*صفقة القرن ادخلت القيادة الفلسطينية في شرك لأنها تستند الى المنطق المشوه للتنسيق الامني مع اسرائيل. وهو التنسيق الذي تمسك به محمود عباس ورجاله خلال سنوات لصالح الطرفين*
التعريف المهين للسلطة الفلسطينية كمقاول فرعي لاجهزة الامن الإسرائيلية، انتهى. وحل محله تعريف "جارية أمنية لاسرائيل". هذا ما تريده الخطة المسماة على اسم دونالد ترامب مما يشبه الدولة الفلسطينية أن تكونه. صفقة القرن تضع القيادة في رام الله في شرك بالضبط في الفصول التي تتناول الأمن، بالذات لأنها ترتكز على منطق التنسيق الامني مع اسرائيل، والذي تمسك به كبار شخصيات السلطة الفلسطينية، وعلى رأسهم محمود عباس، خلال سنوات طويلة وبشكل علني.
وقد برروا ذلك باعتباره وسيلة حيوية من اجل التقدم نحو الدولة المستقلة، حسب التفسيرات الايجابية "الساذجة في البداية وعديمة الاساس بعد ذلك" التي اعطوها لاتفاقات اوسلو. وهذا التمسك هو الذي مكن القادة الكبار في فتح والمقربين منهم من التحول الى ثقافة الاستباحة (طبقة بيروقراطية حاكمة، تورث مكانتها المفضلة لأبنائها)، التي تعيش برفاهية، وفي حالات محددة بدرجة مدهشة – تحت رعاية الحذاء العسكري الاسرائيلي.
باستثناء التكتيك الدبلوماسي ونداءات الاستغاثة في مؤسسات الدول العربية والاسلامية، لا يوجد لهذه القيادة أي خطة متبلورة يمكنها سحبها الآن من الجارور من اجل مواجهة الأخطار الفورية بعيدة المدى لخطة ترامب. اجهزة الامن الفلسطينية تم تدريبها من اجل العمل ضد شعبها وليس من اجل الدفاع عنه من هجمات المستوطنين أو اقتحامات الجيش الليلية.
أيضا في مجتمع منغلق مثل المجتمع الفلسطيني يصعب الحصول على تفاصيل عن ماهية التنسيق الامني، لكن رغبة جهاز الامن الاسرائيلي في الحفاظ عليه، كما ورد في التقرير الاسبوعي لينيف كوفوفيتش، تدل على أهميته بالنسبة لاسرائيل.
هذه الطبقة المرفهة والتنسيق الامني مندمجان معا ويعتمدان أحدهما على الآخر. هذه النخبة اعتادت بشكل كبير على نمط حياتها الذي يصعب تخيل امكانية تخليها عنه. وحتى لو حاولت فعل ذلك فمن الصعب رؤية كيف ستتمكن من اعادة ثقة الجمهور بها، المهزوزة تماما، حتى لو أمر عباس الآن بوقف التنسيق الامني مع اسرائيل. وحتى هذا الامر مشكوك فيه. في الدوائر الامنية الاسرائيلية التي لها علاقة دائمة مع الفلسطينيين التقدير هو أنه لن يفعل ذلك.
اعادة ثقة الجمهور الفلسطيني بقيادته هي أمر ضروري من اجل استبدال القرص من التنسيق الأمني الى خطة من "العصيان المدني" غير المسلح (تشبه التي صاغها واقترحها قبل بضع سنوات قدورة فارس، عضو حركة فتح الذي ينتمي لقائمة مهمشي عباس). اعادة هذه الثقة ضرورية ايضا من اجل وقف هذيان الكفاح المسلح الذي ما زال يعتمل في تنظيمات مثل حماس والجهاد الاسلامي والجبهة الشعبية، وايضا في اوساط عدد غير قليل من مؤيدي فتح والشباب.
إن قيادة معنية بصد خطة ترامب ستضطر الى اقناع الجمهور بأنه من المحظور الخروج بنوع من الرد البافلوفي على هيئة سلسلة هجمات مسلحة ضد اسرائيليين، مسلحين أم غير مسلحين، وذلك لأن تجربة السنوات العشرين الاخيرة اثبتت بأن النشاطات المسلحة فقط يمكن أن تسهل على اسرائيل السيطرة الكولونيالية واضعاف الشعب المضطهد. ولكن بما أن الجمهور محبط ويائس ومتشكك بدوافع قادته الكبار، سيكون من الاسهل على اشخاص معدودين تفجير عبوة في نبع ينوي المستوطنون السيطرة عليه من أن ينظموا ويقودوا 20 ألف شخص يذهبون للتنزه في ايام الجمعة الى هذه الينابيع التي توجد في القرى الفلسطينية، وهي الينابيع التي سيطر عليها المستوطنون بمساعدة الادارة المدنية.
حتمية للاضطهاد الداخلي
كـ "جارية امنية" لاسرائيل فان خطة ترامب تأمر الكيان الفلسطيني العتيد ايضا بممارسة نمط حكم يقوم على القمع الديكتاتوري الداخلي المعروف في الدول العربية. في الملحق الامني المفصل جدا ورد أنه اثناء المفاوضات التي ستجري بين اسرائيل والفلسطينيين، "بالتشاور مع الولايات المتحدة سيحاول الطرفين ايجاد معايير أولية...
وفقا للمعايير الامنية المقبولة على دولة اسرائيل، وفي كل الحالات، ليست أقل شدة من المتبعة في المملكة الاردنية الهاشمية أو في جمهورية مصر العربية (الأشد من بينهما)". هم لا يضمنون الأمن مثلما يضمنون سلامة الطبقة المرفهة (ايضا طبقة حماس).
الرواية الاسرائيلية المخيبة للآمال ماثلة في كل سطر في الصفقة. عندما تصل الصفقة الى المريخ سيستنتج القراء هناك بأن اسرائيل هي دولة ضعيفة ومضطهدة، التي لحسن حظها تحظى بحماية الدولة العظمى الاكثر اخلاقية في العالم، في حين أن الفلسطينيين هم سبب ومصدر كل المشكلات (ايضا ايران)، وأنهم يحيكون المؤامرات الارهابية بدون سبب.
القارئ من المريخ سيستنتج أنه يوجد لدى الفلسطينيين سلاح كثير، متطور وخطير، الذي تقف أمامه اسرائيل وهي عارية. الخطة بالطبع لا تعترف بوجود "الاحتلال"، أو الخصائص الكولونيالية لدولة اسرائيل التي سلبت وطن الشعب الفلسطيني.
ليس فقط حلم نتنياهو
ولكن قائمة الطلبات الامنية من الفلسطينيين هي قائمة مريضة تبعث على الغثيان. وهي لا تعكس فقط حلم بنيامين نتنياهو اليميني. من الخطأ الساذج أو المتساذج رؤية تصريحات تأييد بني غانتس واهود باراك للخطة مجرد مناورة انتخابية. كما كتب في هذا الاسبوع باراك في "هآرتس"، "الخطة تتناول جميع احتياجات اسرائيل الامنية".
وهو مثل سلفه يتسحاق رابين ("بدون المحكمة العليا وبدون بيتسيلم")، عبر ايضا في السابق عن أمله/ توقعاته بأن القيادة الفلسطينية ستقوم بقمع شعبها من الداخل. تأييد غانتس وباراك هو تأييد أصيل: القائمة الامنية تعكس ما سعت اليه عدة أجيال من القيادات الامنية، التي اصبحت سياسية- مدنية.
رابين وشمعون بيرس لم يؤيدا استخدام الحق الفلسطيني في تقرير المصير، الى درجة دولة مستقلة. في الفقرة الثانية في خطة ترامب كتب "(رابين) طمح الى قدس موحدة تحت سيطرة اسرائيل، واجزاء الضفة الغربية التي فيها تجمعات يهودية كبيرة وغور الاردن، أن تكون مشمولة داخل اسرائيل، وباقي الضفة الغربية، بما في ذلك قطاع غزة، يكون فيها حكم ذاتي مدني فلسطيني.
وكما قال عدة مرات، أن تكون "أقل من دولة". إن حلم رابين كان هو القاعدة التي صادقت عليها الكنيست في اتفاقات اوسلو. وفي حينه لم ترفضه القيادة الفلسطينية". هنا من صاغ خطة ترامب يقول الحقيقة.
خلافا للاساطير، صيغة اتفاقات اوسلو في الحقيقة لم تنص على "دولة" كمحطة نهائية للمراحل التدريجية لتطبيقها. "الاحتلال" لم يذكر ايضا في وثائق "السلام" لبيرس ورابين. واكثر من ذلك، في الرسالة المهينة التي اجبر ياسر عرفات على كتابتها لرابين (9 ايلول 1993) تعهد بأن يتنازل الفلسطينيون عن استخدام "الارهاب واعمال العنف الاخرى" (التي تم تفسيرها كنضال شعبي للانتفاضة الاولى). وكأن مصدر المشكلة ليس في عنف السلاح والبيروقراطية لسلطة الاحتلال الاسرائيلي، بل في الرد الفلسطيني عليها. مقابل هذه الاهانة أعلن رابين بأن اسرائيل تعترف بـ م.ت.ف كممثلة للشعب الفلسطيني.
الاختلاف عن اليوم هو أنه في حينه قبل 27 سنة فان الكثيرين من مؤيدي حزب العمل ومؤيدي الحزب الشقيق ميرتس، اعترفوا بالوجود الخطير وغير الاخلاقي للاحتلال، وأيدوا اقامة دولة فلسطينية الى جانب اسرائيل. ومثل الفلسطينيين، هم أرادوا الايمان بـ "الديناميكية" الايجابية لاتفاقات اوسلو، وقاموا بتفسيرها كالسير نحو الدولة. خلال فترة طويلة جدا تجاهلوا الدلائل الكثيرة التي كانت متضمنة في الاتفاقات وعملية تطبيقها، التي كانت تصرخ بأن العكس هو الصحيح.
ذريعة أمنية
احد الدلائل كان وما زال غور الاردن. عدد الفلسطينيين الذين يعيشون في الغور (80 ألف نسمة، بما في ذلك مدينة أريحا) هو نفس العدد تقريبا الذي كان موجود فيه في 1967 بعد أن هرب أو هجر مئات الآلاف منه في حرب الايام الستة. أي أن خطوات اسرائيل الكثيرة التي اتخذت تقريبا من البداية، وبالهام خطة ألون، حققت هدفها ومنعت نمو السكان الفلسطينيين هناك مجددا.
لقد تم اتخاذها واستخدامها قبل اتفاقات اوسلو، وتم تطويرها بعدها ايضا: مناطق تدريب كبيرة، محميات طبيعية، منع الوصول الى الاراضي القريبة من نهر الاردن، سيطرة على مصادر المياه وتجفيف الينابيع التي استخدمها الفلسطينيون، ملاحقة الرعاة والمزارعين، اعدام القطعان ومصادرة الاغنام، منع البناء والربط بشبكات الكهرباء والمياه، هدم مستمر للمباني السكنية البسيطة والارتباط بالبنى التحتية البسيطة.
في السنوات الاخيرة اضيف الى ذلك عنف متزايد من قبل بؤر استيطانية لرعاة اسرائيليين، الذين بمساعدة الجيش الاسرائيلي يطردون الفلسطينيين من اراضيهم. لا يوجد كثيرين يمكنهم الصمود في وجه هذه الظروف القاسية. لذلك، مقارنة مع باقي اجزاء الضفة الغربية، تضاءل عدد الفلسطينيين الذين يعيشون في الغور.
الغور هو منطقة غنية بالمياه، والحفريات الاسرائيلية فيه توجه الجزء الاكبر من ضخ المياه في الغور الى المستوطنين ومزروعات التصدير المكثفة لهم، على حساب مياه الشرب للسكان الفلسطينيين ومزروعاتهم. ولكن رغم الحوافز المالية، فان الاسرائيليين ايضا لم يرغبوا في السكن في ظروف الحرارة القاسية في الغور وعددهم لم يرتفع. الذريعة الامنية لضم الغور تسمح بتحويل كميات كبيرة من المياه – التي تساوي تقريبا ثلث الكمية التي يستهلكها جميع الفلسطينيين في الضفة الغربية، الى اسرائيليين آخرين.
ورغم الشخص الذي على اسمه سميت صفقة القرن، إلا أنها خطة غبية. يوجد فيها جهل وتجاهل نموذجي للحقائق، يوجد فيها سيادية كولونيالية جديدة على "النمو"، الذي يشبه جدا في صياغته تقارير الفقر لوكالات التنمية الدولية، ويوجد فيها غير قليل من التحايل، مثلا، المقولات الموجودة فيها والتي تقول بأنه من الافضل للاردن والمنطقة أن تسيطر اسرائيل على الغور وتحافظ بهذا على المملكة من جهات معادية.
خطوط مستقيمة تم مدها بين خطة ترامب وبين اتفاقات اوسلو وتطبيقها المتحايل، التي أدت الى خلق جيوب فلسطينية في محيط مناطق ج، والتي حتى قبل ترامب تعهدت اسرائيل بأن يكون بينها "تواصل مواصلاتي". ولهذا السبب بالضبط سيكون من الخطأ اعتبار خطته كمساعدة اخرى من صديق لنتنياهو أو اعتبارها بأنها ستفشل. وبالضبط مثل اتفاقات اوسلو فان صفقة القرن يمكن أن تنجح بالضبط لأنها تتساوق مع المشروع الكولونيالي الاسرائيلي.
هآرتس- 31/1/2020
إضافة تعقيب