news-details

"سيادة الرئيس" نافذة أمل في ظل سوداوية يعيشها العالم | د. جهينة عمر الخطيب

في ظل حرب على عدة مستويات، سواء الحرب الحاصلة فعليًا أم حربنا ضد آفة العنف، فهي الحرب الأكثر شراسة، لأن الحرب بمفهومها الحقيقي مهما امتدت في النهاية إلى زوال، أما حربنا ضد العنف والقتل فهي حرب أزليّة كما يبدو! وفي ظل هذه الظروف السوداوية القائمة يأتينا شعاع نور في آخر النفق فيقدّم لنا مسرح مؤسسة الأفق العرض الاحتفالي لمسرحية سيادة الرئيس.

المسرحية سابقًا كانت بعنوان "بموت إذا بموت" وكانت من إخراج الفنان رياض خطيب وجاءت بعد سنوات بحلتها الجديدة وعنوان جديد "سيادة الرئيس" وإخراج الفنان منير بكري.

في ظل ظروف الحرب وقبلها الكورونا تفاقمت مشكلة المسرح والكتابة المسرحية، وما زالت معاناة المسرحيين الفلسطينيين مستمرة والتي أشرت إليها في كتابي "الراقصون وسط السلاسل، مسرحيون فلسطينيون قابضون على جمر" وذكرت في دراستي النقديّة للمسرح الفلسطيني أن التأليف المسرحي شحيح، فيضطر الفنان المسرحي ليكون مؤلفًا وممثلًا وفي كثير من الأحيان مخرجًاـ لتظل هناك بارقة أمل في أشخاص عشقوا المسرح ورأوا فيه رسالتهم، وكيف لا وهو أبو الفنون، وليس غريبًا على الفنان عفيف شليوط هذه العشق المتربع على عرش قلبه، وقد كتبت عنه دراسات نقدية أكاديمية عديدة حول السخرية في مسرحه والكوميديا السوداء ومسرحه السياسي، ومسرح الأطفال، فهو متنوع وغنيّ الألوان يفاجئك في كلّ مرّة بأسلوب جديد مختلف.

وتصلني دعوة هذه المرّة لحضور العرض الاحتفالي لمسرحية سيادة الرئيس تأليف وتمثيل الفنان عفيف شليوط، فأن يكون الممثل هو مؤلف العمل فهذا يؤكد مباشرة أنه يمثل قضية تهمّه. ويشاركه بطولة العمل الفنان أمجد بدر.

وبحوار ساخر سيطرت عليه الكوميديا السوداء، يلعب الفنان عفيف شليوط دور رئيس دكتاتوري ظالم وطاغيّة ممثلًا عددا كبيرًا من قادة العالم الذين مروا على مرّ التاريخ وما زالوا!

غلبهم جنون العظمة فيظنون أن الله خلق بقية البشر لخدمتهم فيحق لهم استعبادهم وأنّهم خالدون" بموت إذا بموت" وهذه جملة جاءت على لسان الرئيس، فيرتعب من مجرد التفكير أن كل جبروتهم إلى زوال!: "الرئيس: (بهستيريا) أنا مش إنسان. أنا خالد. مش راح أموت. مش راح أموت. فاهم؟! أنا راح أعيش للأبد.. للأبد".

وتكمن الكوميديا السوداء حين يفكر الطاغية باستنساخ نفسه:

"اخواني، لقد توصلت الى اختراع عبقري. سأقوم بعد عدة لحظات بطبع عدة نسخ عن سيادة الرئيس، وسأطبع فيما بعد نسخًا أخرى وأخرى، لنملأ الدنيا بسيادة الرئيس (بانفعال) كلنا الرئيس والرئيس كلنا."

وهذا إيحاء بأن الدكتاتورية لن تنتهي ما دامت هناك حياة، فسنجد ظلم السلطة في كل زمان وكل مكان كما قال سميح القاسم في مقدمة مسرحيته الشعريّة: قراقاش "فالظالم عندما لا يجد من يردعه سيمتد في ظلمه وكما قال الله عزّ وجل ويمدّهم في طغيانهم يعمهون".

وأشقاؤنا في مصر قالوا مثلًا شعبيًا "يا فرعون إيه فرعنك قال ملقتش حدّ يلمّني".

وعندما يشعرون بالملل يرغبون بأن يصبحوا وطنيين من باب التغيير. وهنا تمكن قمة السخرية والمفارقة. فالانتقال من سيادة الرئيس إلى وطني انتقال جذري وهو إيحاء من أن البعض -وهنا لا نعمم -قد اتخذ من الوطنية ستارًا، فأصبحت وطنية على ورق.

وظهرت الكوميديا السوداء عن كثب حين سأل الرئيس عن كيفية حصوله على لقب وطني، فكانت الإجابة بأنه يجب عليه أن يقوم بالاستحمام ليتطهر من كل أفعاله وجرائمه التي ارتكبها أثناء توليه منصب الرئاسة:

الرئيس: عمبقولك جاي على بالي أصير وطني.

الشاب: آه وماله، ما هي موضة هالأيام، كله بدو يصير وطني.. بس فكرك الناس رايحين يصدقوك؟

الرئيس: وليه ما يصدقوني؟!

الشاب: لأنك عمرك ما كنت وطني. بل على العكس سجونك ملانة بالوطنيين والمناضلين.

الرئيس: (غاضبا) هدول مش وطنيين، هدول مفكرين حالهم وطنيين، أو الناس خلوهم يفكروا حالهم وطنيين. إن من يخون الرئيس يخون الوطن، أنا الوطن والوطن أنا.

الشاب: ما دامك مصمم تصير وطني، فلا بد من حمام وطني من كعب الدست، وبهذه الطريقة منظفك من الماضي وأيام الماضي.

الرئيس: إذا؟!
الشاب: الى الحمام.

- تنبعث موسيقى مرافقة للمشهد، يُحضر الشاب طشت ماء على طاولة مع عجلات –

- يقرب الشاب الرئيس منه، يُخرج من الطشت طاسة مياه ويسكبها على رأس الرئيس –

الشاب: نظفناك من عهد الامبريالية نظفناك.

الرئيس: يلعن أبو الامبريالية.

الشاب: (يعيد الحركة ذاتها) غسلناك من فترة الاستعمار.. غسلناك.

الرئيس: لا.. للاستعمار.

الشاب: (يعيد الحركة ذاتها) لحلحناك من العمالة لحلحناك.

الرئيس: تفو على العمالة.

الشاب: (متأملًا ومتفحصًا الرئيس) وإسا صرت وطني ابن وطني.. (يسحج) والحرية بدم الشباب، الحرية بدم الشباب. وردوا ورايا يا أحباب الحرية بدم الشباب. وحبيبكم مين؟

الرئيس: أنا.

الشاب: بتحبوا مين؟

الرئيس: أنا.

الشاب: ريسنا وطني.

الرئيس: يويا.

الشاب: وأمه وطنيه.

الرئيس: يويا.

الشاب: وسته وطنيه.

الرئيس: يويا

الشاب: وعمته وطنية.

الرئيس: يويا.

الشاب: وبسّته وطنيه.

الرئيس: يويا يويا يويا...خي ما أحلى الوطنية بعد العمالة، بتجوهر البدن.

 

/نقد الأنظمة العربية

بطريقة ساحرة تعبّر المسرحيّة عن استيائها من الموقف العربي ورد فعلهم على الظلم والقهر، بأن يكون جلّ ما يستطيعون فعله هو الاستنكار والتعبير عن الحزن: الرئيس: نحن نحيي هذا الشعب الصامد الجائع الباكي.

- الشاب ينتظر الرئيس لكي يتابع حديثه –
الرئيس: الصامد الجائع الباكي.

الشاب: ولكن ماذا فعل سيادتكم من أجل هذا الشعب؟

الرئيس: إننا لم نتوقف عن الصراخ ليل نهار، عقدنا 242 اجتماعا شعبيا، أقمنا 338 مظاهرة تضامنية، وأنا شخصيًا استنكرت الاعتداءات عليهم. إني أبكي ليل نهار هؤلاء الاطفال المحرومين من لعبة الأتاري، إنهم أطفال بلا طفولة، إنهم أطفال بلا طفولة (يجهش بالبكاء).

الشاب: يا سلام، الرئيس بعظمته وبلحمه وشحمه يبكي. الدموع تنهار من عينيه كشلالات نياغارا. عاطفة الرئيس الجياشة أقوى من أسلحة الدمار والقتل. إنه بدموعه قادر على تحرير كل المستعبدين على وجه الأرض.
أبدع الفنان عفيف شليوط كعادته في تقمص شخصية الرئيس، فكانت تعابير وجهه طيعة لأدائه، معبّرة عن مشاعره المختلفة من شعور بعظمة الأنا لخوفه من موته. وجاء الفنان الشاب أمجد بدر بتعبيرات رائعة من خلال لعبه لدور المواطن المنافق المداهن للرئيس ويغني على ليله رغم علمه بحقيقة الرئيس المزيفة فبرع بالأداء الحركي وبتعبيرات الوجه المناقضة لما يقول.

وجاءت جميع الأركان المسرحية متكاملة فكان تصميم الحركة والرقصات منسابًا مع الأحداث بفضل إبداع مصممة الحركة عدن عزام.

وغلبت حيوية الإيقاع الموسيقى التي تلاءمت مع مشاعر الرئيس المختلفة، من غرور وغطرسة وحتى الخوف والقلق، ونجح في تحقيق هذا الإبداع الموسيقي معين دانيال.

كذلك وظّفت الصورة البصريّة السينوغرافية وتنوعت حسب الأحداث بفضل المبدع أدهم درويش.

واتسم تصميم ملابس الممثلين بالذكاء بفضل المصممة المبدعة ليان فارس فقد ارتدى الرئيس برجله قبقابًا ولم يكن هذا عبثًا. فيرجع تاريخ القبقاب في مصر إلى العصر الفاطمي حيث كان متواجدًا بكثرة في المنازل والحمامات الشعبية لمنع الانزلاق وكان يُستخدم في الوضوء بالمساجد.

ارتبط القبقاب بالثقافة الشعبية المصرية وفي عصر المماليك كان السلاح الذي قتلت به شجرة الدر المرأة التي تهوى العرش والتي حكمت مصر 80 يوما وماتت ضربًا بالقباقيب.

وكأن القبقاب وظّف في المسرحية إيحاءً بأن نهاية كل ظالم وشيكة مهما تجبّر وتمادى في ظلمه.

 وجاء الديكور عميقًا ببساطته وإيحائه وبإبداع سمير حوا فاعتمد على كرسي الرئيس الذي يميزه قرنان أشبه بقرني الشيطان في الصورة المتخيلة له.  وكأنها رسالة أن شياطين الإنس قد يكونون أشد شرًا من إبليس ذاته.

وهذه الحلّة المتكاملة الأركان لم تكن لتنجح لولا وجود قائد للعمل، والذي لم يغفل عن أي تفصيل من هندسة صوت وإضاءة وديكور وتوجيه للفنانين وهو المخرج المبدع منير بكري ومساعدة المخرج ديانا درواشة.

أمّا عن الكتابة المسرحية وبعد قراءتي للنص المسرحي بتمعن، وجدت النقاط الآتية:

تمّ توظيف الإرشادات المسرحية بشكل رائع من وصف للمكان ومن تعابير وجه الشخصيات لترافقها خلفية موسيقية خادمة للمشاهد المختلفة:

المسرح خالٍ، تنبعث من الخارج موسيقى لمارش عسكري، يدحل الرئيس بخطوات كبيرة مبالغ فيها وكأنه يسير في استعراض عسكري رسمي يسير في أعقابه شاب يحمل حقيبة ويلتفت يمينا ويسارا وكأنه الحارس الشخصي للرئيس.

يقف الرئيس وقفة مواجهة للجمهور, فيتقدم تدريجيا باتجاه الجمهور. يرفع الرئيس يده ويضرب سلام تحية فيفعل ذات الشيء الشاب.

- تتوقف الموسيقى، ثم ينبعث صوت بقرة-

- ينظر الرئيس الى ساعته-

ـأمّا فيما يتعلّق بعنوان المسرحية فكنت أفضل العنوان الأول للنسخة الأولى للمسرحية "بموت إذا بموت" فهو عنوان موحٍ وليس كاشفًا بينما العنوان الجديد يكشف أكثر ممّا يحفي، فيكسر أفق توقّع المتلقي.

وكان الكاتب عفيف شليوط موفقًا في اختيار اللغة وتوظيف العامية والعاميّة المفصّحة لإضفاء واقعية ساعدته في توضيح المفارقة والسخرية والكوميديا السوداء التي تجعلنا نضحك وفي قلوبنا غصّة.

ولا يسعني في نهاية قراءتي أن أقول شكرا لصنّاع هذا العمل المسرحي الهادف الذي يوصل لنا رسالة بأن الفن المسرحي الفلسطيني ما زال بخير رغم كلّ الظروف والصعوبات المحيطة به.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب