news-details

الحرب ضد كورونا: التجربة الصينية| بروفيسور يوري بينس

*هذا المقال كُتب في 15 سبمتمبر 2020 وأرسله الكاتب إلى "هآرتس" التي رفضت نشره، وتم تحديثه في 8 أكتوبر. وتنشره "الاتحاد" هنا مترجمًا بالتنسيق مع الكاتب*

 

أكتب هذه السطور من العاصمة الصينية بكين. من أجل العودة إلى منزلي، كان عليّ أن أمضي أسبوعين من الحجر الصحي الصارم في فندق في شنغهاي. فور هبوط الطائرة، خضع جميع الركاب - الصينيين والأجانب - لفحص كورونا حتى قبل المرور بمراقبة الجوازات. عند مغادرتنا المطار تم نقلنا جميعًا بسيارات خاصة لتوزعنا بين الفنادق. قبل انتهاء العزل بثلاثة أيام، أجرينا فحصًا ثانيًا. هذه الطريقة تسمح للسلطات الصينية يوميًا بتحديد ما بين 10 إلى 15 من حاملي فيروس الذين قدموا من الخارج وبعزلهم حتى نهاية العلاج. بالمناسبة هكذا تمكنت الصين من الحفاظ على أراضيها الشاسعة خالية من تفشي الوباء على المستوى الداخلي.

عادت الحياة في الصين - الدولة التي كانت أول من تلقت ضربة وباء كوفيد-19 - إلى طبيعتها، إلى حد كبير. الحدائق العامة والمطاعم ومراكز التسوق مزدحمة، وعاد الطلاب إلى الفصول الدراسية، ودور السينما مفتوحة (مع بعض القيود) وعاد المشجعون إلى ملاعب كرة القدم. يعمل الاقتصاد بكامل قوته، وحتى فروع الطيران والسياحة بدأت في التعافي بفضل السوق الداخلية الضخمة. في الأسبوع الأول من شهر أكتوبر ("الأسبوع الذهبي" للإجازة المركزة) زار اكثر من 600 مليون سائح المواقع السياحية المختلفة في جميع أنحاء البلاد - وهو رقم يقترب من حجم السياحة الداخلية في العام السابق. في أوائل عام 2020 ، تحدث العديد من الخبراء عن الانهيار الاقتصادي الوشيك للصين وعن نهاية "المعجزة الصينية". يبدو اليوم أن الصين ستكون الاقتصاد الوحيد الكبير في العالم الذي سيشهد نموًا هذا العام، حتى ولو بنسبة قليلة.

"الـندوب" التي تركها الوباء لا زالت واضحة للعيان في شوارع الصين. لم يتم بعد تفكيك الأسوار التي أقيمت حول الأحياء، كما لم يتم فتح بعض البوابات التي اغلقت خلال أيام الإغلاق العام. عند مدخل العديد من الأماكن، لا يزال المواطن مطالبًا بعرض "رمز الصحة" الأخضر على هاتفه المحمول، هذا على الرغم من أن أماكن أخرى تكتفي بقياس الحرارة بشكل روتيني. الدولة في حالة تأهب قصوى من تفشٍّ مستقبلي للوباء والذي من شبه المؤكد أن يحدث في مكان ما في البلاد حتى بعد عدة أشهر من الهدوء. تُظهر تجربة الصين، وكذلك تجربة بلدان أخرى (نيوزيلندا وفيتنام وأستراليا) أنه طالما لم يتم القضاء على الفيروس في جميع أنحاء العالم، فلا توجد فرصة لمنع ظهوره مرة أخرى داخل الدولة. ومع ذلك، فقد أثبتت الصين أن هذه التفشيات اللاحقة يمكن القضاء عليها بسهولة نسبية. الإغلاق الصارم لمناطق التفشي فور اكتشاف الحالة الأولى للعدوى الداخلية، وإجراء فحص شامل لجميع السكان (وأحيانًا فحصان أو حتى ثلاثة للكشف عن حاملي الفيروس بدون أعراض)، والعزل الفوري لجميع المصابين، يسمح للحياة بالعودة إلى طبيعتها في غضون أسابيع قليلة وحتى في غضون أيام قليلة. كما حدث في التفشي الأخير في محافظة "يون-نان" في سبتمبر.

كما نذكر، بدأت الصين في معالجة الوباء بـ"القدم اليسرى". ثلاثة أسابيع في أوائل شهر يناير من إنكار الوباء وإسكات المعلومات عنه وتأخير علاجه، كلّفت الدولة ثمناً باهظاً. منذ ذلك الحين، أثبتت الصين أنها فعالة بشكل غير عادي في علاج الفيروس. يكفي القول إنه منذ مايو لم يمُت أي مريض في الصين بسبب كورونا، ومنذ يوليو أصيب مواطنون معدودون فقط بالمرض داخل الدولة – وغالبيتهم الساحقة اكتُشفوا في المراحل المبكرة، حتى قبل ان تظهر العوارض وقبل أن ينقلوا العدوى الى محيطهم. كيف تم تحقيق ذلك؟ بالنسبة للكثيرين، حدث بواسطة نظام حازم، فرض تعليمات صارمة على السكان المنضبطين. ومع ذلك، فإن هذا النظرة تتجاهل  النقطة الاساسية: لم ينبع نجاح الصين من الضبط الصارم (وهو موجود بالتأكيد) بل بالأساس من تعبئة وتجنيد جميع الموارد الاجتماعية والإدارية والاقتصادية لمكافحة الفيروس.

كلمة "حرب" هي المفتاح في فهم ما جرى. كانت الصين أول دولة أعلنت التعامل مع الوباء على أنه "حرب شعبية" وتصرفت وفقًا لذلك. فقد أسست سلسلة قيادة موحدة لعب فيها "الجنرالات"، أي علماء الأوبئة، دورًا رئيسيًا. لقد حشدت الجماهير لمحاربة الوباء، وبما أن هذا كان سيتطلب استعادة ثقة الشعب في الحكومة، فقد تبنت منذ فبراير سياسة الشفافية الكاملة فيما يتعلق بالتفشيات الجديدة للفيروس والتكلفة البشرية. لقد صاغت استراتيجية وطنية تضمنت توجيه موارد هائلة إلى الطب (وعلى وجه الخصوص لمنظمة الفحوصات، بما في ذلك الفحوصات الأسبوعية الإلزامية لجميع العمال الذين قد يتعرضون للفيروس). بالإضافة الى ذلك وضعت سلم أولويات منطقي، يجب بموجبه القضاء على العدو (الفيروس) أولاً، وبعد ذلك فقط الانتقال إلى إعادة تأهيل الاقتصاد والمجتمع. حتى الآن أثبتت الطريقة نجاعتها الى حدّ بعيد -. حتى منتقدو النظام بقسوة من أصدقائي ومعارفي في الصين يعترفون بأن الحزب الشيوعي قد نجح هذه المرة حيث فشلت معظم الأنظمة في العالم.

هذا النجاح الصيني غير معروف حقًا للسياسيين والقادة أو لعامة الناس في معظم دول العالم. في يناير، أقنعت وسائل الإعلام الغربية (التي تصيغ الرأي العام في معظم دول العالم) نفسها بأن تفشي الوباء في الصين يعكس ضعفًا متأصلاً في النظام هناك. في فبراير، ركزت على اتهام الصين بانتهاك حقوق الإنسان بسبب الإغلاق العام. في الفترة من مارس إلى أبريل، مع اندلاع الوباء  في جميع أنحاء العالم، مقابل تحسن الوضع المضطرد في الصين، ألمحت وسائل الإعلام في كثير من الأحيان إلى أن الصين كانت تكذب وتزور البيانات المتعلقة بالمرض والوفيات. منذ مايو عندما لم يعد من الممكن الشك في نجاح الصين، اختارت وسائل الإعلام ببساطة تجاهلها. أضف إلى ذلك الهجوم والاتهامات المعادية للصين من قبل ترامب الذي كان يأمل بواسطة ذلك التستر على فشله الذريع في علاج الوباء. أضف إلى ذلك حالة الشلل الذاتي لمنظمة الصحة العالمية التي تخاف من اتهامات ترامب بأنها "مؤيد للصين". وهكذا نتج لدينا هذا الشكل القاتل للتعمية الذاتية الذي يمنع السياسيين حول العالم من تعلم أحد أكثر النماذج نجاحًا في التعامل مع الفيروس.

إن تجاهل نجاح الصين في مكافحة كورونا يعزز توجه اليأس في كثير من دول العالم التي اختار قادتها التعامل مع الوباء على أنه تهديد لا يمكن التعامل معه على الإطلاق قبل ظهور اللقاحات. على وجه الخصوص، يبدو أن المثال السيء للولايات المتحدة قد عزز التراخي العالمي في مواجهة الفيروس. في الولايات المتحدة نفسها، استعبدت الحرب ضد الوباء بالكامل النظام الانتخابي، والمواجهات المحتدمة بين السياسيين تجعل من الصعب صياغة أي استراتيجية. هذا بالإضافة إلى انعدام الثقة الشديد لدى قطاعات من السكان تجاه السلطات والعلماء وحتى تجاه نظام الرعاية الصحية، كل هذا أدى إلى نتيجة مروعة. إن عدد القتلى في الولايات المتحدة أعلى بمقدار 220 ضعفًا نسبة لحجم السكان مقارنة بالصين، ويبدو أن الإدارة الامريكية "تأقلمت" مع هذا الأمر. كما يعكس الوضع في معظم دول العالم - باستثناء دول شرق آسيا - عدم كفاءة السلطات.

لا شك لكاتب هذه السطور أن هناك عناصر في الثقافة السياسية الأمريكية - ولا سيما حرية تدفق المعلومات وحرية التعبير - تتفوق بشكل لا لبس فيه على الوضع في الصين. ومن المؤسف أنه في الوقت الفعلي تبين أن هذه الفضائل لا يمكنها تحصين المجتمع والدولة الأمريكية والدول الغربية بشكل عام، من فشل ذريع في مواجهة تحدي الفيروس. كل ما تبقى هو الأمل في أن يتعافى قادة العالم الغربي ويتذكروا أن الانتصار في الحرب على الفيروس أهم بما لا يقاس من العناوين الجيدة في الجرائد وحتى من النجاح في الانتخابات. والأكيد انه من الأفضل التعلم من التجربة الصينية - فأن تأتي متأخراً أفضل من ألا تأتي أبداً.

*الكاتب هو بروفسور في دائرة آسيا في الجامعة العبرية

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب