news-details

آخ يا قلبي | عبدالرزاق دحنون

توقف قلب الشاعر الفلسطيني محمود درويش عن العمل إثر عملية جراحية خضع لها يوم التاسع من شهر أغسطس/آب عام 2008 في هيوستن، تكساس، الولايات المتحدة الأمريكية. ومن الناحية المجازية يشكل قلب الشاعر الجوهر الحقيقي لذاته العاطفية. ولكن محمود درويش لم يفكر يوماً بعرض مكنونات هذا القلب المصاب على الملأ، عبر ما يعرف في الطب بعملية القلب المفتوح. أما من الناحية الواقعية فالقلب في الحقيقة عبارة عن مضخة مملوءة بالدم بحجم قبضة اليد تقريباً، حيث تمكّن الشاعر من خلال عمل هذه المضخة البقاء على قيد الحياة مدة 67 عاماً. 

 كتبت الشاعرة الكويتية سعدية مفرح حينها في مجلة العربي الشهيرة:(محمود درويش قاوم الموت وهو يُصرّ على الحياة عبر بوابة القصيدة الموشاة بالأمل، فكان أن مات بعد أن ترك أسئلة الوجود مفتوحة على أساه الدائم، وقصيدته التي جعلها عنواناً للوطن والإنسان، فصارت اسماً له، وهوية لوجوده في صورته البشرية الأكثر قدرة على اختزال الإنسان. وعلى الرغم من أن الشاعر قد خضع لمشارط الجراحين مرتين قبل ذلك، وفي كل مرة كان يعود للحياة بعد أن يقف على حافة الموت، بالكثير من الأسئلة الجديدة، والتي سرعان ما يزرعها في أرض القصيدة شعراً كامناً في الفتنة، وكأنها بذرته الأولى، فإنه في المرة الثالثة عَبَرَ الحافة، إلى الحقيقة الأخيرة، فكان موته النهائي وانتصاره المكتمل). 

كانت علّة قلب محمود درويش وراثية في الشريان الأبهر ولا علاقة بينها وبين التصلب الشرياني، وأغلب الظن أن لا علاقة بين مهنة الشاعر وأمراض القلب الحديثة. فالشاعر الداغستاني الشهير رسول حمزاتوف عاش عمراً مديداً وكتب كثيراً موفور الصحة وقد تجاوز الثمانين عاماً ولم يسأم.

المشكلات الصحية التي تواجهها المجتمعات الحديثة، كالبدانة وارتفاع ضغط الدم والمرض القلبي الإكليلي ومرض السكري وغيرها من الأمراض المزمنة، هي نتائج تناقض بين ما نأكل وما كان أسلافنا يأكلون في العصر الحجري القديم. إن اللحوم الحمراء المشوية مع الدهن أو المطبوخة مع الرز والبرغل والكثير من الدسم والتدخين والإجهاد والبطاطا المقلية والحلويات شديدة التصنيع والأطعمة الجاهزة. هذه من بين العناصر التي تُتَّهم عادة بالوقوف وراء مرض القلب، الذي أصبح وباء عالمياً. وعلى الرغم من أن القلب يصاب بالعديد من الأمراض، مثل تسرب الصمامات والتهاب الأغشية، إلا أن التصلب الشرياني، أي تصلّب وتضيُّق الشرايين التي تمد العضلة القلبية بالدم الغني بالأوكسجين يُعتبر المسبب الأول لوفاة الملايين سنوياً في مختلف أنحاء العالم. وقد كان لاستيراد أسلوب الحياة الغربية، كالتنقل بالسيارة وكثرة تناول اللحوم والأجبان وقيام الناس بأعمالهم وهم جالسين على كراسي وثيرة، دوراً كبيراً في تفاقم هذا المرض وارتفاع نسبة الإصابة به في البلدان العربية.

ها هي جارتي في الحي وهي سيدة في الستين من عمرها تتمدد على ظهرها في عيادة الأمراض القلبية، واعية، وتحدّق إلى صورة قلبها الذي يخفق على شاشة ملونة. في هذه اللحظة يقوم طبيب القلب بإدخال قسطرة رفيعة عبر الشريان الفخذي بعد إحداث شق في نقطة التقاء الساق مع الجذع، دافعاً إياه إلى داخل الشريان ، ثم إلى داخل إحدى الشرايين المسدودة عل سطح العضلة القلبية. القسطرة مجهزة ببالون صغير عند رأسها؛ حيث يقوم الطبيب بتمرير هذا الرأس برفق حتى يصل إلى النقطة التي أدت فيها تشكل طبقة دهنية إلى إحداث تضيّق شديد وانسداد مجرى الدم في الشريان. وبحركة سريعة تنم عن خبرة ودراية يقوم الطبيب بنفخ البالون لكي يدفع جدار الوعاء الشرياني إلى الاتساع، ثم يفرغ البالون من الهواء ويُدخل قالباً قابلاً للتمدد يشبه أنبوباً صغيراً من السياج الشبكي، بهدف إبقاء ممر الشريان مفتوحاً. وتُشاهد السيدة كيف يختفي التجعُّد الذي كان في شريانها، وكيف ينطلق الدم عبر الشريان مثل نهر في حالة فيضان. انتهت هذه العملية التي لم تدم أكثر من 45 دقيقة. وعلى الأرجح ستتمكن جارتي من العودة إلى منزلها في اليوم التالي، شأنها شأن الملايين الذين يخضعون لمثل هذه العملية الروتينية من رأب الأوعية في أنحاء العالم. ويسأل الأهل بلهفة هل وضع هذا الأنبوب الشبكي يؤدي إلى الشفاء التام؟ الأمر ليس على هذه الدرجة من البساطة. قد يُحسّن هذا العلاج المبتكر نوعية الحياة التي تعيشها جارتي، كونها سوف تتنفس بشكل أفضل، كما أنها قد تعيش مدة أطول، لكننا لا نستطيع القول بأنها شُفيت. لأن تصلب الشرايين الذي تعاني منه لا يزال يجعل منها عرضة لانسدادات وأزمات قلبية في المستقبل.

حتى وقت قريب كان اختصاصيو القلب يقاربون مرض القلب بنفس الطريقة التي تتم فيها مقاربة مشاكل التمديدات الصحية في منازلنا. فمثلما تؤدي الرواسب المعدنية والكلسية إلى إعاقة تدفق الماء عبر الأنابيب المعدنية والتي تحمل سطحاً داخلياً أملساً ظاهرياً فقط. كذلك الأمر فإن تراكم الطبقة الدهنية يؤدي إلى إعاقة تدفق الدم عبر الشرايين التي تغذي العضلة القلبية. وكلما ازداد احتمال حصول انسداد فيها يؤدي بدوره إلى حدوث أزمة قلبية. هذا هو الشائع عن طريقة انسداد الشرايين القلبية، إلا أن قلَّة من المختصين في هذا الشأن هم الذين ما زالوا يعتقدون بهذا التفسير المنمق. بيّنت الدراسات والاستقصاءات التي بدأت من سنوات أن الشرايين ذات شَبَه ضئيل بالأنابيب غير الحية. فالشرايين تحوي خلايا حية على اتصال مستمر بعضها ببعض وببيئتها وتسهم هذه الخلايا في ظهور ونماء ترسبات التصلب الشرياني التي تنشأ ضمن جدُر الأوعية الدموية وليس على سطحها الداخلي. وفضلاً عن ذلك، أن ترسبات قليلة نسبياً هي التي تؤدي إلى تضيق مجرى الدم تضيقاً شديداً. ولكن غالبية الهجمات القلبية والكثير من السكتات الدماغية تنشأ عن تمزق في جدر الأوعية الدموية مطلقة جلطة أو خثرة دموية تعيق جريان الدم. وإضافة إلى ذلك، أسند البحث العلمي دوراً أساسياً إلى الالتهابات التي تصيب جدر الأوعية الدموية في حدوث التصلب الشرياني. إن هذه السيرورة (وهي نفسها التي تسبب احمرار الجروح المصابة بالعدوى أو الخمج وسخونتها وألمها) هي التي تشكل أساس أطوار الخلل كلها، بدءاً من تكون اللويحات وحتى نموها وتمزقها. وحينما تُهدد الميكروبات المهاجمة الغازية بإيذائنا، فإن الالتهاب، ويعني حرفياً الاشتعال، يساعد على تفادي العدوى ودفع ضررها. أما في حالة التصلب الشرياني، فقد برهن الالتهاب أنه ضار. وبتعبير آخر، تقوم أجهزة دفاعنا الخاصة بقصفنا بنيران صديقة؛ الأمر الذي يحدث تماماً في حالات التهابية أكثر شهرة كالتهاب المفاصل الرثوي.

يوحي هذا المفهوم المُعدّل بفكرة جديدة لكشف التصلب الشرياني ومعالجته. كما أنه يحل بعض مكامن الغموض المزعجة، وعلى الأخص: لماذا تحدث هجمات قلبية عديدة بدون سابق إنذار؟ ولماذا تخفق بعض أشكال المداواة الموجهة لتفادي هذه الهجمات في أحيان كثيرة؟ وفي مثال نادر روته لي إحدى صديقاتي عن أحد الفلاحين الذي كان يفلح أرضه بالمحراث التقليدي في ريف مدينة إدلب في الشمال السوري، وفجأة داهمته نوبة قلبية شديدة وغير متوقعة، وقد كُتبت له النجاة على الأرجح بفضل أقراص النيتروغليسرين التي كانت بحوزة أحد أولاده، والذي قام على وجه السرعة بدسّ إحداها تحت لسان والده. يُستخدم النيتروغليسرين عادة في صنع الديناميت؛ لكن هناك تركيبة مخفَّفة جداً منه تُستخدم داخل الجسم لإنتاج أكسيد النتريك، الذي يأمر خلايا العضلات الملساء الموجدة داخل الأوردة والشرايين بالارتخاء، مما يؤدي إلى توسع الأوعية الدموية.

ولكن ما الذي يسبب المشكلة لهذه القلوب المعطوبة؟ تشير التجارب العلمية التي تُجرى الآن إلى أن المشكلة تبدأ حينما تتراكم الجسيمات الزائدة من البروتين الشحمي الخفيف الكثافة الموجود في الدم والذي يُعرف بالكوليسترول السيئ، وتتجمع في باطن الشريان، أي جزء الجدار الشرياني الأقرب إلى مجرى الدم. وفي أثناء تراكمها تتعرض شحومها للأكسدة، وهي سيرورة شبيهة بما يؤدي إلى صدأ الأنابيب، كما تتعرض بروتيناتها لكل من الأكسدة والارتباط بأنواع السكر. ويبدو أن الخلايا في جدار الوعاء تعدّ التغيرات علامة خطر، فتستدعي الإمدادات من منظومة الدفاع في الجسم فيحصل الالتهاب. 

نحن نعيش حياة أطول ونمارس رياضة أقل ونسرف في الأكل وندخن، فإن الكثير منا يعاني الجانب المظلم من الالتهاب، بما في ذلك قدرته على الإسهام في حدوث التصلب الشرياني وغيره من الاعتلالات المزمنة. ويستمر العلماء في سعيهم وراء فهم أعمق لدور الالتهاب في التصلب الشرياني وفك طلاسم أسرار هذا المرض الذي يشن هجومه بلا هوادة على بني الإنسان في أرجاء العالم كافة، ويسبب العجز الشامل ويقضي على حياة الكثيرين. وكي نتجنب الوقوع ضمن دائرة الخطر لابد من إعادة تأكيد النصائح القديمة والتي لا تزال صحيحة وتتلخص في:

لاتسمن، وإذا كنت سميناً فاعمل على إنقاص وزنك. قلّل من الدهون المشبعة وهي دهون الأبقار والأغنام والسمن والزبدة المشتقان من الألبان. فضّل استعمال الزيوت النباتية على الدهون الجامدة، وحافظ على كمية دهون لا تتجاوز 25 في المئة من وجباتك الغذائية. فضّل تناول الخضراوات الطازجة والفاكهة ومنتجات الألبان خالية الدسم. تجنب الإفراط في استعمال الملح والسكر. أكثر من التمارين والاستجمام والمشي في الهواء الطلق لأن على هذه الأرض ما يستحق الحياة، كما صرَّح بذلك شاعرنا الكبير محمود درويش في واحدة من أجمل قصائده. 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب