news-details

قراءة في مجموعته القصصية، "مديح لخازوق آخر (3-3)

 

 

الزمن في قصص المجموعة

بغض النظر عن كيفية تعامل سهيل كيوان مع الزمن الداخلي في كل قصة من قصصه بشكل خاص، يظلّ الزمن العام الذي ترتبط به قصص المجموعة وتُحيل إليه، هو زمن عربي مهزوم، محكوم بالهزائم العربية الصغيرة والكبيرة، المتوالية منذ النكبة، وأحيانا قبلها، وحتى حاضر القصّ، على الصعيدين العربي المحلّي والعربي العام. وإن دلّ ذلك على شيء، فإنّما يدلّ على تفاعل كيوان مع كل ما حدث وما زال يحدث في المجتمع العربي، المحلّي والعام، وأنّه يُعاني من التحوّلات السلبية، الاجتماعية والسياسية بشكل خاص، التي تدفعه للتعبير عن امتعاضه مما يحدث أو نقمته عليه، وعلى اللامبالاة التي تحكم تصرّفات الإنسان العربي على كافة الصعد، من المواطن العادي وحتى القائد الاجتماعي أو السياسي، الذي تحكم تصرّفاته شعارات جوفاء لا تُساهم في حلّ أيّة قضية من قضايا المجتمع، على المستوى الاجتماعي أو السياسي، بل تُرسّخها أو تزيدها تعقيدا.

يرسم كيوان شخصية العربي الفلسطيني الذي بقي في أرضه، منفيّا فيها، يعيش زمنا غير زمنه، يُحاول مضطرا التأقلم معه ليُحافظ على وجوده، لأنّ مجرّد البقاء فضيلة، كما رأى ذلك بعض الكتّاب الفلسطينيين وعبّروا عنه في قصصهم بعد النكبة أو بعد هزيمة حزيران 1967، فما بالك بمن بقي في أرضه بينما الشعور بالمنفى يأبى لا يُفارقه. فنكوص المواطن العربي أمام الجندي في قصة، إعلان حرب على الدولة" (ص 11) يعكس بوضوح الزمن العربي المهزوم، وانشغال العربي بعد حفاظه على حياته، بما لا يُغني ولا يسمن من جوع، الشعارات، أو تمثيل ماذا كان سيحدث لو واجه ذلك المواطن الجندي الذي اغتصب الأرض. فالزمن الداخلي الخاص بالحدث المركزي في القصة، زمن ممارسة رياضة المشي، هو "في كل صباح وقبل ذهابه إلى مكتبه" (ص 11)، ولكنّه يأخذ خصوصية أكثر ودلالة أعمق، حين يتوقف البطل عن ممارسة الرياضة "خلال الحرب على غزّة" (ص 11)، ليعود إلى ممارستها بعد "ما سمّي وقف إطلاق النار" (ص 12)، وإلى التفكير بماذا كان سيحدث لو قتله الجندي: هل سيُقدّم أو يُؤخّر، مقتل مواطن من مجد الكروم، بعد كل ما حدث في غزّة ولم يُحرّك الصغار ولا الكبار ساكنا، واكتفوا بالتصريحات التي لا تُعبّر إلى عن الهزيمة، هزيمة الإنسان العربي وزمنه.

وهل يمكن أن نتخيل زمنا عامّا آخر في قصة "عيون الألب" مهما اختلف الزمن الداخلي الخاص بأحداث القصة؟ الزمن الداخلي فيها هو زمن غير محدّد خلال النهار أثناء ممارسة حقّ التصويت في غرفة صندوق الاقتراع. وهذا اللاتعيين يشي بعدم الأهمية. لأنّ الزمن الأهمّ هو الزمن الذي نقرأه في أسماء الأغاني، فالثانية منها، "بوس الواوا" صدرت قبل زمن الكتابة بسنوات قليلة، بينما الأولى، "عيون الألب"، صدرت فيما يُمكن اعتباره إذا صحّ التعبير، الزمن الجميل، اجتماعيا على الأقلّ. والانتقال من الأولى إلى الثانية، يحيل إلى ذلك التحوّل الاجتماعي والخراب الأخلاقي الذي ساهمت فيه السياسة المتمثّلة بعملية الانتخابات، ما يُحيل إلى الزمن العربي العام، المهزوم. وقد يكون الاختلاف في القصّتين المذكورتين، في شكل الهزيمة فقط. حيث تبرز في الأولى الهزيمة السياسية، بينما في الثانية تبرز الهزيمة الاجتماعية والسياسية معا، كهزيمتين مشتبكتين متعالقتين.

وعليه فقد تختلف الأزمنة الداخلية من قصة إلى أخرى، ولكنّ قصص المجموعة في معظمها تلتقي في الزمن العربي العام، المأزوم والمهزوم، على جميع الصعد، وخاصة المحلّي والعام، والاجتماعي والسياسي.

 

الفضاءات

تتعدّد الفضاءات والأمكنة كذلك في قصص المجموعة. وقد لا يخفى على القارئ أنّ قرية الكاتب التي يذكرها كثيرا في قصصه، وأحيانا بالاسم، مجد الكروم، هي المكان الذي يحتضن معظم الأحداث، أو هي الفضاء الذي يبدأ فيه الحدث ومنه ينطلق إلى أمكنة أخرى قريبة أو بعيدة. ولكن ليست الجغرافيا ومساحتها فقط هما اللتان تقرّران، وإنما ما للجغرافيا من دلالات وإيحاءات تُحيل القارئ إليها، ومن بينها ما يفرضه المكان من حالة نفسية لدى الشخصية ولدى القارئ كذلك، والتي قد تتأثّر وتتغيّر بتغيّر المكان وتأثيره.

ورغم تعدّد الفضاءات والأمكنة، استوقفني ذلك الحدّ الفاصل بين مكانين، مغلق ومفتوح، وما تركته صعوبة اختراقه في نفس البطل من شعور بالعجز في قصة "إعلان حرب على الدولة" (ص 11). يقول يوري لوتمان: "تنظم البنية المكانية للنص بالإضافة إلى مفهوم "العلو - الانخفاض" سمة أساسية هي التضاد "مغلق - مفتوح" ... وفي حالة النظر إلى البنية المكانية من هذا لمنطلق يكتسب الحدّ، بوصفه عنصرا مكانيا، أهمية كبيرة. فيقسم الحدّ المكاني إلى شقّين متغايرين لا يمكن أن يتداخلا. ويتميّز الحدّ بخاصية أساسية هي استحالة اختراقه. وتمثّل الطريقة التي يفصل بها الحدّ بين شقّي النصّ خاصية من خصائص النصّ الجوهرية. وقد يكون هذا الفصل فصلا بين الأهل والأغراب، أو الأحياء والأموات، أو الفقراء والأغنياء. ولكن الأهمّ من ذلك كله هو أنّه لا بدّ للحدّ الذي يفصل بين شقّي المكان أن يكون حصينا لا يُمكن اختراقه، وأن تختلف البنية الداخلية لكل شقّين فيه.

واستنادا على ما تقدّم، وسواء كان ذلك قد نتج عن وعي أو تفجّر من اللاوعي، استوقفني في القصة المذكورة، ذلك الحدّ الفاصل الذي شكّل حاجزا بين مكانين نقيضين رغم قربهما، أحدهما مفتوح والآخر مغلق ولا مجال للتّداخل بينهما، لذلك تراجع البطل عند الحدّ الفاصل بينهما لعجزه عن اختراقه. أعني ذلك الحدّ الفاصل، جغرافياً ونفسياً، بين البطل الذي كان يُمارس رياضة المشي، وبين الجنديّ الذي كان يحمل بندقيته في مدخل معسكر للجيش. فقد شعرنا أنّ البطل الذي عاد لممارسة رياضة المشي بعد الحرب على غزّة، لم يفعل ذلك في المكان المفتوح، كروم الزيتون أو غابة الزيتون كما سمّاها، ليُعاود ممارسة رياضته فحسب، وإنّما ليتخلّص من حالته النفسية المتردّية التي زرعتها في نفسه، الحرب على غزة. وبالطبع، لم يكن يتوقّع ما حدث له في نقطة معيّنة من مساره. يقول الراوي عن البطل: "في نهاية غابة الزيتون خرج إلى شارع فرعيّ يوصل إلى معسكر للجيش في قلب الجبل من جهة، وإلى شارع رئيس من الجهة الأخرى، كان يهجس بالإحداث والصور المفزعة، التي لم يعد يتحمّلها، لم يكن منتبها لما أمامه، انتقل من المشي إلى الركض باتجاه مفترق الطرق وهو في شبه غيبوبة، وفجأة انتبه، توقّف كأنّما ارتطم بجدار، كان على مسافة حوالي عشرين مترا منه جندي صوّب بندقيّته إليه وقد اختلف لونه، وبلحظة استوعب صديقي ما حدث، فقد ظنّ الجنديُّ أنّه يركض باتجاهه وبيده قضيب الحديد" (ص 12). هذه اللحظة التي سبقت تغيير المسار كانت لحظة حاسمة، وقف فيها البطل بين الحياة والموت، حين توقّف ولو لجزء من اللحظة، في مكان حاسم هو الحدّ الذي يتحدّث عنه لوتمان، الفاصل بين المكانين، المفتوح والمغلق. هناك حيث "فجأة انتبه، توقّف كأنّما ارتطم بجدار". وليس ما أريد الإشارة إليه هنا، هو ما كان سيحدث لو لم يستوعب البطل تصويب الجنديّ لبندقيته واختلاف لونه، وتابع سيره باتّجاه الجنديّ مخترقا بذلك الحدّ الفاصل. المهمّ هو ما حدث لأنّ البطل استوعب وغيّر مساره! فهل تنتهي المسألة عند هذا الحدّ؟

يقول البطل: "التقت عيناي بعينيه (الجندي)، ربما كان هذا قبل أن يطلق النار بجزء من الثانية (وهو الوقت الذي كان واقفا فيه في الحدّ الفاصل بين الفعل واللافعل)، انسحب الدم من وجهي، حاولت أن أبتسم وغيّرت وجهتي" (ص 12). قد يُحيلنا انسحاب الدم ومحاولة الابتسام، إلى تغيير الوجهة، وهذا ما حدث على أرض الواقع، ولكن انسحاب الدم يُعبّر أيضا عن حالة نفسية اعتصرها الألم، ولهذا أتت محاولة الابتسام تعبيرا ساخرا عما فكّر فيه البطل تلك اللحظة ولم يقله. وربما هربا من قوله، لجأ إلى التفكير بـ "ما كان يُمكن أن يحدث" (ص 13)، ليس على الصعيد الشخصي، فما كان سيحدث على الصعيد الشخصي معروف، الموت برصاص الجندي وخراب عالمه ككل من تسوّل له نفسه أن يخترق هذا الحدّ غير القابل للاختراق بين المكان المفتوح والمغلق أو بالعكس، وربما لنفس السبب تقوّض عالم "أمينة" حيث عالم بين القصرين في ثلاثية نجيب محفوظ "ينقسم إلى "الدار" و"القاهرة، والحدّ الذي يجب ألّا يخترق بينهما، هو باب الدار، وأمينة تنتمي إلى عالم الدار، ويوم تُقرّر الخروج وتخرق القاعدة، يتقوض عالمها". حين قطعت عتبة البيت، الحدّ الفاصل بين المكان المغلق، وخرجت إلى المدينة، المكان المفتوح. ولكن الاختراق هنا، في قصّتنا، لم يحدث. والتحوّل الذي حدث ليس في مسار المشي فقط، وإنما بما كان سيحدث على صعيد ردّ الفعل على مستوى السياسة والإعلام في الدولة، هربا مما لم يقله البطل. فما هي حقيقة ما فكّر به البطل تلك اللحظة ولكنّه غيّبه في نفسه وتركه للقارئ؟ محاولة الابتسام كانت ردّ فعل ساخر، والسخرية التي وظّفها في ردّ الفعل على موته، هي في الحقيقة السخرية من الواقع والشعور بالعجز اللذين عاشهما في اللحظة والنقطة الحاسمتين. ولكنّ ما لم يقله، هو أنّه استحضر في ذهنه ونفسه، النكبة وما خلّفته من مفارقات. والمفارقة التي أدّت إلى التحوّل وفجّرت ألمه وسخريته تلك اللحظة، هي أنّ المكان المغلق أمامه، كان ذات يوم، امتدادا للمكان المفتوح، امتدادا لأراضي القرية من سهول وجبال، والتي كان البطل أو سلفه قبل الوضع الجديد طليقا، يسرح فيها ويمرح بلا قيود. والآن، قد أصبح المفتوح مغلقا أمامه، يتعذّر عليه وعلى كل أهل قريته دخوله، رغم كونهم أصحاب الأرض الحقيقيين. وقد حدث ذلك الوضع الجديد، بفعل اغتصاب الأرض في النكبة، أو اغتصابها ومصادرتها بعد النكبة، بذريعة الأمن والأغراض العسكرية.

ما حدث في القصة عامة، وبشكل خاص في الحدّ الفاصل بين المكانين: المغلق حيث يقف الجندي، والمفتوح حيث يسير البطل، يُؤكّد الارتباط الوثيق للمكان بالحرية، لأنّ الحرية بالأساس هي حرية الحركة. والتغيير على أرض الواقع، ونشوء الحدّ الفاصل، قيّد حرية البطل وأصحاب الأرض عامة. وصار المكان مرتبطا بحسرة لا تُفارق عقولهم ونفوسهم.

تقول سيزا قاسم: "يرتبط المكان ارتباطا لصيقا بمفهوم الحرية، ومما لا شك فيه أنّ الحرية - في أكثر صورها بدائية - هي حرية الحركة. والعلاقة بين الإنسان والمكان علاقة جدلية بين المكان والحرية ... وهي مجموع الأفعال التي يقوم بها الإنسان دون أن يصطدم بحواجز أو عقبات، أي بقوى ناتجة عن الوسط الخارجي، لا يقدر على قهرها أو تجاوزها". أوليس هذا ما حدث لبطل القصة المذكورة حين اصطدم بالجندي وفقد حريته بالحركة، وكاد يفقد حياته أيضا؟

 

الشخصيّات

ما يميّز قصص سهيل كيوان ويؤكّد اشتباكه الساخر مع واقعه ومجتمعه، هو اختياره لشخصيات واقعية قد انتزعها غالبا من واقع قريته أو محيطها، وأحيانا تكون معروفة لنا سواء ذكر اسمها أو لم يذكره. ونعرفها أيضا من خلال الكلام عنها بلسانه كراوٍ، أي بضمير الأنا المشارك أحيانا والشاهد غير المشارك أحيانا أخرى. ذلك لأنّ الراوي، سواء أسند الكاتب البطولة له أو لغيره، فهو يتماهى دائما مع شخصية الكاتب. وهذا ليس نابعا من فراغ، وإنّما من تحديق كيوان، الكاتب والراوي، في الناس وفيما يحدث لهم في واقعهم الضيّق أو المشتبك مع الواقع العربي العام. وينبع كذلك من تحمّله مسؤولية تعامله الساخر معه. حيث سبق وذكرنا أنّ كيوان يحمل مرآته المحدّبة ويكبّر الأشخاص والأشياء ويُشبعها حدّ التشويه. ولكنّ ذلك لا يمنعه أحيانا، من أن يعطي للشخصية فرصة الحديث عن نفسها والتعبير عن مشاعرها، وإن كنّا غالبا نجد فيها ملامح كيوان الساخرة.

هذا مثلا ما وجدناه في القصة آنفة الذكر، "إعلان حرب على الدولة" حيث يروي ما حدث لصديقه وابن قريته الذي يُمارس رياضة المشي والذي قصّ على الراوي ما حدث له. فضاء القصة هو ما ساعدنا على تحديد العلاقة بين الراوي والبطل، فغابة الزيتون التي يذكرها، ما هي في الواقع إلّا كروم زيتون مجد الكروم وإن لم يذكرها بالاسم.

وهذا أيضا ما نجده في قصة "ثأر ... الآن!" (ص 25). فعبد الرحمن الذي ادعى الراوي أنّه ابن قريته للتمويه، ما هو إلّا شخص من إحدى القرى المجاورة (أعرفه أنا شخصيا وقد رأيت الفيلم الذي شارك فيه)، شارك في فيلم عبري بدور ضئيل جدا، خذل الراوي وأبناء قريته الذين تجمّعوا صغارا وكبارا لمشاهدة العرض، ظنّا منهم أن مشاركة عبد الرحمن سترفع رؤوسهم وسيّقدم عرضا يليق بعروبته وكمال جسمه، بينما صار عبد الرحمن ودوره في الفيلم، مثار سخرية الراوي وكل من حضر لمشاهدة الفيلم، حيث في مشهد قصير جدا، "شابّ نحيل لا يصل إلى كتف عبد الرحمن" (ص 29)، تمكن من التنكيل به والتغلّب عليه وطرحه أرضا، وهو الذي "نافس أهل المدن من عرب ويهود، تفوّق وصار بطل الجسد الكامل" (ص 25). لا شكّ أن كيوان رأى الشخصيتين وما حدث بينهما من تنكيل الشابّ اليهودي النحيل بعبد الرحمن العربي كامل الجسد، أمثولة للوضع السياسي والعسكري بين دولة اليهود الصغيرة والوطن العربي الكبير. ولذلك، لا يتفجّر غضب كيوان وألمه وسخريته على عبد الرحمن ومشهد الصغير في فيلم، إلّا لكون هذا المشهد صورة مختزلة للمشهد الكبير. وهذا ما يجعل شخصيات كيوان عامة، لا تُمثّل نفسها فقط، وإنّما تُمثّل مجتمعها بكل أبعاده.

قصة "العمرة"، تبدأ بشخص يأتي من قرية مجاورة ويسأل والد الراوي: "هذا بيت سهيل (الكاتب)؟" (ص 52). ولا يقف الراوي/سهيل عند هذا الحدّ، بل يذكر اسم الشخصية واسم قريتها، حيث يقول الشخص الذي حضر: "يا رجل هل نسيتني! أنا أبو حسين سواعد من عرب الكمّانة" (ص 53). وبغضّ النظر عن موضوع الحديث الذي دار بينهما، وهو تسديد الدين لضرورة أداء العمرة، فإنّ الشخصيات التي يختارها كيوان، هي شخصيات جاهزة من حيث الحضور في الواقع، والأهمّ كما ذكرت، أنّها لا تُمثّل نفسها فقط، بل تمثّل المجتمع الصغير والكبير، أو الخاص والعام، ببساطته وجهله، وتُبيّن اجتهاد كيوان في تقويضه لبنائه من جديد.

ومن الجدير بالذكر حول البطولة وشخصيات الأبطال في قصص كيوان، أنّ أبطاله من الناحية الفنيّة في القصة، غالبا ليسوا أبطالا وإنّما يتّسمون باللابطولة (Anti-hero)، ويأتي ذلك انعكاسا للواقع المهزوم، على المستوى العربي المحلّي والعام، وحتى على المستوى الإنساني، الذي يعيش واقعا ولّى فيه زمن البطولات، وفقد الأبطال دورهم ونكصوا أمام هموم الحياة أو قهر السلطة وغيرهما. ولهذا نجد في معظم القصص، أنّ البطل يتراجع أمام تحقيق أهدافه، كما نكص المواطن الذي يُمارس رياضة المشي أمام الجندي (إعلان حرب على الدولة)، وكما نكص عبد الرحمن، بطل كمال الأجسام، أمام شابّ نحيل (ثأر ... الآن!)، فجلب الخزي والعار لأهل قريته الذين حملوا بسبب ما حدث له (وهو لا يُمثّل نفسه فقط)، حملوا لعقود طويلة، الشعور بضرورة الثأر. وكذلك في قصة "نبتدي منين الحكاية"، يظهر الأمر أيضا في صعوبة إقناع الراوي الذي يُمثّل الجيل القديم، لابنته التي تُمثل الجيل الجديد، بأنّ المطربين اليهود الذين تحبّ سماعهم، قد سرقوا الألحان العربية، فكيف سيقنعها أنّهم قبل سرقة الأغاني، سرقوا الأرض وما عليها؟ وفي قصة "قل مبروك لقبرص"، يظهر تراجع الراوي في الاجتماع أمام الرفيق، في تساؤله اليائس، "ولكن العصابة ... يا أخي من سيُقاتل العصابة؟" (ص 96)، وذلك بعد أن رضخ لطلبه وقال "مبروك لقبرص". ربما فعل ذلك تيمّنا بأن يتجاوب الرفيق معه، ولكن بما أن القصة انتهت بالعبارة المذكورة أعلاه، فالجواب معروف. وتجدر الإشارة إلى الراوي، ومن ورائه الكاتب، حين قال: "... يا أخي"، ولم يقل "يا رفيقي"، أنّ كيوان يؤكّد بها خروجه من الحزب الشيوعي، ولكنّ ذلك لا يعني خروجه من الحياة الاجتماعية والسياسية وبعده عما يدور في المجتمع.

إذا كان لا بدّ من رؤية بطولة كاملة في قصص كيوان، فظنّي كما لمّحت سابقا، أنّ القارئ سيفكّر بإسنادها إلى الكاتب، أو الراوي المتماهي معه دائما، إذا صحّ أن نعتبر السخرية هدفا لهما، ذلك لأنّ السخرية، إذا صحّ اعتبارها هدفا، تظلّ هي الهدف الوحيد الذي تمكّن الكاتب وراويه من تحقيقه كاملا بلا نقصان، وعليه يُصبح أحدهما بطلا كامل البطولة. أقول ذلك وأنا أعي أنّ الكتابة والسخرية هما أداتان بيد الكاتب، وليستا هدفا من أهدافه. ويُؤكّد ذلك بأنّه يوظّفهما في تفكيك العالم وتقويضه، بغية إعادة صياغته. ولكن بلا شكّ، توظيف السخرية في أدب كيوان، يدلّ بشكل واضح على شجاعته وجرأته.

 

وجهات النظر أو زوايا السرد

قلّما يلتفت سهيل كيوان لتوظيف الراوي كلّي المعرفة، وهذا يتّفق مع طروحاته الساخرة، ومع وجهة نظره وتحديقه المستمرّ في المجتمع وما يحدث فيه. ويتّفق ذلك أيضا مع نيته المسبقة بالتعامل الساخر مع المجتمع. وأغلب الظنّ أنّ ذلك ينبع من اعترافه الواعي أو اللاواعي، الذي نستشفّه من كتاباته عامة وقصص هذه المجموعة خاصة، بأنّه لا يملك من الأدوات في مواجهة المجتمع، إلّا الكتابة والسخرية اللتين يعبّر بهما عن غضبه وحزنه بل نقمته على المجتمع وما يحدث فيه. بهاتين الأداتين، الكتابة والسخرية، يفضح المجتمع ويُفكّكه بغية إعادة صياغته من جديد. وعليه، نجده دائما يتكلّم بضمير الأنا كشاهد مشارك، سواء أسند البطولة للراوي أو لغيره من الشخصيات التي يتحدّث عنها. وهذا الموقف يتّفق أيضا مع مفهوم اللابطولة الذي يتكرّر في قصصه، إذا استثنينا، كما أسلفت، السخرية كبطل أو كهدف يُحقّقه الكاتب وراويه كاملا، فيجعل منهما بطلا كامل البطولة.

لا يتوانى كيوان في إعطاء الفرصة لشخصياته أن تتحدّث عن نفسها، سواء كان ذلك في السرد أو الحوار معه أو فيما بينها، وذلك لتحقيق ديمقراطية النصّ التي يسعى الكاتب إلى تحقيقها في الواقع. إلّا أنّ الراوي ومن ورائه الكاتب، يظلّ ممسكا بخيوط السرد، ربما ليُبيّن أن المجتمع لم يصل بعد إلى الدرجة التي يريدها من الوعي وتحمّل المسؤولية، وإلّا لما كان هنالك سبب للكتابة، أو للسخرية على الأقلّ.

 

اللغة والسخرية

يعتمد كيوان اللغة الفصحى في سرده، وقد حرص على أن تكون بسيطة قريبة جدا من الواقع. ولكنّه أدخل إلى لغته ملامح أخرى يحتاجها في أسلوبه الساخر في قصصه، ولكي تقوم اللغة بدورها الفاعل في تفعيل القارئ واستفزازه. لذلك لا يكتفي كيوان ببساطة اللغة وقربها من الواقع، وإنّما يشحنها بملامح مختلفة عدّدها إبراهيم طه في مقاله حول السخرية في أدب كيوان. من هذه الملامح: تفصيح اللهجة المحكية، نحت مفردات جديدة تكون غالبا منحوتة من اللغة العامية، التلاعب بالألفاظ، القرص السريع الموجع، الأخبار والنوادر والطرائف التي تحدث عادة في الواقع الفلسطيني، وأخيرا الشفافية  التي تنتج عن تلك الأخبار والنوادر والطرائف، وتُشير إلى واقع محدّد، وقدر كبير من المرارة.

لغة كيوان بما فيها من الملامح آنفة الذكر، هي لغة مشحونة، تُعبّر من جهة عن مرارة الكاتب وشدّة تذمّره مما يحدث في المجتمع، خاصة على الساحتين: الاجتماعية والسياسية، ومن جهة أخرى تشحن القارئ وتستفزّه، ليس للضحك ومتعة القراءة فحسب، وإنّما للألم والغضب والاقتناع بضرورة التحرّك من اجل التغيير. وعليه فإنّنا نجد كيوان لا يكتفي في قصصه بالسخرية من الآخر، وإنّما يُوجّه سخريته بشكل مزدوج، إلى الآخر وإلى الذات، فهو لا يتجاهل دوره كفرد شريك في المجتمع، يعاني من العجز نفسه، فيقع هدفا للسخرية نفسها.

 

 
 
 
 

قائمة المصادر والمراجع

المصادر

  1. سهيل كيوان، مديح لخازوق آخر، حيفا: دار راية للنشر، 2013.

 

المراجع

  1. إبراهيم طه، الأدب المجهري، ضمن البعد الرابع، الناصرة: مجمع اللغة العربية، 2016.

  2. إبراهيم طه، سلاطة اللسان في سخرية سهيل كيوان، ضمن البعد الرابع، الناصرة: مجمع اللغة العربية، 2016.

  3. سيزا قاسم وآخرون، جماليات المكان، إعداد وترجمة سيزا قاسم، الدار البيضاء: دار قرطبة، ط 2، 1988.

  4. مظفّر النوّاب، الأعمال الكاملة، دراسة وتحقيق عصام عبد الفتاح، القاهرة: مكتبة جزيرة الورد، 2009.

  5. يوري لوتمان، مشكلة المكان الفني، ترجمة سيزا قاسم، ضمن: سيزا قاسم وآخرون، جماليات المكان، الدار البيضاء: دار قرطبة، ط 2، 1988. ص 68-86.

 

هوامش

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب