news-details

في الذكرى الحادية عشرة لغياب أبو خالد محمد البطراوي: يا أبا خالد: إلى أينَ يأخذُنا الموت!؟| نبيه القاسم

"سلامة رأسك" صباح اليوم توفي صديقنا ورفيقنا أبو خالد محمد البطراوي.

هكذا قال لي الصديق الكاتب يحيى يخلف عبر الهاتف ظهر يوم الأحد 13 آذار 2011.

ولم أعرف بماذا أجيب!؟

أبو خالد محمد البطراوي لم يعد بيننا.. يا خسارة.

 بعد ظهر يوم السبت الموافق 25 شباط 2011 اتصل أبو خالد بي ليقول إنّ قرارَ محكمة صدر يُلزمُه بتَرك المنزل الذي يسكنُه لصالح ورَثة صاحب البيت المُقيمين في السعودية، وسارعتُ لأتّصل بسميح القاسم ومحمد علي طه وحنا أبي حنا وأنطوان شلحت، وأصدرنا بيانا وقّعناه وزملاء لنا، نُطالبُ وزيرة الثقافة الفلسطينية والسلطة بتأمين البيت والمَسكن للمثقف الكبير أبي خالد. وشكرَنا أبو خالد وقال لي إنّ الوزيرة زارته في بيته، والقضية تُثيرُ اهتمام المثقفين في الضفة الغربية.

وظهر يوم 13 آذار 2011 يقول لي العزيز يحيى يخلف إنّ الموت خطف أبا خالد، وإنّ محمد البطراوي المثقف الكبير لم يعد بيننا.!! 

أبا خالد.. محمد البطراوي يا صديقي، كيف يأخذنا الموت إلى الماضي، ويشلحنا على ربوع الوطن؟!

عندما التقينا أوّل مرّة بُعَيْدَ حرب حزيران عام 1967 في مكاتب شركة الكهرباء العربية في شرقي القدس حيث كنتَ تعملُ مديرا لقسم الحسابات، وأنا كنتُ طالب سنة أولى في الجامعة العبرية في القدس، بادرتني سائلا بعد أنْ قدّمني إليك صديق لنا من آل الدجاني: ما هي أخبار سميح القاسم، ورحتَ تقصّ عليّ كيف اعتقدتَ أوّل ما قرأتَ أشعارَ سميح التي نشرَتها الصحفُ العربية قبل عام 1967 أنّه ابن المناضل سليم القاسم الذي عرفتَه وكنتَ رفيقَ دربه في عُصبة التحرّر الوطني.

كان لقاؤنا الأول قصيرا عابرا، ولكنّه كبيرَ الدلالة..

ومن اللقاء الثاني لم نفترق أبدا.

معك يا أبا خالد عبرتُ الوطن كلّه من خان يونس حتى نابلس، نُشارك في الأمسيات الأدبية ونُحيي المهرجانات الثقافية، ونُخطط لبناء وطن حضاريّ نحلمُ به.

كنتَ نافذتي على كلّ ساحات وشوارع ومراكز مدننا وبلداتنا العربية الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة، وأنت كنتَ مَن قدّمني وعرّفني على كل مُبدعي شعبنا الفلسطيني.

عزّت الغزاوي، عبد اللطيف عقل، حسين البرغوثي، خليل السواحري، زكي العيلة، وأميرة الشعراء فدوى طوقان. أسماء مبدعين لمعت في وطننا المحتل وفارقت الحياة مقهورة من ظلم الاحتلال ونكوص العرب، كانت تشع عطاء في أمسيات وندوات ومناسبات.

 جميل السلحوت، سامي الكيلاني، غريب عسقلاني، محمد أيوب، عبد الله تايه، محمد كمال جبر، فضل الريماوي، أكرم هنيّة، فوزي البكري، محمود شقير، عصام عناني، صبحي شحروري، عادل الأسطة، عبد الناصر صالح، المتوكل طه، أحمد حرب، إبراهيم العلم، أسعد الأسعد، جاك خزمو، خليل توما، جمال بنورة، علي الخليلي، مبدعون لا يزالون في عطائهم المستمر كانوا في كل المناسبات الوطنية والثقافية.

 ليلى علوش، سميرة الخطيب، سحر خليفة، ليلي كرنيك، مبدعات أضأن الوطن بإبداعاتهن المميّزة.

عشرات المُبدعين والقياديين السياسيين الرموز كانوا في الحلقة الأقرب من أبي خالد.

وكنتُ مع أبي خالد في كلّ لقاء وكل ندوة وكل مهرجان وكل مناسبة وطنية في بير زيت ورام الله والقدس وغزة.

غلافُ كتابي الأول "واقع الدروز في إسرائيل" عام 1976 أبو خالد صمّم غلافَه، وأبو خالد راقب طباعتَه في "مطبعة دار الأيتام" في القدس، وأبو خالد أوصله إلى بيتي في الرامة.

وأبو خالد كان مَن سارع ليسألني وقد أظهرتُ له إعجابي برواية "لم نعد جواري لكم" لسحر خليفة هل تُريد التّعرّفَ على كاتبة الرواية وبطلاتها؟ وبالفعل تعرّفت على سحر في بيتها في رام الله وربطتنا من يومها صداقة متينة حتى اليوم رغم بُعد المسافات.

مع أبي خالد كانت فكرةُ إصدار مجلة "البيادر الأدبي"، وكان من المُبادرين لإصدار "أوراق ثقافية" بعد رجوع السلطة الوطنية للوطن بعد اتّفاق "أوسلو".

بيتُه في مدينة "البيرة" كان قِبْلةَ الشباب الرّاغب في الأدب والثقافة والإبداع، وكان ملتقى العشرات من المثقفين والسياسيين والقادة، وفيه اتّخذت القرارات الوطنيّة المهمّة.

وأبو خالد.. ببساطته حتى الطُّهر، وهدوئه وسعادته البادية في كلّ حركة ومَلمح وحرف، كان مركزَ اهتمام الجميع وتقدير الجميع واحترامهم.

عندما ودّع ابنته العروس الدكتورة "زويا" بكى، ولمّا استفسرتُ منه عن سرّ هذه الدموع قال: غدا ستُجرّبها وتعرفها. وصدق أبو خالد. وعرفتُ الدمعة وذقتُ حرقتَها يوم ودّعتُ ابنتي رباب يوم زفافها.

كان وليد الشيطان الصغير الغَلباوي مَن يغمرُ أبا خالد بالسّعادة، ولا يزال وليد، وقد أصبح شابا، منارة أبي خالد وفرحته.

وكانت أم خالد درّة محمد البطراوي النّفيسة والأقرب إلى روحه، وظلّت حتى اللحظات الأخيرة كما كانت طوال حياته.

كنتُ أتابعُ حركات وصوت أبي خالد وهو يجتهد في شرح نظريّة أدبية أو فلسفية لأحد الشباب الرّاغبين في خوض غمار الإبداع، وكنتُ أقرأ ملاحظاته على كثير من القصائد والقصص التي يكتبُها الشباب والشابات ويأتون بها إلى أبي خالد ليراجعها ويعطي ملاحظاته. كنتُ أحسدُه على قدرته على احتضان الجميع بحبّ صادق وكرم وغبطة ورغبة عميقة في المساعدة والإفادة.

الكثيرون من الذين كان أبو خالد باعثَ عطائهم وإبداعهم ونَشْر إنتاجهم تنكّروا له لمّا عُرِفوا، وحتى حاولوا النّيلَ منه والتّعرّض له، ولكنه ظلّ الأبَ المعطاء والمعلمَ المُسامح والمُحبّ الصّادق.

أبو خالد يا رجلَ الرجال، وكبيرَ المثقفين والطيّبين والمعطائين والإنسانيين.

أبو خالد، أيّة مفارقات للأيام وما فيها من أحداث وسلوكيّات..

 كيف يمكنُ أنْ أتصوّر، قبل أسابيع قليلة من فراقك للحياة، أنْ يسعى مَن لا يعرفك إلى أن يُنغّصَ حياتك في أيام عمرك الأخيرة باستصدار قرار المحكمة القاضي بأنْ تترك منزلك؟

كان القرارُ صعبا عليك.. ولكنه كان الصّعب علينا، نحن الذين عرفناك وأحببناك وقدّرناك، وكان من الطبيعي أن يكون ردّنا سريعا وحاسما.

لكن قرارك أنت كان، كما عهدتك، هادئا رزينا متسامحا، فقد آثرتَ ترك المنزل بهدوء ولسان حالك يردّد:

- اغفر للذين أساءوا إليّ دون أن يعرفوني، يا ربّ السّموات والأرض، وسامحهم على ذنب لم يقصدوه. اغفر لهم يا ربّ وسامحهم.

واليوم بعد أحد عشر عاما على فراقك أُقلّبُ صفحات كتابك الشعريّ "أوراق الظلّ" الذي صدر بخطّ يدك الجميل عن "الاتحاد العام للكتّاب والأدباء الفلسطينيين" (نيسان 2011) وأراك أمامي تبتسم وتقرأ لي، كما كنتَ تقرأ لغيري بعض المقطوعات القصيرة:

لم يجد ما يأكله

تسلّل إلى البيت المُسَيَّج

علّه يجد ما يأكله

فلم يجد ما يأكله

كسر الباب والشبّاك

واستدعاهم

علّه في السجن

يجد ما يأكله (ص9)

 

وبصوت هادئ رزين ساخر يصف ظلمَ المحتل:

فتّشوا البيت

لم يجدوا كُتبا ممنوعة

أو أوراقا محظورة

تحضّ، كما قالوا،

"على الفوضى والإفساد"

لكنّي لم أسلم

لأنّهم، وبلا تردّد،

اعتقلوا صوتي

ختَموا فمي

بالشّمع الأخطر. (ص31)

 

ويتذكّر صديقه الشاعر معين بسيسو:

قال معين بسيسو

والقول ما قاله معين

"الصمت موت..

"والنُطق موت.."

فتعلّمنا "الدّبكة"!

**

قرّر معين

أن يرجع بعد موته

إلى غزّة

دفنوه في القاهرة

"يا سبحان الله! "

كلّ البلاد محتلّة! (ص107)

***

وتظلّ أنتَ، يا أبا خالد،

 كما عرفتُكَ، الكبيرَ، العظيمَ، الحبيبَ والأقربَ إلى قلبي.

هل أقول وداعا؟

ما أصعبَها من كلمة أقولها لكَ.

وداعا يا أبا خالد..

وداعا يا محمد البطراوي، يا بنَ عسقلان وكلّ حبّة تراب من أرض الوطن فلسطين.

وداعا يا أعزّ مَنْ عرفتُ، وأخلص مَن صادقتُ.

وداعا.. وسأظلُّ أردّدُ في بُعدك:

إلى أينَ يأخذُنا الموتُ يا صديقي؟؟

إلى أين يأخذنا الموت؟؟

 إلى أين؟

 ونحن في كل يوم من حياتنا عملنا وسَعينا من أجل الحياة!!

 

 

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب