شُميم الشاعر وياقوت المستمع.. مؤلم لكن واقعي
ناجي ظاهر
يروي ياقوت الحموي/ أو الرومي في مُعجمه، حكاية طريفة عن الشاعر المنشد والمستمع المنفعل، مفاد هذه الحكاية/ الطرفة المُعبّرة، أنه – ياقوت-، دخل على الشاعر العراقي شُميم الحليّ، فأنشده قوله في الخمر:
خفقت لنا شمسان من لألائها في الخافقين
في ليلة بدا السرو ر بها يطالبنا بدين
ومضى طليق الراح مَن قد كان مغلول اليدين
يقول ياقوت إنه قال لشميم: أحسنت! فغضب الشاعر وقال: ويحك. ما عندك غير الاستحسان؟ فقلت: فما أصنع؟ قال: هكذا. ثم قام يرقص ويصفّق*.
تحمل هذه الحكاية/ الطُرفة في طياتها عبرة وموعظة خالدة، حول من يُنشد الشعر أو يقرأ النص الادبي، وحول ما يقوله معقبًا عليه مَن يستمع إليه، فماذا يتوقع مَن يقرأ لك قصيدة أو قصة أو أي نص أدبي قام بكتابته؟. هل يريد أن يستأنس برأيك، كما يقول لسانه؟ أم يريدك ألا تكتفي بقول أحسنت، لتقوم تصفق وترقص.. كما يخفق قلبه.. ؟، الاجابة على هكذا سؤال ليس سهلًا، ذلك أن لكل مبدع من ناحية ومستمع من ناحية اخرى.. خصوصيته ومفاهيمه، فمنهم قد يريد هذا ومنهم من يريد ذاك، هذا من الناحية النظرية أما من الناحية التطبيقية القائمة على التجربة والمعاينة فإن الامر قد يقدّم أجوبة عامّة ومعبّرة.
في تفصيل هذا أورد ما ذكره الكاتب الروائي السوري المبدع حنا مينة، عن تلك القارئة المعجبة به وبكتاباته، عندما طلبت منه أن يقرأ رواية قامت بكتابتها، فاستجاب لها، وعندما أخبرها أن ما كتبته خال من القيمة الادبية ولا رواية فيه كما اعتقدت، انفجرت في البكاء، ما جعله يعاهد نفسه على ألا يقرأ أو يستمع لما كتبه آخرون، منعًا لتكرار الموقف المؤسف.
في هذا السياق، قرأت رواية لكاتب يهودي ترجمت إلى الانجليزية أو كتبت بها، وعرفت عالميًا ما دفع سلسلة "ابداعات عالمية" الدورية التي تصدر في دولة الكويت، إلى تقبل ترجمتها المقترحة عليها، وطباعتها ضمن سلسلتها الرائعة والمثقِفة في الآن. مفاد هذه الرواية أن هناك كاتبة قامت بكتابة نص أدبي، وحاولت عرضه عليه لقراءته وإعطائها رأيه فيه، كونها اطلعت على كتاباته وأعجبت به، فما كان من الكاتب إلا أن رفض، ربّما لعلمه بما سيحدث بعد قراءته الكتابة المقترحة. فراحت تطارده من مكان إلى آخر، ضمن محاولة دائبة لأخذ رأيه، إلا أنه تابع رفضه، وحتى حينما لحقت به مطاردة إياه أثناء تنقلاته من فندق اوروبا إلى آخر، لم يتردد في أن يتحوّل إلى كاتب أديب مطارد على أن يقرأ لها ويدلي برأيه فيما كتبته وأرادت أن تأخذ رأيه فيه!!
في السياق ذاته، نقول إن الكاتب الامريكي ذائع السمعة والصيت، ارنست همنجواي، صاحب "الشيخ والبحر"، تحوّل في الخمسينيات إلى هدف للعشرات من هواة كتابته والكتابة الروائية عامة، وبرزت مما يروى عنه وعمن أرادوا أخذ رأيه في هذه الكتابة الخاصة بهم أو تلك، حكاية أشبه ما تكون بطُرفة، مفادها أن كاتبًا شابًا مُعجبًا به وبكتابته، جاء إليه ذات يوم بقصة قام بكتابتها وطلب رأيه فيها. قرأ همنجواي القصة، وراح يهز راسه ويبتسم. صاحب القصة اعتقد أنه أعجب بقصته، فأرسل إليه ابتسامة عميقة وسأله عن رأيه، فما كان من همنجواي إلا أن واصل ابتسامته وهو يقول له، ما مفاده إن هذه القصة تشبه ما أنتجته من أعمال سردية تمام الشبه، بل إنني لا اتردّد في وضع اسمي عليها، لكن أريد أن اسألك، هل تعتقد أن العالم (الادبي)، يتسع لأكثر من نسخة من شخصيتي؟... لا نعرف بماذا أجابه ذلك الشاب، إلا أننا نتوقع أنه أصيب بخيبة أمل.. وربّما لعن الساعة التي جاء فيها إلى كاتبه المحبوب ليأخذ رأيه في قصته.
الحكايات في هذا المجال كثيرة، وربّما يكون لدى الكثيرين من الاخوة القراء ما يمكن يرووه من قصص مشابهة تدور بين كاتب أنتج قطعة أدبية وقارئ استمع إليها منه. ناهيك عن أن الكتاب، عادة ما يقدمون كتاباتهم لآخرين خاصة من إخوانهم الكتّاب، وحتى من قرائهم، ليأخذوا رأيهم فيها. فماذا يتوقّع هؤلاء أن يقول من يقرأون عليه؟.. في العودة إلى ما رواه ياقوت عن شُميم الحليّ.. نحاول الاجابة.. إنهم لا يريدونك أن تقول أحسنت وحسب.. وإنما يريدونك أن تصفّق وترقص.. وهو ما يستعصي في كثير من الاحيان على الفعل.. كما ورد آنفًا.. قولًا وإيحاءً.
*كتاب "الغصون اليانعة- في محاسن شعراء المائة السابعة"، تأليف ابن سعيد ابي الحسن علي بن موسى الاندلسي. تحقيق ابراهيم الأبياري. صدر عن دار المعارف المصرية. ضمن السلسلة الادبية المشهورة" ذخائر العرب". الطبعة الاولى صدرت عام 1945. الطبعة المعتمدة هنا هي الرابعة.
إضافة تعقيب