news-details

أبي مجرم.. إني هاربة!

أنت مسجّى في ثياب موتك.

وحولك يجلس المشيّعون والمشيّعات.. انتظارًا للسير في جنازتك.

هل أتوا خوفًا منك، لأنهم لا يصدّقون أنك مت، لأنهم كانوا واثقين أنك أقوى من الموت.. تتحكَّم به.. تعطيه لمن تشاء، و تبعده عن من تشاء؟

أم أنهم أتوا كي يتأكدوا، أنهم دفنوك أمام أعينهم و بأيديهم تحت التراب؟

***

أما أنا فقد غادرت البيت والبلد.. ولن أعود إليها ما حييت..

إني أتوه في البراري.. لا أدري الى أين تقودني قدماي..

تلاحقني دوامات جارفة من الهذيان المحموم:

هل كل ما أكلته وشربته ولبسته حرام!؟

هل كل كتبي ودفاتري وأقلامي حرام!؟

هل وسادتي التي أشكو إليها وحدتي حرام!؟

هل..

لم يحالفني الحظ ، كي أهرب منك في حياتك، ولكني - على الأقل - أربح هروبي منك بعد مماتك.

***

سامي هو المذنب.

هو الذي حطّم ما كان.. وحرق كلّ ما سيكون.

كلّهم كانوا يعرفون، أنك تعيش وتعيِّشنا في عالم الإجرام.. كلّ من حولي.. ما عدا.. أنا.. أقرب الناس إليك..

كيف لم أتنفسها في أحضانك الدافئة!؟

كيف لم أتذوقها في شفتيك.. في ريقك الذي كنت أرشف منه!؟

كيف لم أرها في ضوء عينيك، الذي كان يرنو الى فرح وحزن عيني!؟

كيف لم أقرأها في انكسارات أمي؟ ودموعها التي كانت تتساقط على وجنتي!؟

***

سامي قال لي في لقائنا الثالث:

الى هنا يا هناء..

لا أستطيع... لا أستطيع. قالها من عمق مرجل، طار غطاؤه.. فتعالى الى الأعلى كلّ ما كان يغلي فيه..

فتحوَّلتُ الى كتلة من الجمود المقتول..

تعطَّلتْ كل علامات الحياة في كياني.. مرة واحدة..

وقام من مكانه وهرب.. وتركني فريسة لنهشات تمتص دمي المغتال..

بقية جالسة في مكاني..

أتمرَّغ في حوّام من التيه والسراب المجنون؟

***

قبل أن أعرف سامي.. عشت في ضياع..

كان كلّ من حولي.. كانوا يتجنّبونني.. يبتعدون عنّي..

إما أن يرمونني بسهام الشفقة.. وإما بسهام الكراهية والمقت..

قضيت ليالي وأنا أبحث عن السبب..

ما الذي جعل كلَّ من حولي يبتعدون عني!؟

أيّ ذنب جنيته، حتى يقاطعونني؟

فقد كنت متفوّقة في دروسي.. حاولت أن أعامل كلَّ من حولي بلطف واحترام.. كنت أميل الى الخجل.. حاولت أن أقترب من طلاب صفي.. فلم أجد منهم سوى الصدود والابتعاد..

شعرت في كثير من الأحيان أنهم يخافون مني..

يخافون من هذا الجسم النحيل؟

فهربت الى الانطواء.. تلفعت بعالمي الصغير..

***

إلى أن التقيت بسامي..

التقيته في جولة مدرسية في عيد الشجرة..

كنت كعادتي، أتجوّل وحدي بين أشجار الغابة.. مبتعدة عن أبناء صفّي..

قال لي وهو يقترب مني، أنه من مدرسة في قرية مجاورة..

لماذا وحدِك؟ سألني..

لا أجد من يصاحبني! أجبته "بمسكنة" لم يصدِّقها..

فضحك ضحكة فيها كل البراءة ورد:

إن الوردة أحياناَ تخيف بأشواكها المقتربين منها.

وتكلَّمنا عن المدارس والطلاب والمعلمين.. عن امتحانات التوجيهي، التي لم يبق إلا شهر لبدايتها..

عما سنفعله بعد المدرسة الثانوية..

كان كل ما حاول أن يبتعد عني، ليعود الى طلاب صفه، حتى استدرجه بموضوع آخر..

كنت شديدة العطش الى من يتحدَّث معي.

ولم أتركه إلا بعد أن تبادلنا أرقام الهواتف..

***

كلّهم كانوا يعرفون عنك - يا أبي- ما عدا.. أنا ابنتك.. ابنتك التي كنت تقول أنها أغلى ما تملك..

أغدقت عليّ كلّ الأشياء ،التي تتمناها كلّ بنت من أبيها..

الأحضان والقبلات والمداعبات..وأغلى الملابس و اللعب والهدايا.. الرحلات والمشاوير..

أنا أول بنت من بنات جيلي، حصلت على أغلى بيليفون..

كان هديَّة منك في عيد ميلادي الأخير.

كلّ هذا كان من عمل الشيطان؟.. بريق من نار؟

كان لك بيتان - بيتنا أنا وأمي إخوتي - كنت فيه ملاكًا، تعطينا فيضًا من الحب والعطاء..

ولم نعرف أنه كان لك بيت آخر.. بعيدًا عنا.. في المدينة، تمارس فيه كلَّ أنواع الشر والقتل ، وبيع المخدرات.. السلب والنهب والخاوة..

في عالم آخر يسمونه عالم الإجرام..

***

أمي كانت تعرف حقيقتك..

ولكنها أخفت عنا..

سألتها مرّات: لماذا أنت حزينة دائمًا.

كانت غالبًا تتهرَّب من الإجابة.. وإن ردّت كانت تجيب بأجوبة غير مقنعة..

مرّات.. فاجأتها "متلبسّة" تذرف دمعًا.. وعندما كانت تحسُّ بي كانت تنسحب الى الحمام، ولا تعود إلا بعد أن تمسحها..

سنين طوال عاشتها هذه المخلوقة في جحيم.. عاشت في أحضان مجرم.. تشاركه حياة ويمارس حياة أخرى..

***

أنها ابنة عمِّه..

قيل أنه تزوَّجها بالقوة، ووعد بأغلظ الأيمان، أنه سيبتعد عن عالم الإجرام..وعدها بكلِّ الوعود البرّاقة، ولكنه لم ينقطع عنها.. ولو يومًا واحدًا..

تركتها تجلس بجانب نعشه..

لا أدري إن كانت تبكي على فراقه.

أم على سنين حياتها المهدورة، التي قضتها في العذاب معه.

اتصلت بنا الشرطة، وأبلغتنا أنهم وجدوه مقتولًا في إحدى البيارات.. وأنه موجود في ثلاجات المستشفى، وبإمكاننا استلامه بعد يومين من تشريحه..

وقع موتك كان مفاجئًا لنا.. كنا نعرف أنك أقوى وأكبر من الموت.. الموت الذي كان سلاحًا في يدك، ترسله لمن تشاء، وتمنعه عمن تشاء.

***

 

قبل موتك، اتصلت بسامي مئات المرات، لكي يعود ليقابلني مرة أخرى، قلت له من حقّي عليك، أن تخبرني السبب،الذي من أجله قررت أن تقطع علاقتك بي..

ووافق سامي أن يقابلني لآخر مرة..

وحكى لي عن عالم الإجرام الذي نعيش فيه..

حكى لي كلَّ ما سمعه عنك، من كثيرين من أهل بلدهم.. سمعتك - يا أبي - ملأت الآفاق.. ولكنها لم تصل اليَّ.. أقرب الناس إليك.

حكى وهو يبكي وأنا أبكي معه..

وقال لي أنه واثق، من أنني لم أعرف شيئًا، مما يحكيه عن أبي.. ولكنه لا يستطيع أن يستمر في علاقتنا هذه..

وشاءت الأقدار أن يأتي خبر موتك، بعد ساعات من مقابلتي لسامي.. جاءت لتخترق الذهول المجنون، الذي كنت فيه.

أحضروك أعمامي من هناك، وضعوك في بيتنا، وغادروا.. لم تربطك بهم أية علاقة.

أنا - يا أبي- هاربة..

من عيون الأطفال الذين يتَّمتهم..

من عيون الأرامل اللواتي رمَّلتهن..

من عيون العائلات التي أفقرتها..

من الذين أدمنتهم على المخدرات، فإما قضوا نحبهم، أو ما زالوا ينتظرون.. بعد أن دمّروا عائلاتهم وجيرانهم ومجتمعهم..

من عيون إخوتي.. أولاد صفي..

من كلِّ العالم التي وضعتنا فيه..

إني هاربة..

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب