news-details

مَخَاضُ عُمْر | آية مطر

اِستفاقَتْ يارا مع اِستِفاقَةِ الشَّمْسِ وَبروزها مِنْ صَدْرِ الْجَبَلِ الَّذِي يطلُّ مِنْ نافِذَةِ بيتِ جَدَّتِهَا تنقِيبًا عَنْ يَوْمٍ لا يُشْبِهُ سَابِقَهُ، لعلَّهَا تراهُ مُنسَدِلًا على سُفوحِ عنانِ السَّماءِ، أوْ فِي الرُّكنِ هناكَ، حيثُ كانَ رحمُ البيتِ الْمَرْخِيِّ على سريرٍ طِبِّيٍّ فِي إحدَى زوايا غرفَة الجُلوسِ.

بِهدوءٍ اِستَهَلَّ الْبُنُّ عينيهَا يومَها، وَبِجفونٍ ذابِلَةٍ واجَهَتْ شُعاعًا هَرَبَ مِنْ شَمْسٍ اِستوَتْ فَسَوَّتْ نهارًا خاضِعًا لِسَناهَا، ثُمَّ حَرَّكَهَا جسدُها بِتَرَيُّثٍ مِنْ تحتِ بطّانِيَّتِهَا السَّمِيكَة، فالصَّباحُ سُلطانُ هذا الْمنزِلِ وهُوَ يُلْزِمُ غُرْفَةَ النَّومِ أنْ تتحوَّلَ إلى غرفَةِ مَجْلِسٍ إثْرَ غرقِ الْقَمَرِ في عُرْضِ الْمُحِيطِ وَمع كُلِّ شُروقٍ جَدِيدٍ، بِحُكمِ مساحَة ذاكَ الْمسكَن غير الْواسِعَة.

شَرَعَتْ يَوْمَهَا بقراءَةِ مقالٍ إلْزامِيٍّ كانَ يتربَّعُ على شاشَةِ الحاسوبِ معلِنًا احتلالَهُ لَهَا، مُتِيحًا لاكتظاظ حروفِهِ إشهارَ بهجَة انتصارها على الْجَهْلِ، ودَسَّتْ بينَ الْفينةِ وَالْأُخرَى بعضًا مِنْ رِوَايَةٍ، قبلَ أنْ تعلو أصواتُ خُطى كانت تقتَرِبُ إليهَا بِصَرامَةٍ مِنَ الْغُرفَةِ الْمُجاوِرَةِ، ومَنْ تكونُ سِوَى ضربات قدمي الْعَمَّة عزيزَة الَّتِي تبنّاهَا السَّرِيرُ الْمُنبَسِطُ في تلكَ الْحُجرةِ، لم تبلَثْ هُنَيهَات بعدَ أنْ رأتْ عمَّتها مستمِّرَةً أمامَها، بحجاب مستلقٍ على كتفيهَا وَبعض مِنْ ظَهْرِهَا، شَعر أسود يمزِّقُ صفاءه بياضًا قَدْ سَبَقَ وَأعلَنَ حربَهُ على ترتيبِهِ، وَثَوْب فضفاض أسوَد مزخرَف برموزٍ عِدَّةٍ، وَبِصَوتٍ قَدْ كَشَّرَ عَنْ نابِهِ:

  • "مِنْ وينتا فايقة؟"

ردَّتْ بابتسامَةٍ يكادُ يمحوها الْقلقُ:

  • "مِنْ كم ساعَة، فقت أدرس عامتح..."

  • "العريس مش رح يسألك شو درستِ، قومي نضفي الأرض".

حنَتِ الْأوراقُ ظهرَها بعدَ أنْ سنحَتْ لها راحَتَا يارا بذلِكَ.

  • "تقوميش إذا حابّة تروحي عالبيت مثل مبارح".

لَمْ تُلزِمهَا الكلماتُ كما انتَشَلتهَا نظراتُ الْعمَّة الْمصحوبَة بابتسامَةٍ طفيفَةٍ لتعانِق أناملها الْمكنسةَ قبلَ أنْ ترتَطِمَ بالْمُلَمِّعِ الزُّجاجِي.

عقارِبُ السَّاعَةِ كأطفالِ الْحَيِّ، يلعبونَ محاوِلينَ الإمساكَ ببعضهِمُ الْبعض دونَ كَلَلٍ، وفي تمامِ السَّاعَة الحَادِيَةَ عشرة أعلَنَ أحدُ الْعقارِبِ فوزَهُ على أترابِهِ ليصرُخَ المنبِّهُ محاكاة لِجلجَلَةِ معدَة الْجدَّة فِردَوس طالِبَةً الاِمتِلاءَ.

استجابَتْ يارا لهذا النِّداءِ كعادَتِهَا وهمَّتْ لتعدَّ الطَّعامَ، فَآضَ الْمطبَخُ يَعُجُّ بالرَّوائِحِ الزَّكِيَّةِ كما الْأغانِي الْمُلتَحِفَة بالتَّبَخْتُرِ.

  • "يارا انتبهي، لازم تكون كلّ لقمة صغيرة وملانة سوائِل، مِثل ما شرحلك الدّكتور بالضّبط".

وعلى مائِدَةِ الْجَدَّة كانتْ تَغرقُ قاطِبَةٌ مِنَ الْمُسَكِّنَاتِ مع كُلِّ لقمَةٍ تنقلها الْملعقَة، وعلى حينِ غرّة، باتَ الْجميعُ منتظِرًا بفارِغِ الصَّبرِ، دموع يارا تتلوَّى ألمًا وَعيناها تتبرَّمُ حزنًا، حتّى أنَّ يداها باتت تتمرَّدُ فتفعَلُ ما يحلو لها، تهتَزُّ متراقِصَةً وسطَ ساحةِ الْجَرِيمَةِ، بينما كانَ الطَّعامُ يبكي وَالْهواءُ يصرخ في حُنجرَةِ الْجَدَّة متشَبِّثًا بِالْحُرِّيَّةِ، تمامًا كما كانتْ هِيَ تتشَبَّثُ بِالْحياةِ.

مرَّتْ لحظات دهشَة قليلَة قبلَ أنْ تأتِي الْعمّة، وما ان رأت مشهدَ اختناق ينهَشُ أرجاءَ تعابير وجهيهِمَا حتّى باتَتْ تقترِبُ راكِضَةً مِنَ الْخارِجِ بِلِسانٍ يجهشُ ببكاءٍ منتقِصٍ للدُّموعِ وَعيون تكادُ تَصِلُ قبلَها إلَى غرفَةِ الْجُلوسِ:

  • "شوعم بصير؟ ليش ما ناديتيني؟ لو صار عليها اشي شو الناس بدها تقول؟ كانت بنتها مش معها وهي تموت؟"

أَخْرَسَ الْمَوْقِفُ كلماتِ يارا ولم يَتَّسِع ثمان وَعشرونَ حرفًا أبتثِيًّا لتعبيرِهَا عن دهشَتِهَا مِنَ الْعمّةِ.

عَيْنَا الْجَدَّة اِخترقَتْ حدَّهَا الْمَسموح لتطلّ مِنْ نَافِذَةِ الْجُفونِ غزيرَة الْعروقِ عارِيَة الْأنفاس، وَلون أزرَق قَرَّرَ إغارَةَ جسدِهَا مبتَدِئًا بِفَمِهَا، وَعَوِيلُ الْعمّةِ لا يترك حدَثًا إلَّا وَاِصطحَبَهُ بِكلماتٍ تُهَيِّئُ فيها آذانَ الْجِيرانِ وَالْمارَّة لِحُضورِ عزاءٍ كانَت قَدْ شرعَتْ مراسِيمُهُ فِي مخيِّلَتِهَا وباستِحضارِ الدُّمُوعِ

"كنت أحبّها...".

وبابتِسامَةٍ صَفراء وَعيون ترقَبُ ردّ فعلِ الْحَفِيدَة

"خَنقتها حفيدتها ’المفضّلة’".

اِستدارَتْ يدا يارا حولَ خاصِرَةِ العمّةِ مصطحِبَةً إيَّاهَا للخارِجِ لتخفيفِ توتّرِ الْجَدَّة الَّتِي باتَتْ أنفاسُها تجهَشُ على أطلالِ الْهواءِ، وَبِحركَةٍ معجّلةٍ وغير مُخَطَّطَة اِقتحمَ اصبعيهَا فَمَ الْجَدَّةِ لينعيا أسرَ لقمَةٍ اِحْتُلَّتْ قبلَ ثوانٍ معدوداتٍ.

الزّرقَة هربَتْ مِنْ أرجاءِ طلَّتِهَا، واختَفَتِ الْأطلالُ لِيُعانِق الْهواءُ أنفاسها بِشَراسَةٍ بعدَ فراقٍ لَمْ يَدُمْ لأكثَرِ مِنْ دَقِيقَةٍ.

  • "أنا هون، أنا ممتّش"، تحرّكَ لِسَانُ الْجَدَّةِ بِفُتورٍ.

  • "انت هون ستّي، ليش تحكي هيك!" 

ابتسامة ترافقها دمعة كانت أسِيرَةَ عينِ يارا أوساط اللّحظاتِ الْقليلَة الفائِتَة أثناء تكبيلِ كفّ الْجدَّةِ لرجفةٍ اختلسَتْ يديها، وقَبْضُ خدٍّ لم يقوَ على تحمّل رِقَّةَ الْمَوقِفِ ليعلِن احمرارَهُ كانت مهمّةُ كفّها الآخَرَ.

"ما أجملك، دخيل هالعيون الحلوين"، هتفَتِ الْجَدَّةُ بِتَلَكُّؤٍ.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب