قالولي: ليه موجّعه راسك؟ شو طالعلك؟ وقد عرفوا أنني أعدّ هذه اللوائح من الملاحظات المتعلقة باللغة العربية. وتابعوا: بكفيش كتبتِ كتاب ونيمتيه بالجارور؟ إرجعي أنشريه أحسنلك... ليه لا؟ لم يطاوعني المزاج على الردّ وتبرير تناسيّ إحدى ثمراتي العزيزات، واكتفيت بالردّ: لأنني فاشله بعلم التسويق! فلت الجواب مني، وخشيت أن يُفسّر على أنّ المقصود تسويق لبضاعة، بينما أعني التسويق للفكرة.
كان تعبيرًا فاشلًا لا يمسّ جوهر الحقيقة بقدر ما ينحرف عنها. وكان الأصحّ القول: علم أصول النشر، وأنا ذاهبة لنشر جديدي في موقع إلكتروني لا يلحق جيبي منه سوى الخسارة. ولم أشأ اختلاق جدل حول صوابية ما أقوم به. وكانت لحظة بمثابة ومضة أعادتني إلى قول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "عش لدنياك كأنك تعيش أبدًا، وعش لآخرتك كأنك تموت غدًا". إذًا، أنا أُطبق هذه الحكمة من حيث لا أدري، ولم أقصد. وذاك لأنني محكومة بقوة دفع داخلية تنحدر من حبي المطلق لطرفين اثنين: أمي ولغتها أولًا وإخوتي/أبنائها ثانيًا.
ما عليّ أن أنمق هذا الإحساس لأقنع ذاك الآخر بأنني لا، لست منحازة لجيل أحفادي. خاصةً وأنّ ما قدمته قبل أن يُحلَم بهم يفوق هذا بكثير. لكن ما أراه اليوم من تهالك على القضم الذي تتعرض له عباءة العربية لا يشفيه ردٌّ وتبرير. إنما العمل. أمّا سرّ انبعاث هذه الإرادة على نشر شُعَف من تلك الملاحظات فعائد لاستئناف نشاطي كداعمة لأحفادي وأترابهم المقربين. وقدّ صُعقتُ بالقصقصة الفاضحة الجريئة لثياب لغتي المحشومه، وبالأخص ثيابها الداخلية.. وهذا يؤكد على استراتيجية خبيثة مستترة تقوم على ضرورة سدّ مسام نابضات التواصل بين أبناء الأمّ الواحدة. إنها فتنة، وقد وصل معها حدّ المقصّ إلى العظم!
هذه ليست صفحة من الهواجس القابلة للاختزال بهاجس وهميّ. إنها حقيقة تتوضح معالمها عامًا بعد عام، ويومًا بعد يوم. إنها صفحة تكتب في التاريخ، وكلّ يراها من خلال منظاره الخاصّ بأولوياته. وصدف أن تكون إحدى أولوياتي، وهي ناجمة عن عقيدة راسخة ترتفع عليها أعمدة الانتماء، وهي: الهواء التراب واللغة. هذا الثالوث المقدس يجتمع ماءً جاريًا في أوردة آمال وأحلام كلّ راغب بحياة ذات طعم لون،رائحة، صوت ... وصدى، وهو قيمة إضافية تشهد على تفرّد مبدع اللغات دون سواه من المخلوقات.
وصدف أن تكون حيلتي لاكتساب هذه العناصر ما كدّسته في جعبتي على مدار أعوام. إنّه فلسي. وأنا مستعدة لتقديمه امتنانًا لمربيتي... وكرمةً لمن لا يرفض الزلزلة بها كمربية أولى للذائقة الفنية الأدبية الأخلاقية. وإني وإن كنت قد عدلت عن إطلاق سراح كتاب موّسع يتناغم مع حالتها، وهو مشغول بدقة من حيث التبويب والتفصيل والتسلسل والترابط، إلّا أنني تراجعت اليوم وحالة الانتماء في تدهور مطّرد قد انسحب على المتلقين واقعًا متأزمًا يحتّم على كلّ معنيّ تقديم فلسه كرمةً للكرامة.
عشرون عامًا كافية للخروج من تأثير الصاعقة. لكن هذا سيكلفني فلسي مع الضريبة المضافة. لا بأس. فلس مني... فلس منها... منه ... يمكن تحقيق حالة من الاعتدال، فقد تجول دون الإملاق، ولو مرحليًا. هذا حلم لم أسهر على تربيته وأقبل باغتصاب حقه بالحياة الكريمة، أو الإيقاع به بكذبة زمنية، أو استغبائه، أو استدراجه لعمليات تجميل (تهجين) تطمس محاسنه الطبيعية. فما بالك لو كان متعلقاً بانتماء جيل أحفادي؟!
"مالك ومال هالشغله! مش رح يطلع بإيدك تفتحي الحيط... صار الباطون يابس!" بل سأحاول فتح ثغرة أحرّر من خلالها صيادي الشياطين التي تقرض ثوب ولدي مبتسمة فرحةً بغبائي.. إنها تلك القابعة على رفوف المنهج المستكين لعصر لا يُقيم أدنى وزن للعلوم الفلسف/روحية النابضة في قلب اللغة. (أي لغة) والتي قامت عليها وترسخت الحضارات الخالدة.
فأقول: لا تيأسُنّ إذا كبوتم مرة – فإنّ النجاحَ حليفُ كلِّ مثابرِ.
علينا أن نهبّ عسكرًا واحدًا للدفاع.
لم أسعَ يومًا لادخار أجرة لدخول الجنة إياها، قنوعة مكتفية بضمير قد يشفع لي فيما لو متّ غدًا. وما دمت حية لن أُبدل من قناعتي بأن حالما تتوقف مجسات الدماغ عن استشعار الفكر تتوقف النفس عن استشعار الجمال، وهو رديف الحبّ وظلّه، وتنتهي الحال بجسد يعيش ولا يحيى. فإن ما بين الهواء والهوى مجرد همزة تدفع للارتقاء من العيش المجرد إلى الحياة الحية النابضة الطليقة. أتنفس هواءً وأهوى جمالًا.
(معليا)
إضافة تعقيب