news-details

قراءة في اقتفاء الفكرة: نصوص متحرّرة للكاتب أمل أبو زيدان| لبابة صبري

تتميّز النّصوص المتحرّرة للكاتب أمل بالقوّة الإبداعيّة التي تتضمّن عناصر تخييليّة قادرة على تحويل انتباه القارئ عن كل ما هو يوميّ إلى كل ما هو مثير وجديد ومجاوز للواقع المألوف[1]، لقد كثّف الكاتب وسائل التحفيز الواقعيّ بتناول مواد الواقع ودمجها في عالم دلاليّ وتخييليّ جديد؛ والملفت أنّ النّصوص تتفاعل لخلق عناصر هذا العالم بأسلوب واضح ومباشر، مثال ذلك لا الحصر، عناوين النّصوص التالية: "من هنا تبدأ المسألة" (ص 8)، "عند مفترق الطرق" (ص 9)، "بحثًا عن معنى" (ص 12)، "وأما عن اكتشاف العالم الداخليّ" (ص 18).

بالإضافة إلى استخدام أكثر أشكال التّمثيل شيوعًا في الكتابة الأدبيّة العربيّة الحديثة والمعاصرة، وهي الإجراءات الحواريّة التي تعيد تشكيل الحوار الاجتماعي والأيديولوجي والفكري في النّصوص، فقد أشار باختين[2] إلى مصطلح الحواريّة للدلالة على تقاطع النصوص والملفوظات في النّص الواحد، كما أنّ الحوار الذي يكتبه أمل هو الحوار بين "هي/ هو" الشخصيّة بالضمير الغائب و"هو/ هي" الشخصية بالضمير الغائب الآخر، أمثال ذلك لا الحصر، عناوين النصوص التالية: "فكرة ضلّت الطريق" (ص 95)، "دخلنا التاريخ وصرنا" (ص 120). إنّ استخدام أمل للضمير الغائب في شخصيّاته النصّية يجعلة منفصلًا عن أبطال نصوصه لينتج أبطالًا لهم وجهات نظر وأفكار خاصة مختلفة ومتعدّدة الأصوات، ويكونون ذاتًا فاعلة أكثر من كونهم موضوعًا. كما يقوم الأبطال بتجسيد المشكلات الحياتية والقضايا الإنسانية التي تشغل أفراد المجتمع.

لقد اتّخذ أمل حريّة التعبير في نصوصه وهي سمة بارزة في الأداء والتأثير، واستخدم تقنيات عالم الاستعارة والكناية والمجاز الواسع والرّموز في صياغة التجربة الإنسانيّة عميقة الدلالة، مثال ذلك لا الحصر، جُملة من نص: (التجوال الاستكشافيّ الطويل في مناطق الحياة لتدوين سفر التأليف.. وما زال حتّى اليوم لم يخطّ الكلمة الأولى) (ص 58)؛ يتميّز هذا النّص - كما بقيّة النّصوص في الكتاب - باستدعاء القارىء للمشاركة الفعليّة في بناء النّص وكتابة الكلمة الأولى؛ فالكاتب هنا يخاطب المتلقّي مباشرة ويدعوه للإسهام معه في عملية تكوين النّص، ويقوم القارىء بدوره أمام هذه النصوص بنشاط ذهنيّ مزدوج، يتلقّى اقتراحات الكاتب ثمّ يعيد بناءها من جديد ليكتشف نصّه الخاص. وليس هذا فحسب، وإنّما يتطلب من القارىء أن يفكّ رموز النص ويتتبّع بناءها ويفهم إمكانيّات النص في كل الاتجاهات وذلك لينتقي منها الأنساق التي يتجاوب ويتفاعل معها ويسهم بنفسه في كتابة الكلمة الأولى أو النّص المفضّل.

تشكّل نصوص الكاتب أمل فضاءً ثقافيًّا، متخيّلًا، مجازيّا، غنيًا ومقتضبًا، وهذا يتلاءم مع متطلّبات القارىء الحاليّ الذي يبحث عن التعبير الوجودي ويرفض التفاصيل المملّة، كما أنّ اقتضاب/ اقتصاد النص قد لاقى اهتمامًا بالغًا في الكتابات الإبداعيّة المعاصرة؛ وقد اعتنى أمل بفضاء النّصوص ووضع تعبيرات دقيقة لكل خطوة في مسار كتابته، مثال ذلك لا الحصر، جُملة من نص: (ننشد للأمل أن يجتاحنا غدًا مرتفع روحيّ ليروي القلوب حبًّا ووجدًا) (ص 85). يؤطّر الكاتب هنا عملية التفاعل داخل النّص نفسه من بدايته حتى نهايته. وهذا ينطبق أيضًا على جميع نصوص الكتاب ليبلغ -من خلال تحليله- أحد العناصر الهامة لبلاغة الكتابة المعاصرة.

لقد تجلّت النظرية البلاغيّة في كتاب دلائل الإعجاز للجرجاني؛ حيث يؤكّد على أنّ النظرية البلاغيّة العربيّة بُنيت على أساس مفهوم التواصل الذي يصبح فيه الكاتب المصدر الأساسي للمعرفة، والقارىء متلقّيًا للمعرفة أو على الأصح باحثًا عن المعرفة[3]. وتتميّز نصوص أمل بغناها في التواصل المعرفيّ والإنسانيّ ويبقى الحوار حولها مفتوحًا، وبالتالي تتمّ قراءتها في كلّ الأزمنة لتغدو لها خاصيّة المقروئيّة الدائمة؛ مثال ذلك لا الحصر، "الرواية التي لم تروَ": (استغرب تلقّيه رسالة مجهولة العنوان، والأغرب أنّه بعد أن فتحها، لم يجد كلمات ولا إشارات.. لم يجد إلا رائحة ضيق..) (ص 155). إنّ الذي يسمح بالإمكانيّة الدائمة للاستمرار في قراءة هذا النص وغيره من نصوص الكتاب هو غياب التحديد الكامل للمعنى، وهذا الغياب هو أحد ركائز بناء الكتابة الإبداعيّة التخييلية؛ فكلّما غاب التحديد كانت إمكانيات التدليل أكبر وأوسع، ويكون الاختلاف حول معانيها قائمًا على الدوام؛ بحيث نجد أنّ كل قراءة لنصّ معيّن تتّخذ فهمًا وإدراكًا مختلفًا، وذلك بناءً على التجربة الحياتيّة والمعرفيّة والفكريّة والنفسيّة والثقافيّة والإجتماعيّة والتاريخيّة لكل قارىء. كما أنّ حياة الإنسان اللغويّة لا تستدعي منه دائمًا أن يفهم، بل تدفعه في كثير من الحالات إلى أن ينفعل ويؤوّل ويقترح ويغيّر. ومن هنا تتميّز نصوص الكاتب أمل بتشغيل القدرة التفاعليّة والإنتاجيّة لحظة القراءة.

يشير الجرجاني[4] إلى ضرورة امتلاك القارىء لخاصيّة الفهم العالية التي تتيح له التأويل وذلك لبلوغ المقاصد العميقة وراء النصوص وتجاوز كل ما هو في حكم المعاني السطحيّة، وهكذا يستطيع القارىء الغوص في الأعماق وهذا ما دعى إليه أمل في نصّه "شغف الغوص" (ص 204): (لمْ يفهم يومًا شغف الغوّاصين بالأعماق، إلى أنْ انضمّ إليهم ذات مرّة، ومنذ إصابته بالعدوى لم يعُد يستطيع الرّجوع للسطح). وبذلك يكون القارىء قد تجاوز مستوى الفهم وانتقل إلى مستوى التأويل؛ والمقصود بالتأويل[5] هو اجتهاد محكوم بالقراءة وبالإمكانيات المعرفية المتاحة وظروف العصر الثقافية.

 


[1] لحمداني، حميد (2007). القراءة وتوليد الدلالة: تغيير عاداتنا في قراءة النص الأدبي. الدار البيضاء، المغرب: المركز الثقافي العربي.

[2] باختين، ميخائيل (1986). شعرية دوستويفسكي. ترجمة: جميل ناصيف التكريتي. مراجعة: حياة شرارة. الدار البيضاء، المغرب: دار توبقال للنشر.

 

[3] الجرجاني، عبد القاهر (1978). دلائل الإعجاز. تحقيق: السيد رضا. بيروت: دار المعرفة للطباعة والنشر. ص 35.

[4] الجرجاني، عبد القاهر (1978). أسرار البلاغة. تحقيق: السيد رضا. بيروت: دار المعرفة للطباعة والنشر.

[5] لحمداني، حميد (2007). القراءة وتوليد الدلالة: تغيير عاداتنا في قراءة النص الأدبي. الدار البيضاء، المغرب: المركز الثقافي العربي.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب