news-details

كَفٌّ تلاطمُ مخرزًا (4-4)

قراءة في رواية "بلد المنحوس" لسهيل كيوان

يشير الكاتب قبل الشروع في سرد روايته إلى أنّها رواية خياليّة، وأنّ أيّ تشابه بين شخصيّاتها وأيّ شخصيّة حقيقيّة أو حدث من أحداثها في الواقع هو مصادفة ارتطام الخيال مع الواقع، انطلاقًا من حقيقة كون الرواية نتاج تخييليّ غير حقيقيّ، لكنّه يعالج الواقع. ورغم ذلك يجد القارئ عناصر واقعيّة حقيقيّة كثيرة تأتي لتلتحم بالمتخيّل موثّقة بعض الأحداث والشخصيّات الواقعيّة التي يسعى الكاتب إلى توثيقها وغرسها في وعي القارئ العربيّ،منها سياسة الاغتصاب التي تبنّاها اليهود لدفع العرب إلى ترك البلاد حفاظًا على أعراضهم، أو تلويثهم مياه الكابري وانتشار مرض التيفوئيد الذي أودى بحياة كثيرين من أهل عكّا، أو اغتيال الطبيب أنور الشقيريّ ومن ثمّ وصف بيت عائلة الشقيريّ الذي استولى عليه إيزاك، أو ذكر بعض الشخصيّات مثل ضابط الشرطة أحمد شكري مناع من مجد الكروم الذي قاد المقاومين في عكّا، أو كلّ ما يتعلّق بالمكان ووصفه، مثل خانات عكّا وحاراتها المختلفة ونحو ذلك.

يوظّف الكاتب تقنيّات عديدة ومختلفة تمكّنه من الخروج إلى موضوعات كثيرة، أو لتخفّف من رتابة السرد، أو لِتَبثّ النشاط في نفس القارئ لمواصلة القراءة، ونحو ذلك، وتجدر الإشارة إلى أسلوب الإرجاء الذي يوظّفه في الرواية كصنيعه في سرد العلاقة بين زهرة الخيّاطة وزوجها مالك الجارحي، فبعد اغتصاب زهرة يدخل زوجها ولمّا تلملم جسدها بعد، وحين يراها على تلك الحالة يسقط على الأرض ويضرب رأسه بالمسطبة، فيسيل دمه، ويخرج من بيته راكضًا لا يلوي على شيء، ولا أحد يعرف عنه شيئًا، هكذا يُبقي الراوي قارئه في حالة من الترقّب والانتظار لمعرفة مصير الجارحي، فيحثّ نفسه على القراءة حتّى يصل نحو النهاية إلى مصير الجارحي الذي استقرّ أخيرًا في دولة الكويت، ليواصل عمله في شركة (بريتيش بتروليوم) التي عمل فيها في حيفا بوساطة صديقته جانيت هيرتمان التي سكنت في بيته. ومثل ذلك ينهج في حالات أخرى كإرجاء الحديث عن مصير كلّ من أختي إيزاك الحقيقيّ، ليئة التي عاشت في روسيا وتوفّيت، وريبيكا التي وصلت إلى البلاد، لتعمل في بيت المسنّ التابع لكيبوتس (محاربو الجيتووات)، ويتمّ لها بالتعاون مع كرفدان شكري الزيدان، الكشف عن حقيقة راتشينسكي (إيزاك المنتحَل) ليغرق في دوّامة عذاباته حتّى يتمنّى الموت.

اقترن أدب سهيل كيوان بالسخريّة على اختلاف أنماطها، وتحضر هذه السخرية في مواضع عديدة من الرواية ومن ذلك تلك السخرية المبطّنة في انتقاد سلوكيّات الناس، إذ يقول الراوي: "هناك أمور غامضة لدى كثير من الناس، البعض يشعر بأنّ وشمًا على ذراعه، أو جبينه، أو على ظهره، يجعله جميلًا ومقبولًا أكثر لدى الآخرين، وخصوصًا بعيون الجنس الآخر، البعض يظنّ أنّ حلقة نحاس في رسغه تغيّر شكله وتجعله أكثر توازنًا وقبولًا، البعض يُثَبِّت حلقة بأذنه، أو بُكْلة في شعره، لكسر رتابة المنظر، هذه الإكسسوارات تعني أمورًا غامضة لدى الكثيرين من البشر بوعي أو بدون وعي منهم"(72) وفي هذه السخرية ما يعكس زعزعة ثقة الإنسان بنفسه، أو عدم رضاه بما وهبه الله من هيئة، كما تشي بضعف في شخصيّته فيبحث عن تلك الإضافات تعويضًا عن ذلك الضعف ونحو ذلك. وأحيانًا تأتي السخرية جليّة كسخرية الراوي من شكل وصورة رسمي مخلوف يوم الاحتفال بالأوّل من أيّار، فيقول الراوي: "وكان هناك ممثّلون على ما أطلقوا عليه (الوسط العربيّ)، على رأسهم رسمي مخلوف الأفندي الذي صار له حاشيته، وأنصاره، يدورون حوله، ويتبعونه في كلّ حركاته، وقد شنق عنقه بربطة حمراء، على قميص أبيض، وحلّة كحليّة، وبدا كأنّ السماء أمطرت شقائق نعمان بالألوان الثلاثة؛ الأحمر، والأزرق، والأبيض"(179). وتأتي سخرية الراوي على الغالب مشحونة بنبضات فكاهيّة، مثلما نجد في مشهد ختان إيزاك وتصوير سلوكه الغاضب بعد أن جرحت حشفة عضوه وبدا رأس العضو كرأس عصفور ذبيح(193 – 197).

يعي كيوان دور اللغة وأهمّيّة تشكّلاتها في الرواية وقدرتها على خلق عوالم عديدة متآلفة أو متنافرة، وعليه لا تأتي لغة بلد المنحوس على نمط واحد، إنّما متنوّعة ومختلفة باختلاف الشخصيّات والأحداث أو الحالات المصوّرة في الرواية، فهو يلجأ منذ بداية الرواية إلى صبّ لغته في قالب تراثيّ، هو قالب الحكواتي كما تقدّم، مسترسلًا في سرده باللغة المحكيّة، ثمّ يستأذن القارئ بالانتقال إلى اللغة المعياريّة التي تكاد تهيمن على عالم النصّ، لكنّه يتحوّل في كثير من الحالات إلى اللغة العامّيّة مطعّمة أحيانًا بالطرفة أو بالأمثال الشعبيّة المنتشرة في تضاعيف الرواية خاصّة في باب "لحسة الإصبع" وفيه مشهد يُظهر رسمي مخلوف مستغلًّا  علاقته مع إيزاك، ومن ذلك : "إطعم الثمّ بتستحي العين" و "التمسوا حاجاتكم بالستر"، "ادفع ثمن الزمّيرة يزمّر ابنك" و "الدنيا حكّ جحاش، حكّ لي بحكّ لك" وغير ذلك.

 يتّخذ السرد في بعض المواضع لغة شعريّة رومانسيّة يستدعيها الموضوع المتحدّث عنه كالموقف الذي يصف شكري وهو  يسترجع علاقته مع ابنة خاله ياسمين، ويصغي في داخله لأغنية "رقّ الحبيب وواعدني" يقول الراوي: "كانت أغنية "رقّ الحبيب وواعدني" لأمّ كلثوم قد أحكمت نغماتها على حاسّة سمعه الداخليّة، كأنّها أسطوانة تدور في داخل رأسه، لا يملّ من تكرار اللحن الذي سيطر على ذهنه في كلّ لحظات نهاره"(202 – 203)، وتزداد اللغة الشعريّة رقّة في مشهد لشكري وهو يتأمّل جسد بات شيبع وهي تتسفّع على شاطئ البحر، يقول: "صارت نظراته تطول، ويتأمّل بتركيز وطمأنينة أكثر، سرى في أوصاله خدَرٌ طال كلّ أطرافه، يتكامل جسد الأنثى العاري ووشوشات الأمواج مع الرمال، ليس لكلّ الأمواج الإيقاع نفسه، بعضها أسرع من بعض، وبعضها أعلى من بعض، بعضها يهاجم، وبعضها متوتّر، وبعضها مسترخٍ، وبعضها يهمس، وبعضها يهدر في دمه رغبةً وشبَقًا"(210).

تحضر اللغة الجنسيّة في المواضع التي تجسّد علاقة جنسيّة بين الشخصيّات كالعلاقة التي جمعت راتشينسكي وابنة خالته ريبيكا، تسأله ريبيكا إن كان يحبّها حقًّا، فيجيب أنّها تعرف عشقه لها، فيضيف الراوي: "ساد صمت بينهما، بدا كلّ شيء ساكنًا سوى حفيف الأشجار، ضمّها إلى حضنه [...] اقترب أكثر والتصق بها فتهاوت بين ذراعيه. أمنحك نفسي زوجة على نهج عقيدة آبائنا وأجدادنا، أبراهام وإسحق وموشيه. وخلال دقائق كانا ممتزجين بقوّة وشهوة، يتدفّقان بماء الحبّ والحياة"(92).

هكذا تتعدّد لغة الرواية بتعدّد المواضيع المطروحة تارةّ، أو بتعدّد الشخصيات لتعكس لغة كلّ شخصيّة الخلفيّة الثقافيّة التي انحدرت منها، أو لتضفي مسحة واقعيّة على الرواية في توظيف اللغة العامّيّة المحكيّة، أو  توظيف اللغات الأجنبيّة حين لا تتقن الشخصيّة لغة الشخصيّة التي تخاطبها مثلما نجد في الحوار بين قدّورة السيّد الذي لا يجيد العبريّة ويوناثان، أو بين قدّورة والضابط أوريا، إذ يستخدم قدّورة اللغة الإيطاليّة محتجًّا لسيطرة اليهود على دارة الفنّ قائلًا بالإيطاليّة:"كويستوبوستوسونو إيو، هذا المكان لي"(117). يلجأ الراوي أحيانًا إلى ترجمة ما قاله قدّورة بالإيطاليّة إلى العربيّة، يؤكّد ذلك قول الراوي: "ردّ قدّورة بالإيطاليّة: دعني أعبّر عن غبطتي ومفاجأتي لهذا الاستقبال الرائع، وأن أتحدّث بالإيطاليّة أو الإنكليزيّة، لم أتعلّم العبريّة بعد كما يجب، ولكن أعدك أنّني سأتعلّمها بسرعة"(223). وتحضر كذلك اللغة العبريّة على لسان بعض الشخصيّات اليهوديّة مثل بات شيبع وقولها لشكري: "بوهينا ييلد" أي تعال يا ولد، أو "تعسيه طوفاه" أي اعمل معروفًا (211- 212)، بذلك تظهر اللغة الموظّفة في الرواية مزيجًا من قوالب وأنماط لغويّة عديدة لتؤكّد أنّ لغة الرواية هي  لغة جميع شخصيّاتها.

يوظّف الكاتب أسلوبين مغايرين في تصوير شخصيّاته، فتارة يصوّر الشخصيّة من خلال الحدث وتتكشّف سماتها شيئًا فشيئًا مع تطوّر الحدث، ممّا يجعل القارئ مشاركا إيجابيًّا في إنتاج النصّ، وهو يستجلي مقوّمات الشخصيّة من خلال الدور الذي تقوم به،ومن ذلك تصوير شخصيّة المعلّم قدّورة وتصدّيه لزمرة الجنود اليهود الذين سيطروا على دارة الفنّ وآلة القانون التي أحضرها من مصر، إلّا أنّه يفاجأ بهجوم شرس عليه، وينال ضربًا مبرّحًا، ويُكْسَر العود على رأسه، ويخرج ودمه يسيل على وجهه، يقول الراوي: "شعر كأنّما هو في حالة سقوط في هوّة سحيقة، لم يستوعب أن يهان ويُضرب ويُطرد من دارة الفنّ كما لو كان جرذًا متطفّلًا، المكان الأحبّ عليه من بيته، والذي بذل فيه دم قلبه"(118). لكنّه يلجأ في أحيان أخرى إلى تصوير الشخصيّة بأسلوب مباشر، ويقدّم الشخصيّة دفعة واحدة بكلّ تفاصيلها دون أن يترك دورًا للقارئ ليتفاعل مع الحدث أو مع الشخصيّة، وليظهر متلقّيًا سلبيًّا، ومن ذلك قوله في شخصيّة جانيت: "جانيت في الثلاثينات من العمر، موظّفة إنكليزيّة في شركة بريتيش بتروليوم، وصلت عكّا قبل أكثر من أربعة أعوام، تعمل في مصفاة بترول خليج حيفا، تعرّفت على أهل عكّا وسكنت بينهم..."(59).

يشعر القارئ، وهو يتابع أحداث الرواية، بنوع من الملل لما يُحدِثه الراوي من ترهّل في الوصف كما يفعل في وصف شكري على الشاطئ، فلا يترك أيّ شيء في محيط الشاطئ إلّا ويأتي على تصويره، إذ يقول: "خرج شكري متّجهًا إلى الشاطئ الجنوبيّ الشرقيّ من المدينة، المقطع الأوّل من الشاطئ الملاصق لسور ضيّق، ومعروف باسم شطّ العرب، فيه هيكل حديديّ ضخم قديم جدًّا، ربّما كان لسفينة كانت قيد البناء وأهملت. يليه مباني المدرسة البحريّة الإنكليزيّة التي صارت مدرسة ضبّاط البحريّة الإسرائيليّة، وهي مغلقة ومسيّجة وحولها أبراج مراقبة، ثمّ شاطئ صغير مغلق خُصّص للنساء المتديّنات اليهوديّات، مسيّج بالحصير والقصب، ثمّ شاطئ مفتوح، الناس منبطحون بقرب بعضهم البعض"(201)، يستمرّ في وصفه ذاكرًا الشاطئ الأبعد، الأجمة الصغيرة من أشجار إبريّة، بعض بيوت من التنك وما بينها من حيوانات، أطفال عراة، مصبّ نهر النعامين، أشجار من الحمضيّات والتوت، وخليط بشريّ من الحضر والبدو، هكذا يسترسل في الوصف على مساحة تزيد عن صفحتين، ممّا يثقل على كاهل القارئ رغم ما تحوي من معلومات وتفاصيل تقرّب الحدث من الواقع، ثمّ يقحم بعض المضامين على هذا الوصف مثل الحديث عن عائلات عكّا المختلفة، كيبوتس مساريك، تلّ كردانة، كريات حاييم، ثمّ يتوقّف لتزويد القارئ بنبذة عن حياة حاييم أرلوزوروف ومصيره الذي آل إليه، وفي ذلك ما يُشعِر بالفتور ويُقصي القارئ عن متابعة الأحداث الرئيسيّة.

وبعد؛ فإنّنا لا نبالغ إذ نعتبر  رواية بلد المنحوس أشبه بدائرة معارف، فهي توثّق في المقام الأوّل لأحداث هامّة قبل النحسة، وتحفظ جزءًا هامًّا من تاريخ البلاد وما جرى لمن أصرّ على البقاء في البلاد من الشعب الفلسطيني بعد النحسة، والدور الذي قام به هؤلاء في الحفاظ على البلاد وإثبات حقّهم فيها، رغم كلّ الخسائر التي لحقت بهم، وهم يدافعون ببسالة عن بلادهم، هذه الخسائر تتقزّم مقابل ما حقّقه فلسطينيّو الداخل، لقد حافظوا على بلادهم وتراثهم من الضياع.كما تكشف الرواية في المقام الثّاني عن الجهد الكبير الذي بذله الكاتب، وهو يبحث، يدرس، ويتقصّى مثبتًا كلّ شاردة وواردة تثري روايته سواء بالمعلومات القيّمة الني يوردها، أو  بتوثيقه وحفظه لمعالم عكّا التي ما زالت حيّة في نفس كلّ فلسطينيّ، ناهيك بما تعكسه الرواية من قدرة فنّيّة واطّلاع واسع على عالم الفنّ القصصي، وتقنيّات السرد قديمها وحديثها، كلّ ذلك يشهد للكاتب سهيل كيوان برقيّ إبداعه واعتباره في مصافّ المبدعين المتميّزين محلّيًّا وعربيًّا. 

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب