news-details

"وداعاً يا أفامية" وندامة الكُسعي| عبد الرزاق دحنون

وندمتُ ندامةَ الكُسعي، هذا الأعرابي الذي كَسرَ قوسَ نشّابه بعد ظنّه في ليلٍ أغبش أنّه أخطأ في صيدِ حمير الوحش. وأنا أيضاً أخطأتُ التقدير ذات نهارٍ ربيعيٍّ مشمس، وذلك حين عدتُ إلى شراء رواية "وداعاً يا أفامية" من بائع الكتب المستعملة الذي يفرش كتبه على رصيف فندق الأمير في حلب الشهباء، ولم أجد للرواية أثراً، وأنا الذي رأيتها في صندوقٍ من الكرتون، مرصوصٍ بالكتب.

 

سألتُ البائع: أين رواية "وداعاً يا أفامية" التي كانت هُنا قبل ساعتين؟ ابتسم، وحدّق في وجهي مُستغرباً، ثمَّ قال ببساطة: بيعت. فأُسقط في يدي. نسخة وحيدة طارت من يدي كما طار حمام محمود درويش في رائعته "يطير الحمام". شردَ الحمام كما شردت روايتي التي فرَّطت فيها عندما كانت في متناول يدي. وها قد مضت الأعوام الطوال على الحادثة، وما زلتُ أشعر بغصّة في الحلق وأندم أشدّ من ندامة الكُسعي، لأنني فرَّطتُ في الرواية، أنا الذي كنتُ أُقلّب صفحاتها الجميلة "وخير جليس في الزمان كتاب".

 

من هو الكُسعي؟ في الجواب: هو محارب بن قيس الكُسعي، يُنسب إلى كُسَع، وهي قبيلة من اليمن. ويُذكر من خبره أنّهُ كان يرعى إبله في البر، فرأى شُجيرةً يصلُح عودها للسهام، فسقاها من قربته وظلّ يداوم على سقايتها حتى استوى عودها، فصنعَ منها قوساً وخمسة أسهم. ثم أتى أرضاً صخرية تكثرُ فيها حمير الوحش، فكمن في الفجر في ركنٍ حريز، منتظراً قدومها. وحين رأى سرب حمير الوحش وترَ سهماً ورمى، فقدح السهم في الصخر، فظنّ الكُسعي أنّ السهم قد خاب، فانتظر، ثمّ وترَ سهماً آخر ورمى، فقدح السهم شرراً في الصخر مرّة أخرى. وصنع الأمر نفسه بسهامه الخمسة، فاستبدّ به الغضب، وهوى بقوسه على الصخر، حتى كسّر القوس تكسيراً. غير أنّه بعدما خرج من مكمنه وقد طلعت الشمس، وجد خمسة من حميرِ الوحش قد أصابتها السهام الخمس، فعلم أنّ سهامه كانت تخترق كلّ الطريدة ثم تقدح في الصخر، فندمَ على كسر قوسه. وقال نادماً حيث لا ينفع الندم:

 

ندمت ندامة لو أنّ نفسي

تُطاوعني إذاً لقطّعت خمسي

تبيّن لي سفاهُ الرأي مني

لعمر أبيك حين كسرت قوسي.

 

سارت ندامته مثلاً لكلّ نادم، فقال الفرزدق لما طلّق امرأَته نوَّار، وندم:

 

ندمتُ ندامة الكُسعي لما

غدتْ منّي مُطَلَّقَةً نَوَارُ

وَكانت جنّتي فخرجتُ منها

كَآدم حين لج بِهِ الضِّرارُ.

 

النسخة الأنيقة من رواية "وداعاً يا أفامية" والمُجلّدة بعناية حرفي ماهر بحواشٍ مُذهبة، والتي كانت بين يديّ، صادرة في دمشق عام 1996، وكنتُ أُقلّب صفحاتها على مهلٍ لألمحَ فيها وجه بطلتها "جود" تلك الصبية البدوية الرائعة الجمال. ومرّت الأعوام ولم أُصادف الرواية من جديد في أيّ مكان. وكنتُ أحنُّ إلى "جود"، كلّما تذكّرت الرواية أو قرأتُ عنها، واستمر هذا حتى صيف عام 2014، حيث وجدتُ أختها التوءم في المركز الثقافي في مدينة إدلب في الشمال الغربي من سورية. فرحتُ بها وقرأتها على مهل لأنّني كنتُ موّظفاً مؤقتاً في مكتبة المركز الثقافي لمدّة ستة أشهر، حرثتُ فيها كتب هذه المكتبة العريقة التي زادت عن 33 ألف كتاب حرثاً عميقاً.     

 

مؤلف رواية "وداعاً يا أفامية"، هو مهندس في الكيمياء والمعادن ودكتور في العلوم الفيزيائية، سوري من مدينة حلب، اسمه شكيب الجابري بن مراد بن مفتي حلب عبد القادر لطفي الجابري الحسيني، ولد في حلب سنة 1912 وتوفي في الرياض السعودية عام 1996. وهو من أسرة عريقة مشهورة بالوطنية والثراء، وقد عمل العديد من أفرادها في السياسة وشغل بعضهم مراكز هامة، أبرزهم عمُّه سعد الله الجابري.

 

أحببتُ أن أقرأ الرواية من جديد، فبحثتُ عن نسخةٍ إلكترونية في الشبكةِ العنكبوتية، فلم أجد لها أثراً. وبطلة الرواية "جود" ما زالت تُلاحقني وتلحُّ في الحضور في يوميّاتي هنا في المرتفعات الجبلية في مدينة إزمير على شاطئ بحر إيجة، حيث أسكن مع أسرتي منذ سبع سنوات، نازحاً من مدينة إدلب في الشمال الغربي من سورية. ماذا أفعل؟ ها أنا أذهب إلى الصديق العزيز الكاتب والروائي السوري فيصل خرتش الذي يكتب في مقال منشور في ضفة ثالثة في "العربي الجديد" عن رواية شكيب الجابري: "إننا أمام نصّ يدلّ على ثقافة عربية عميقة يتبدّى كلّ ذلك من خلال بعثة أوروبية موجودة في أفامية في سهل الغاب على تخوم مدينة حماة، وتعمل معهم جود، الفتاة البدوية التي يصف جمالها شكلاً ومضموناً. إننا أمام فتاة تبارك الخلاق عندما أعطاها هذا الحسن وهذه البراءة، يغويها أحد رجال البعثة، وفي لحظة طيش تستسلم له، وعندما يتنكر لعمله، تضطر إلى الهرب خوفاً من انتقام العشيرة، تهرب إلى الغاب، حيث تلتقي مهندساً وهو شاب سوري كان يعمل في التنقيب عن المعادن، أحبّها وأحبّته، وكانت الخاتمة بالزواج. هذا الصراع الذي دار في العمل الروائي، الذي تجسد بين جود، وأحد أفراد البعثة، صراع بين الشرق والغرب، بين البداوة والحضارة، صنعه الكاتب في روايته هذه. لقد أراد الدفاع عن قيم شرقية، أمام فكر غربي، مع أنه ذهب إلى الغرب، وعايشه، وبقي هناك لسنوات، لأنه مأزوم من الداخل، ولا يستطيع التخلّي عن شرقيته. المهم في ذلك أنه حصل من الغرب على تقنيته وعلومه، وبقي محنّطاً تجاه هذه الأخلاقيات، يقول هو عن ذلك: أنا طريد المدنيّتين". ورحم الله الشاعر أبا البقاء الرندي القائل: لكلّ شيء إذا ما تمَّ نقصان.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب