلاء المعري من حيث الأسلوب والمضمون، وبين هذا كله بحجج دامغة وقدرة تفسيرية عالية، تحمل في باطنها معاني دقيقة ورقيقة، تدل على سطو دانتي على فكر المعري الذي سبق به عصره وزمانه.

وعلى الرغم من وجاهة النتائج التي توصل إليها "بلاثيوس" فإن بعض كتاب أوروبا انتقدوا نتائجه بشدة، وثمة فئة منهم وقفت إلى جانبه، وظهرت كتب ودراسات ومقالات تؤيده، ولعل أهم كتاب ظهر في هذا المجال للمستشرق الإيطالي "انريكو تشيروللي" نشرته مكتبة الرسل في الفاتيكان عام 1949، قدم فيه الدليل القاطع على صحة آراء "بلاثيوس" حيث ثبت بين دفتي كتابه الترجمة اللاتينية والفرنسية القديمة والإيطاليه لرسالة الغفران التي تمت قبل ميلاد دانتي، واطلع عليها في كبره وتمكن من  الاعتماد عليها في تأليف "الكوميديا اللآلهية".

هذا مثال عن مستعرب إسباني، وهناك مئات من المستعربين الإسبان لهم انجازاتهم المهمة في مجال نشر وحفظ التراث العربي،والدفاع عن القضايا العربية،ولكي أعطي الموضوع حقه من التعريف، بدأت ظاهرة الاستعراب الإسباني في القرن الثاني عشر، ومنذ ذلك الوقت قدمت  مجموعة متميزة من المستعربين الإسبان خدمات جليلة للتراث العربي في مجالات الفكر والأدب والعلوم تجميعا وتحقيقًا ودراسة وترجمة ونشرًا، وبخاصة التراث العربي في الأندلس المتعلق بالحقبة التاريخية التي كانت مزدهرة علميًا وثقافيًا، وظهرت فيها أفكار ابن رشد التنويرية التي يعتبرها الغرب تمهيدًا للعلمانية الحديثة.

الاستعراب الاسباني في مجمل انجازاته ومضامينه متصل بالتراث العربي، بما في ذلك التراث العربي الأندلسي، ولعل أفضل من عبر عن هذا الجانب المستعرب الأندلسي "أدولف رييس" في عبارة مؤداها: " ما يهمنا نحن الإسبان قبل كل شيء من التراث العربي الأندلسي هو حيويته واستمراره في عاداتنا الأكثر حميمية، إنه ليس مجرد موضوع علمي،إنه مظهر من مظاهر العنصر العربي المتواجد دومًا فينا، يطفو كما الذكرى الحميمة."

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب