news-details

"حياة الماعز"، جحيم استغلال العمال في أنظمة النفط والغاز | رياض خطيب

مع ازدياد وتيرة تدفق أموال النفط والغاز بباطن أرض الخليج (العربي) ازدادات طموحات حكام هذا الخليج في توسيع الدورة الاقتصادية من خلال حركة بناء تحاكي ما يجري في العالم من مشاريع ضخمة وأبراج مميزة، وشوارع اوتستراد وقصور ملكيّة وجنائن مستوردة بكاملها وفق خطط وآفاق هندسية غربية وعالمية، وكلّه مقابل أموال ما تزخر به الأرض العربية من موارد هائلة كان من المؤكد إمكانية أن نبني بها قوة عربية تشكل منافسًا حقيقيًا لكبار الدول التي تهيمن على الاقتصاد والسوق العربية، ومن خلالها ممكن أن نتحوّل إلى قطب عالمي جديد يشكّل نقطة انطلاق نحو حل مشكلة الأزمات العالقة بعالمنا العربي وعلى رأسها قضية فلسطين وشعب فلسطين.
هذه الحركة الاقتصادية لفتت الانظار لدى الشعوب المنكوبة بالفقر والجوع والتّخلف وخلقت ظاهرة العمالة الأجنبية مع تدفق ملايين العمال من الهند وباكستان وغيرها من الدول الأسيوية، وفق شروط عمل تفتقر إلى الحد الأدنى من الحفاظ على كرامة الإنسان بظروف وشروط عمل وصلت إلى مستوى العبودية..
وبطبيعة الحال فإنّ الفن السينمائي من أكثر ما يمكن من خلاله نقل صورة هذا الواقع المأساوي الذي خلقته ظروف وتشغيل العمالة الأجنبية بهذة المنطقة من العالم
التي تسبح فوق بحر من النفط والغاز.
"حياة الماعز" هو الفيلم الهندي الذي يشكّل مدخلًا اساسيًا لتصوير ونقل حيثيات هذا العالم الرهيب.
نجيب وحكيم شابّان كغيرهما من عشرات آلاف الشبّان الذين يبحثون عن عمالة بدول الخليج ممكن أن تحقّق طموحاتهم في مستقبل وتكوين بيت وأسرة سعيدة 
 كغيرهم من جيلهم بهذا العالم الواسع.
نجيب متزوج من سانتا، وحلمه أن يبني ولو غرفة وبيتًا صغيرًا يجمعه بزوجته وابنه القادم على الطريق، فيقرّر أن يغامر بكلّ ما يملك من مدّخرات عمره هو ووالدته بعد أن رحل والده عن هذا العالم، لعلّ وعسى أن تمكّنه هذه الغربة لسنتين أو ثلاث سنوات من تحقيق حلمه والرجوع إلى وطنه وبناء أسرة وبيت متواضع. لا يتعدّى طموحه المتواضع أكثر من ذلك.
يتعاقد مع وكيل من أجل السفر إلى السعودية والعمل في شركة نفط هناك مقابل مدخول مادي طيب وغرفة مجهّزة له ولرفيق قريته حكيم.
بعد وداع زوجته وأمّه يسافر بالقطار تاركا وراءه أهله وبلده الذي يحب. يصل السعودية وهناك تتكشّف خيوط ما حيك له من مؤامرة من قبل وكيل السفر الذي يسلّمه إلى تاجر مواشي ماعز وأغنام وجمال في بقعة هناك في صحراء الموت السعودية، ولن تنفع كل محاولته بإقناع الوكيل السعودي بأن هناك خطأ، فهو أتى وفق التفاق الى العمل بشركة نفط سعودية وليس بمزرعة مواشي بصحراء نجد.
وهنا تتكشّف حقيقة الواقع الذي ينتظر نجيب وسط محيطه الجديد وطبيعة الحال هناك من إذلال وقهر وجوع. حتى يبدو بأنّ الماعز تتمتع بشروط أفضل كثيرًا ممّا يتمتع به الإنسان، وهنا يأتي دور المخرج في إيصال رسالة الفيلم ونبضات الجرح الإنساني عندما يتحوّل الإنسان إلى عبد يخدم سيّده وماعزه بدون أي شروط ممكن أن تشعره أنّه فعلًا ما زال إنسانًا!
هنا يستعمل المخرج المبدع تقنية الفلاش باك من خلال المقارنة بين حال نجيب الآن وحاله عندما كان بقريته مع زوجته وسط أهله وناسه في عالم رغم القلّة والفقر ولكن على الأقل حيث الماء يتدفق أنهرًا جميلة ساحرة، والدنيا من حوله خضراء زاهية حيث تُشعِر الإنسان على الرغم من فقره أنّه فعلًا لا زال إنسانًا.
تمرّ الأيام والشهور والسنوات، ونجيب تحوّل بفعل الجوع والقهر والعفن إلى مخلوق آخر، لم يستطع هو نفسه أن يتعرّف على شخصه من خلال مرآة السيارة التي تحضر طعام الحيوانات بهذه المزرعة..
تفشل كل محاولات نجيب بالهروب من هذا الجحيم ويتعرّض إلى عقاب مستمر على أيدي مشغِّله الكفيل باستمرار الإهانة والإذلال.
ونقطة التّحول بمجريات هذا الحدث الدرامي عندما يلتقي نجيب برفيق دربه حكيم الذي يعمل في مكان آخر، ويتّفق الاثنان على تخطيط مشترك للهروب من هذا 
 الجحيم بمساعدة شاب أفريقي كان قد سبقهم للعمل بهذا الجحيم.
وفي اللحظة التي يتأكّد نجيب ورفيقه حكيم والدليل بأن هناك حفلة زواج لابنة كفيله ومشغله تبدأ محطة أخرى من العذاب، وهي لحظة الهروب من هذا الجحيم إلى جحيم آخر تمثّله وتعكسه رحلة العذاب بصحراء الموت هذه.
وهنا يكشف المخرج عن تصوير إبداع اخر من خلال رحلة العذاب هذه وخفايا هذه الصحراء من ظروف مناخية قاسية حيث العطش والجوع وكل أشكال العواصف والرياح التي تتميّز في هذه البقعة من العالم.
رحلة العودة هذه، وكلّ ما تحمله من مخاطر وجودية حصيلتها بأن يفقد نجيب رفيقه حكيم، ومن ثمّ الدليل الأفريقي، ويبقى وحيدًا يصارع الموت بهذه البقعة من الجحيم في هذا العالم.
يصل إلى الطريق نحو الخلاص، وهي اللحظة التي كان يحلم بها مع رفيقيه. 
يتلقّى العلاج المناسب من قبل السلطات التي تقرّر تجميع كل الهاربين لكي يمر الكفلاء للتعرف على عبيدهم، ومن حظ نجيب أن كفيله لم يكن هو الكفيل المباشر الذي باسمه اتفق مع المهرب وكيل السفر. وتقرّر السلطات ترحيله من حيث أتى، وكلّه أمل ورجاء بأن يعود إلى أهله وزوجته وابنه الذي وُلد وهو بالغربة في جحيم المعاناة لكي يكتب له على الاقل العودة إلى حياة عادية وسط أهله وناسه.
إنه فيلم مميز يدمج من خلاله وضوح الرسالة والهدف مع مهنية في التمثيل والإخراج في نقل الصورة كما يراها المخرج، وكان قد أعلن في بداية هذا العرض بأنّ الفيلم يروي قصة حقيقية أصبحت تُشكّل ظاهرة مقلقة وخطيرة تتخطّى كلّ ما احتاجته البشرية من حضارة وتقدّم ورقي، بل تجسّد أبشع أنواع الاستغلال والعبودية التي كانت تسود المجتمعات البشرية قبل آلاف من السنين الماضية..
إنّها قصة تعكس حقيقة هذه الأنظمة التي تحوّلها أموال النفط إلى حيوانات وحوش بشرية تفتقر إلى الحد الأدنى من الانتماء إلى أبسط قواعد الحرية والانتماء لإنسانية الإنسان.
تحية للمخرج وكادر الممثلين على هذا الإبداع المميز الذي أخذ على عاتقه توصيل رسالة واضحة، وبالفعل وصلت الرسالة واضحة، وهنا يبرز دور الفن الملتزم بالحفاظ على الحد الأدنى من الانتماء الإنساني وحقيقة أنّ الإنسان هو أعلى وأثمن ما في هذا الكون.

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب