news-details

قراءة في كتاب عودة بشارات "حتى لا تذهب التجربة هباءً"| د. محمد حبيب الله

اهداني الكاتب عوده بشارات كتابه الذي صدر قبل مدة تحت عنوان "حتى لا تذهب التجربة هباءً" وهو عبارة عن مقالات كتبها المؤلف في جريدة الاتحاد وجريدة هارتس (הארץ)، والتي يعتبر بشارات من اشهر كتّابها الدائمين والمحترمين والموضوعيين في كل ما يكتبون في هذه الجريدة المستقلة ذات السمعة الطيبة وفي مقدمة الصحف العبرية التي تصدر في إسرائيل.

بدأت في تصفح هذا الكتاب بعد تسلامه من المؤلف كعادتي عندما يقع بين يدي كتاب من صديق... هذه العادة التي اكتسبتها عندما كنت طالبًا للدكتوراه في جامعة ولاية ميشيغان في أمريكا قبل اكثر من خمسة وأربعين سنة، كان ذلك في احد المساقات الهامة والمطلوبة لمسار التعليم اللقب الثالث والذي كان موضوعه القراءة وفهم المقروء. يومها قالت المحاضرة: اذا اردت ان تكتب تقريرا عن كتاب ما عليك الا ان تبدأ بقراءة العنوان والتفكير بالتداعيات التي يثيرها هذا العنوان عندك. ثم اقرأ ما كتب على ظهر الغلاف الخارجي للكتاب وبعدها اقرأ الفهرس لمعرفة ما يحتويه من فصول ومواضيع، يلي ذلك تصفح الكتاب والوقوف عند كل فصل فيه. اقرأ الفقرة الأولى من الفصل ثم اقرأ الفقرة الختامية الامر الذي يجعلك تتعرف على ما يتحدث عنه هذا الفصل، لان الكاتب عادة يبدأ بعرض الهدف من قراءة الفصل. ثم اقرأ الفقرة التي يجمل فيها المؤلف ما ورد في هذا الفصل. والقارئ ليس بحاجة الى اكثر من ذلك لتقديم تقرير عن كتاب قرأه ومجرد اتباع هذه الطريقة تجعلك تقرر اولاً هل هذا الكتاب يستحق القراءة وثانياً ما هي الفصول الهامة التي تودُّ التوقف عندها لقراءتها تفصيلياً.

ان ما حدث معي في اتباع الخطوات أعلاه في الكتاب الذي بين يدينا هو الوقوع في حيرةٍ من اين ابدأ وما هي الفصول التي عليّ قراءتها تفصيلياً. وما حدث اني وجدت نفسي قد قرأت كل الكتاب من ألفهِ الى يائهِ لاني لم استطع مفارقة قراءة كل الفصول الاحد عشر وما ورد فيها من مواضيع جذابه تشد القارئ وتزيد في اقباله عليها والتعرف على ما ورد فيها.  

في الكتاب مقالات نشرت في الجريدتين أعلاه وهي:

1.عبد المجيد حمدان: اطلالة على القضية الفلسطينية الاتحاد (ص 7) 2.نمر مرقص: اقوى من النسيان الاتحاد (ص 71) 3.تمار غوجانسكي: بين المصادرة والاستغلال: وضع الاجيرين العرب ونضالاتهم هـآرتس (ص 95) 4.اليعازر تاوبر: دير ياسين، نهاية الأسطورة هآرتس (ص 103) 5.كمال موعد: السيرة التربوية لخليل السكاكيني هآرتس (ص 115) 6.ايتان برونشتاين نكبة بالعبرية، يوميات مسيرة سياسية هآرتس (ص 125) 7.محمد علي طه في مديح الربيع هآرتس (ص 137) 8.عاموس عوز مع شيرا حداد: مما تصنع التفاحة؟، الحب الشعور بالذنب وغيرهما من الملذات هآرتس (ص 143) 9.مروان كنفاني: سنوات الامل الاتحاد (ص 153) 10.عبد الرحمن عوض الله: من فيض الذاكرة الاتحاد (ص 161) 11.ماء السماء: يحيى يخلف الاتحاد (ص 175).

لقد استوقفني في هذا الكتاب امران: الاول الاسلوب الذي اتبعه الكاتب في عرض المواضيع المختلفة في الكتاب. فهو اسلوب ينم عن ضلوع الكاتب في اللغة العربية السليمة السهلة الممتنعة وقد تعلمت منه شخصيا الكثير من الكلمات والمصطلحات التي كنت اجهلها، مثال ذلك: كلمة "جلاوزة" الامر الذي اضطرني للرجوع الى "جوجل" لمعرفة معناها حيث اتضح لي انها تعني "الشرطة". الامر الثاني كون الكتاب نافذة على المأساة الفلسطينية في كل ابعادها والنكبة التي حصلت للفلسطينيين في (1948) و(1967) وكيف ان الرؤساء العرب في حينه في السعودية والاردن كان لهم الضلع الاكبر في هذه النكبة وفي تشريد الفلسطينيين من بيوتهم وقراهم التي فاقت الخمسمائة فتحولوا الى لاجئين بامتياز.

 لقد اشار الكاتب الى اماكن ومواقع واحداث وتكلم عن مؤامرات وخيانات عربية. ادناه اسوق للقارئ بعض محتويات هذا الكتاب مع ان ذلك لا يغني قارئ هذا المقال من قراءة الكتاب والتمتع بكل جملة وفقرة وردت فيه. في احد فصول هذا الكتاب وفي مقال حول كتاب السيد عبد المجيد حمدان "اطلالة على القضية الفلسطينية" يشرح الكاتب على لسان مؤلفه كيف حصل ما حصل ولماذا حصل من خلال الاطلالة على القضية الفلسطينية وجذورها حيث يتساءل فيه: هل كانت القرارات حول هذه القضية تأتي بناء على قراءة موضوعية لها ام ان شعبنا ولأسباب عديدة لم تطرح عليه اصلا. يقول الكاتب وفي هذا الصدد: "لا يحتاج الأمر إلى تقديم البراهين للتدليل على أن . رأس المال اليهودي تكون في الأساس عن طريق المعاملات الربوية . " (ص 11 ) . عمل اليهود والإقراض الربوي على مدى قرون طويلة أدخلهم إلى عصر الرأسمالية بقدرات تفوق كثيراً نظرائهم الآخرين، وبسبق كبير لغيرهم ظهرت بيوتات المال اليهودية أو البنوك الكبرى اليهودية" (ص 35). هذا الأمر مفصلي في فهم تأثير الرأسمالية اليهودية على اتخاذ القرار في الدول الأوروبية الرأسمالية حديثة العهد.

من الطريف في هذا المقال القصة التي اوردها المؤلف عن الملك عبد العزيز ال سعود وما قال فيها حول فلسطين (ص 56) والاشارة الى وثيقة بخط يد ابن سعود: "أنا السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل السعود، أقر واعترف لا مانع من إعطاء فلسطين للمساكين اليهود، كما تريد بريطانيا العظمى ولن أخرج عن رأيها حتى تصيح الساعة. " (ص 118). وبعد أن كتب الوثيقة وقعها بخط يده، سأله فيلبي: "ألا تتوقع أن يغضب العرب فيما لو عثروا على هذه الوريقة؟" فقال باستهزاء: "لو انتظرنا العرب ما أصبحنا سلاطين كما ترى" (ص 119).

وعندما سأله فيلبي، انه ربما بسبب هذا التوقيع ( سيتم) تشريد شعب فلسطين بكامله من فلسطين. أجاب السلطان: "تريد أن أغضب بريطانيا لأن عددًا من أهل فلسطين سيشرد أهل فلسطين لا يستطيعون حمايتي إذا لم تحميني بريطانيا من الأعداء. ولتحرق فلسطين بعد هذا" (ص 119).

يقول بشارات: "والحقيقة اننا نظلم شعبنا اذا قلنا انه لم يكن يدرك كنه موقف ابن سعود، فالمؤلف يورد قصيدة الشاعر الشهيد عبد الرحمن محمود، مخاطبا الامير فيصل الذي زار في حينه القدس:

المسجد الاقصى أجئت تزوره          ام جئت من قبل الضياع تودعه

لقد استوقفني ايضا في هذا الكتاب المقال الذي تناول فيه كتاب "اقوى من النسيان" للصديق العزيز رحمه الله "نمر مرقص" والذي تحدث فيه كثيرا عن ما حدث للشعب الفلسطيني بشكل عام وعن ملاحقة المعلمين الديمقراطيين من قبل اجهزة الامن (الشاباك) والحكم العسكري الذي استمر حتى 1966 حيث كانت الاوامر تصدر من الطرفين الى وزارة المعارف لمعاقبة هؤلاء المعلمين الى درجة التنكيل بهم وتعيينهم في محلات نائية او حتى فصلهم عن العمل في مهنة التعليم.

يستعرض الكتاب النضال البطولي الذي خاضه المعلمون العرب سرا وعلانية، ضد موبقات الحكم العسكري والثمن الباهظ الذي دفعوه، مقابل الدفاع عن كرامتهم، وكرامة شعب بأكمله، في محيط أراد له "الشين بيت" (المخابرات)، أن يشي الكل عن الكل، أرادوا خلق مجتمع من الوشاة، ففشلوا ودفع المناضلون الثمن. يشير السيد "نمر مرقص" الى اسماء بعض المعلمين الذين وقعوا فريسة لهذه السياسة منهم: "ابراهيم بولص، الياس دلة، فريد جهجاه، نمر مرقص، عيسى لوباني، انيسة جبران، وعدنان ابو سعود، وحسني عراقي"، هؤلاء المعلمون أسسوا لاحقا كتلة المعلمين الديمقراطيين التي خاضت انتخابات نقابة المعلمين في اذار 1955. يقول "نمر مرقص" بهذا الصدد ان هؤلاء المعلمين وغيرهم في تلك الايام لم يحلموا بعيش حياة هانئة فليست السلطة ضدهم فحسب وليس انها ترميهم من وظيفتهم وانما كانت اجهزتها تتفنن بإيذائهم وتنغيص حياتهم وتعرضهم للاعتقال والتعذيب.

يستعرض الكاتب عودة بشارات في كتابه هذا ما كتبه "كمال موعد" في كتابه: "انسان ان شاء الله – السيرة التربوية لخليل السكاكيني" والذي نشر في جريدة (هآرتس) عن هذا المربي الفلسطيني الذي سبق اوروبا في اراءه التربوية. تجدر الاشارة الى ان كاتب هذا المقال نشر اخيرا كتابه الكامل عن خليل السكاكيني المفكر والمربي الفلسطيني.

يستعرض كتبا اخرى نشر حولها مقالات في جريدة "هآرتس" وجريدة "الاتحاد" منها كتاب عبد الرحمن عوض الله "من فيض الذاكرة" وكتاب يحيى يخلف "ماء السماء" حيث يتحدث في الاول (ص 161) عن المؤامرة السرية وترك غزة ويتحدث في الثاني (ص 175) عن بلدة "سمخ" التي كانت تقع على الشاطئ الشرقي من بحيرة طبريا وعن لجوئهم الى "اربد" في الاردن. يشرح الكاتب في الاول على لسان عبد الرحمن عوض الله كيف سقط قطاع غزة في ايدي الاسرائيليين في حرب حزيران 1967، وفي الثاني يتحدث يحيى خلف عن قصة لجوء اهل "سمخ" الى "اربد" والاشارة الى ان النكبة لم تحل فقط بالبشر بل طالت الشجر والحجر.

يختتم السيد بشارات كتابه بقوله: "لا شك أن رواية "ماء السماء " إضافة مميزة ومعبرة عن النضال الوطني الفلسطيني. ووجدت نفسي تلقائياً، بعد أن أنهيت قراءة الكتاب خلال وقت قصير، أعرضها على ابني لقراءتها. إنها من الكتب المؤسسة في الأدب الفلسطيني، وفي صراعنا من أجل نقل روايتنا إلى الأجيال القادمة: رواية إنسانية ومكافحة، والأهم أنها قادرة على مخاطبة العالم، بحسها الإنساني النضالي الجميل."

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب