في هذا الوقت المُتعَب، وسط انشغال العالم بالجوع والعزلة والوحدة والموت، الموت الجحش الّذي اعتنق لونا واحدا واستقال من حياة ملوّنة واسعة يُحبّها، ننشغل نحن في ال 48 في صناعة الأدب، النّقد والقليل من النّثر. في ملتقيات الأدب يَعُرُّ النّقد والتّسميات الّتي نطلقُها جِزافا على فلانة وفُلان، فالكاتبة الفُلانة تصبح خلال سنتين من تاريخ مقالتها الأولى باحثة وناقدة والأخرى ناقدة بامتياز، وغيرها لا تقبل بأقلّ من باحثة مُحَبّكة بالشدّة. وفوق المِنصّات نُلاحظ النّاقدات الكثيرات ممّن لم يتخرّجن من الأكاديميّات الأدبيّة أو الفنيّة يستعرضن نقداً لأعمال أدبيّة. ومعظم النّاقدات، يُسَوِّغن المشاريع القصصيّة، الشّعريّة، والرّوائيّة ويمنحنها رخصة اختلاف وابداع دون كثير بحث ودون ارفاق مراجع تجيز طرحهنّ النقديّ كي يُطلعنَ القارىء| السّامع على الأقل على مصادر الثّقة الّتي دعمت طرحهنّ بالمعرفة البائنة. فهل يجوز للنّقد أن يُغافل الظّرف البائس الّذي يغمرنا بالعُزلة والوجع، ويتسلّق تسميات الحياة بهذه السّهولة؟ ان الغريب أنّ النقّاد خلاف (النّاقدات) لا يزالون على وفائهم لمرجعيّات الكتابة النّقديّة ودلالاتها، وممّن يكتُبن من النّساء وحدهنّ يعلينَ ويُخفِضنَ من شأن تلكَ وذاك، وكي أكون صريحة فهنّ غالبا يمزّقنَ سماء الأدب بالتميّزِ والابهار.
وسؤالي، هل ما يحدث صدفة، أم أنّ الرّكود الأدبيّ في الدّاخل الفلسطيني شأن الوجه الثّقافي في العالم العربي، هذه الأيّام، هو ما يستنهض الأقلام غير المُرخّصة لاختراقِ حاجِزِ الممنوعِ والممكن؟ وهو من يدفع بالمقالات السّعيدة أن تتجاوز أسواقَ النّقد وتنتشر مثل ملاقط غسيل على كلّ جدار جريدة وموقع ثقافيّ؟ من المهمّ هنا ألاّ يُفسَّر الكلام على أنّهُ شخصيّ لكن على أنّ كلّ حرف فيهِ مقصود ويريد أن يُعلن بجرأة بالغة أنّ الكتابة ليست فعلا انتهازيّا ضائعُ النّسب، انّما فعل شجاعٌ يختار الأحداث في مواقيتها كي يرفعها للعلن ويرتفِعَ بها. ما جدوى أن تجد السّاحة شاغرة والفكر منشغل عن الأدب بهمومهِ الانسانيّة فتكثرُ من اللّغط في كلّ مجال وأنت تعرف أنّ الأذهانِ ذاهِبة عمّا أنت فيهِ، ثمّ تُنصّب نفسك على الثّقافة والثّقافة ذاتها في شُغل عنك؟ للثّقافة مواعيدها، وللقضايا المصيريّة كلّ الحياة، وعليكَ أن تكون مهيّئا ومفاهيم التّواصل يحتدم سعير أخطائها لتفسير ذاتك للآخر بعيدا عن منزلقات الفهم الخاطئ الّتي للكلمة الّتي تقولها، وألّا تنسى في خضمّ معركة السّيادة على أكوام القشّ المُحترقة تحتكَ أنّك فوق الرّمادِ بكثير وضدّ أن ترفع القشور لمرتبة المسائل الحارقة وتبثّ فيها كي تصير عَلماً والأعلام كلّها مُنكّسة.
انتهازيّة الأدب الّذي ينزل بمنطادٍ من الفضاء معبّأ بكتلة هوائيّة باردة تُشتّي قلقها وترتاح أسوأ ما خرج علينا بهِ ظرف الانتكاس الرّوحي الّذي نعيشهُ، الحرب بويلات واقعها النفّسيّ والجسديّ على حدّ سواء. وعليهِ نتساءل نحن هل هؤلاء الّذين يحترقون على سيرورة الثّقافة ويزيّنون المِنصّات، وأعمدة الجرائد معجونون من اللّامبالاة مثلا أم أنّ تنقية مُنغِّصاتِ الحياة من شوائب المَشاعر حرفِتهم الأثيرة في التّعبير عن تفوّق؟ الأسئلة الآن ستظلّ معلّقة شأن الإجابات وسوف نكتشف في لحظة ما حين يهدأ كلّ شيء وتتلوّن الأمزجة أنّها سقطة فظيعة في تاريخ الكينونة الفكريّة لنا كشعب، وتحتاج ارتدادا سريعا الى صفحة الأدب الأولى حيث تركنا القهوة على نار هادئة والأوراق على طاولة العجين في المطبخ تنتظر أن تصير خبزا سائغا للجياع..
حزيران 2024
إضافة تعقيب