news-details

في ذكرى رحيله الأربعين الشاعر معين بسيسو: ابن حي الشجاعية ينهض من بين الأنقاض ويقول: كل ما حولي حريق ورماد فانهضوا من بين الرماد | مفيد صيداوي

في الثالث والعشرين من كانون الثّاني 1984م رحل الشاعر الفلسطيني الكبير والمناضل معين بسيسو، في الثالث والعشرين من هذا الشهر كانون الثاني 2024م، يكون قد مضى على رحيله .. على بقائه في غزة بين أهله وبيننا أربعون عاما.

       كانت أشعاره تهز الكيان العربي من النيل إلى الفرات ومن عمّان إلى تطوان، صدرت من غزة هاشم لتعطي الشعوب العربية الأمل بغدٍ مُشرِقٍ عزيز، لم يكن معين بسيسو شاعرا فحسب، بل كان مناضلا فعليا في ساحات النضال في المظاهرات في غزة هاشم ضد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م (بريطانيا فرنسا وإسرائيل)، وفي السجون المصرية حتى في زمن الثورة التي رأى بها أداة هامة للوحدة العربية وضد الاستعمار البريطاني والفرنسي والعدوان الإسرائيلي. 

     معين بسيسو ابن حيّ الشجاعية في غزة، من هناك انطلقت ثوريته وقيادته لأبناء الحي ضد الظلم كل ظلم وقع على الحي من ذوي القربى ومن الأجانب، سُجن من أجل أبناء غزة وبناتها ليعيشوا بكرامة وطنية ووحدة وطنية، تعذب من أجل فلسطين ومن أجل قيمه الأممية، قال أجمل الأشعار وسجل بأحرف من نور سيرته الذاتية ونضاله ونضال غزة. 

     هل هو الآن بعد أربعين عاما على وفاته عاد لحي الشجاعية لغزة ليرى الدمار والنار التي تحرق إخوانه وجيرانه، هل ليرى البطولات لشهداء جدد دفاعا عن الوطن، هل ليرى الذين هتف لهم في قصيدة المعركة، وليكرر النداء لهم: 

" أنا إن سقطتُّ فخذ مكاني يا رفيقي في الكفاح

واحمل سلاحي لا يخفك دمي يسيلُ من السلاح

وانظر إلى شفتيَّ أطبقتا على هوج الرياح.

وانظر إلى عينيَّ أُغمضتا على نور الصّباح

أنا لم أمت! أنا لم أزل أدعوك من خلف الجراح (1) 

إنني أراه يتجول بين قذائف غزة، يتفقد بيته المدمر، يتفقد مدرسته التي أطبقت القنابل على ساكنيها، الذين أتوها من أرجاء غزة ليحتموا في دار العلم التي يجب أن تكون محرَّمة على القصف وعلى العدوان، ويحاول بكل قواه أن يعطي أبناء حيِّهِ ومدينته العون المعنوي ويتوجه كما يتوجه الآن الطفل الفلسطيني الذي أصيب بالقنابل والرصاص ، بقوة إرادة لا تنحني رغم الألم والجوع والإهانات وكأنه يستعيدُ كلمات معين : 

أنا لا أخاف من السلاسل فاربطوني بالسلاسل

من عاش في أرض الزلازل لا يخافُ من الزلازل

لمن المشانق تنصبون لمن تشدون المقاصل

لن تطفئوا مهما نفختم في الدُّجى هذي المشاعل

الشَّعبُ أوقدها وسارَ بها قوافِلَ في قوافل (2).

وينظر لشعبه العملاق الذي يلاقي اليوم ولاقى بالأمس ما لاقاه معين نفسه، ولكنه مقتنع بالنصر وبفجر جديد مهما كان الظلام حالكا: 

إنَّ شعبي العملاقَ في القمقم مثلي وفوقه الليل بحر

ويعاني الذي أعاني وهل يفرح نسر وفي السلاسل نِسرُ!

وهو لا بد حاطمٌ قيدَهُ الأسودَ يوماً والنَّصرُ يتلوهُ نَصرُ

فإذا الصرخة الكبيرة تدويّ وإذا العالم المقيدُ حُرُّ (3).

أرى معين يمر بين الجثث فهذا جاره لم يعرفه بسبب التشويه من ضربات القنابل والغاز، وتلك طالبته النجيبة التي كبرت وأصبحت أما أصيلة بقي من ذكرياتها حطتها الفلسطينية الغزاوية، ويمر بين البيوت هذه بقايا بيت أبي محمود وتلك بقايا بيت الجار إلياس وهذا جامع مهدوم وتلكم كنيسة تئن من الجروح ... آه ياغزة الإخاء ... يصيح معين ... ويحاول تذكيرهم بقصائده المليئة بالأمل رغم شدة الألم: 

أخي في الكفاح أخي في العذاب          أتسمعُ مثلي عواء الذئاب

تُفَزِّعُ أطفالنا النائمينَ وتنذرُ             أحلامهم بالخراب

ويفتحُ أعينهم في الظلام دويُّ الرصاص ولمع الحراب

وتخنق صرخاتهم كالنجوم إذا خنقتها حبالُ السَّحاب

ولكنّهُ سوفَ يأتي الصّباحُ ويَكسِرُ أبواب هذا الضَّباب (4)

   معين بسيسو شاعر الثورة والمقاومة والثورة، شاعر ألألم والأمل في ذكرى وفاته الأربعين روحه ترفرف فوق غزة ودير البلح ورفح وشاطئ غزة وجباليا وغيرها من الأماكن التي عرفها في حياته حجرا حجرا وطينة طينة وذرة تراب ذرة... أحبها ملاعب صبا ومعلما وقائدا مناضلا ضد كل مظاهر الظلم الذي تعرض له قطاع غزة.

     وكأن معين بسيسو ينادي زميله في النضال الذي ربط شريانه بين حيفا وغزة أحمد دحبور، الذي شاءت الأقدار أن يزور حيفا ويستنشق هواءها بعد غياب طال ومرارة غياب مرة مثل العلقم، ولكن صوته ما زال يصدح: 

" ويوم كبرتُ لم أصفح

حلفتُ بنومة الشهداء

بالجرح المشعشع فيَّ

لن أصفح

لأن الكف سوف تلاطم المخرز

ولن تعجز

ألا لا يجهلن أحدٌ علينا بعد

إن الكف لن تعجز (5).

في غزة القصيدة طائر يعطي الأمل، القصيدة تقاتل الظلام.. وتضيئ الطريق في زحام بين الظلام والنور ظلام القتل للطفل والصبية والشاب والشايب، وبين نور الحياة والإصرار على الحياة والبقاء في وطن الآباء والأجداد الذين علموا أبناءهم: أن "لا شيء يعدل الوطن" (6). 

أتصور معين بسيسو يبقى محلقا فوق غزة هاشم روحه تتنقل بين موقع وموقع ينشد أشعار البقاء والأمل أشعار الصمود والنهوض ... يمد أهله بروح التحدي التي زرعها وما زال شعره ينبض بها، وهي أبدا لن تخيب ظنه فهذه غزة العزة على مر الأجيال.

إشارات:

  1. معين بسيسو (2008م)، الأعمال الشعرية الكاملة، دار العودة، بيروت ص41. 

  2. هناك: قصيدة تحدي ص45. 

  3. هناك" ص47. 

  4. هناك: ص52.

  5. بيت الشعر لأحمد دحبور. 

  6. من قصيدة جميلة للشاعر أحمد شوقي بعنوان الوطن – أنظر الشوقيات ص190.

(عرعرة – المثلث).

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب