news-details

 أنا عائد الى حيفا.. | يوسف جمّال

إيه يا عمّة..

ها أنا أعود إليك مرة أخرى..

أزورك من العيد الى العيد..

ما بال حجارة قبرك تقصر!؟ أيلفّع جذورها التراب التي تحمله السيول التي تغمرها.

أم بفعل هبّات الريح التي تبريها من الأعلى..

ضيق ذات اليد، ووهن قواي التي صنعتها السنين، تحول دون قدرتي على بناء حجارة حول قبرك، ترفعه الى أعلى مثل القبور التي تجاورك..

يوم محفور في ذاكرتي..

يوم ان ضممتيني في حضنك، ورفعتيني وأركبتيني على الحمار الذي لم تعودي تملكين غيره وركبت ِ خلفي..

سألتك الى أين!؟.. كعادتي في بداية كلّ مشوار نخرج إليه:

فقلتِ باقتضاب مسروق:

الى حيفا.

ولم أسمع بهذا الاسم من قبل..

ظننت أن هذا المكان مثل الأماكن الجديدة، التي تكتشفينها بين الفيّنة والأخرى.. نخرج إليها لنلمَّ سنابل القمح وعروق العدس، وغيرها من الحبوب التي يتركها الفلاحون وراءهم، بعد جنيّهم لمحصولهم.. حبات الزيتون واللوز التي ضاعت من عيون القاطفين. نقطف الخبيزة والعلت والزعتر وغيرها من ثمرات الأرض.

غادرنا الكفرين..

ومشى الحمار فينا يلتهم طرق الروحة.. مشينا من صلاة الصبح الى العصر..

جلسنا لنستريح تحت ظلِّ خروبة بعد أن أنهكنا التعب والجوع.. أكلنا لقيْمات من زوادة أخرجتها من خرج الحمار، وشربنا من قربة ماء كانت معنا..

بعيدة حيفا يا عمتي من هون!؟ سألتك بعد أن "أهلكنا " التعب.

 بعد علينا يا بنيَّ مثل ما مشينا! أجبت وأنت تحلّين رباط الحمار من الشجرة.

وفجأة وقفتِ وطلبت منّي أن أنتظرك هنا، لا أتحرّك من مكاني حتى تعودين.. سأغيب عنك للحظة قصيرة.. قلتِ وأنت تفارقيني..

ولما عدتِ وجلستِ بجانبي. سكتِّ للحظات تبحثين عن طريقة تخبرينني بها عما حدث معك في غيابك عنّي. 

التقيت يا حبيبي مع أحد الثوار وسألته عن مكان وجود أبيك.

رمت قنبلة أخبأتها عني سنين طوال..

المرات القليلة التي التقيت بها بأبي، كانت في غياهب نومي..

 كنتِ يا عمتي تقولين لي في الصباح: " أبوك أجا في الليل وشافك!". 

 في المرات الأولى التي زارنا فيها، كنت أسألك حزيناً من بين الدموع: 

ليش ما فيَّقتيني من النوم حتي أشوفه!؟

فتجيبين: هو يصرُّ دائماً أن تبقى "على نومتك".

تحوّل أبي في مخيِّلتي، الى شخصية من خيال مستحيل رؤيته.. لا يظهر إلا في الليل. 

أنه مطارد من قبل الإنجليز، ولا يعلم إلا القليلون من الثوار أين هو..

وتبيّن لي في هذه اللحظات، أن عمتي كانت تعرف أين مكان وجوده.

عمّتي التي ورِثتني وورثتها بعد وفاة أمي أثناء ولادتها لي.

فنشأتُ لا "أملك " من الدنيا غيرها.. هي لم تتزوّج فقد عاشت من أجلي.

ومشى الحمار بنا..

إحنّا يا عمتي وين رايحين!؟ سألتها من بين حيرتي..

فردتّ من الأحزان الذي اجتاحت وجهها:

لقد سبقت أن أخبرتك أننا متوجهين الى حيفا. لعلّنا نجد أباك فيها..

 أكملنا صعودنا الى قمة الجمل، نحمل أثقال تعبنا وخوفنا ممّا تخبئ لنا الساعات والأيام القادمة.

مشينا نحمل في عيوننا الصمت القاتل.

وعندما وصلنا الى قمة الكرمل، فرش البحر زرقته أمامنا.. أما بيوت المدينة، فكانت تسيل على سفوح الجبل تحت أرجلنا.

 نزلنا منحدرين من شارع الى شارع..

وبدأ الظلام يفرش حزَمه فوقنا.. كانت الشوارع خالية من المارة، والبيوت معتِّمة لا تطلّ منها سوى أضواء قليلة خافتة..

إلى أن وصلنا الى حارة، بيوتها تدلُّ على فقر أصحابها.. وسرنا في شوارعها من شارع الى شارع، الى أن وصلنا الى أحد البيوت.

أوقفت أمي الحمار عند مدخله، وقالت مشيرة بإصبعها إليه:

هذا هو البيت الذي يسكن فيه أبوك.

ففاجأني معرفتها للبيت ومكانه!

 تقدَّمت أمي من باب مدخله وطرقته. وإذا برجل يفتح الباب ويخرج رأسه من فتحة ضيقة فتحها له. 

من أنت!؟ صاحت به عمَّتي..

أنا سليم الفحماوي.. ردَّ مدافعاً عن نفسه أمام هجومها المفاجئ..

ومن تكون!؟ قاطعته عمّتي.. مستمرة في هجومها..

أنا من ائتمنه حسين الكفريني على بيته، وأوصاني أن أحافظ عليه حتى يعود.

أين هو!؟.. الى أين ذهب!؟

الى لبنان...رحل الى لبنان.. مطارد من قبل الإنجليز واليهود.

لأنه عرف أن حيفا ستسقط في يد اليهود بعد أيام.

تجمّدنا أنا وعمّتي في أمكنتنا..

من أنتما!؟ وماذا تريدان!؟. استدرك بعد أن تذكَّر أنه أجابنا عن اسئلتنا دون يعرف من نحن..

أنا أخته فوزية وهذا ابنه أحمد.. أجابته عمّتي. 

وإذا لم تصدّق فهذه هويتي! أكملت محاولة قطع الطريق عليه، كي لا يقحم نفسه في استفسارات وشكوك أخرى. 

خرج من باب البيت وتقدم منّا، وناولها مفتاحه وغادر وهو يقول:

"أنا أسكن في البيت المجاور، إن احتجتم لشيء فلا تترددوا في التوجه إليّ. فأنا وأبو أحمد أصدقاء، وتجمعنا عِشرة عمر!".. 

نمنا في بيت أبي ليلتنا..

قامت عمتي من نومها وصلَّت صلاة الصبح، ولما أفقت من نومي صاحت بيَّ:

 ولّ مغوِّل! قوم طلع الصبح. قوم توضّأ وصلّي..

 وبعدها روح ناديلي الفحماوي من بيته، وقل له ان عمتي عاوزتك ضروري.

***

أتعرف مكان وجود أخي في لبنان؟

سألته أمي عند وصوله.

نعم يا حجة. لقد قال لي قبل أن يغادر حيفا، أنه سيقيم في مخيّم صبرا.

ليش في صبرا بالذات؟

له معارف أقاموا هناك قبله.. ردّ بلهجة المتأكد مما يقول.

كيف نستطيع أن نصل الى هناك؟

إن الطريق إليه "عامرة " بالراحلين من حيفا وقراها الى لبنان..

أنا سأوصلكما الى أوَّل الطريق. ومن هناك سترافقان المتوجهين للإقامة في مخيّم صبرا..

كانت المرة الأولى التي أسمع فيها كلمة مخيَّم!

كلمة لعينة التي سترافقني سنين طوال. وعرفت أننا على عتبة رحلة جديدة، لا يعلم إلا الله إلى أين ستأخذنا.

اجتاحت كياني عواصف من الخوف، وسَرَت في نفسي تيارات من الحزن واللوعة..

فتركتُ عمتي والرجل، وأسرعتُ الى داخل البيت، وألقيتُ بنفسي على الفراش، الذي كنت نائماً فيه قبل لحظات، وانطلقتْ من داخلي براكين محبوسة من البكاء المحموم.

لحقت بي عمتي، بعد أن وصل أسماعها بكائي، فاضطجعت بجانبي ووضعتني في حضنها، وبدل أن تحاول أن تخفِّف عني لتوقف نحيبي، انطلق صوتها يرافق نحيبي.

***

وفي الغد كنا أنا وعمّتي، نرافق الراحلين الى لبنان.. بعد أن أوصلنا الفحماوي على الحمار ورجع به.

كانوا يسيرون في طريقهم كالسيّل، يمشون بسكون رهيب، لا تسمع سوى وقع خطواتهم، ودبيب دوابهم، ونهيق حميرهم، وأصوات بكاء أطفالهم..

 جملة واحدة كانت تنهشهم حتى العظام: "سقطت حيفا". جملة ترددت في مرات لا تحصى.. وفي أحيان كانت ترافقها الولولة والشهيق المخنوق، والضرب على الأيدي والصدور.

سألتنا سيدة مسنة كانت تمشي بجانبنا: الى أين ستلجئون؟ 

فأجابتها عمتي: الى مخيّم صبرا..

فردَّت: ونحن الى هناك.. رافقونا!.

تابعنا السير مع الناس.. نسير وسط التعب والحرِّ الشديد، وضربات الجوع والعطش.

كانت تسير معنا جموع، من الشيوخ والعجائز الحوامل وحاملات الرضَّع، وساحبات الأطفال الصغار الباكين في أيديهن..

مشينا حتى خلنا أن الطريق لا ينتهي.. وأحيانا نسمع أصواتاً تصرخ اليهود أمامكم.. اليهود وراءكم!

فيتدافع المهجَّرون في هرج ومرج، طوراً الى الأمام وطوراً الى الخلف..

كانت طريقنا طريق الموت..

كنت أسمع بعض الجماعات، تصيح والوجع يقطِّع قلوبهم والدموع تتناثر من عيونهم:

"وحنا نوينا على السفر وبخاطرك يا بلادنا!" 

داهمنا الليل.. دون أن ننتبه لقدومه.

بحثنا أنا وعمتي، عن شجرة لننام تحتها فلم نجد.. كانت كلها "مشغولة" بالناس، الذين يتكدسون تحتها، فجلست عمتي على حافة الطريق، ووضعت رأسي في حضنها، ومددت رجليَّ باتجاه الطريق..

كان الليل بهيم متلفِّع بطبقات من السواد. ساكن ثقيل، لا تقطِّع جمود سكونه، سوى استغاثات بكاء الأطفال، ونعيب الغربان، ونباح الكلاب الضالة..

وطلع علينا الصباح.. 

ومشينا نجرجر عذاب نومتنا في الليل، وثقل وجبروت سيرنا..

مشينا ومشينا حتى خلنا أن الزمان خُلق ماشياً..

إلى أن وصلنا الى المخيّم..

وصرنا نتنقلّ بين خيامه نتعثَّر بحبالها، وبأطراف ورؤوس ساكنيها.

نسأل ساكنيها، ان كان واحد منهم له علم بمكان وجود أبي.

سرنا مسافات حتى كدنا نيأس من لقياه.

وإذا بصوت ينادي علينا من تحت خيّمة، سبق ومررنا بجانبها..

كان أبي..

فتجمَّدت مكاني.. وقبل أن أفيق من الصدمة، هجم عليَّ ووضعني في أحضانه. وبدأ يمطرني بقبلاته في كلِّ أنحاء جسمي.. وهو يصيح يا حبيبي! يا روحي!

وبعدها تفرَّغ لأخته عمتي.. حضنها وتبادلا القبلات واللَّوعات.

 دخلنا معه الى خيمته، التي كانت تنعدم فيها الخصوصية بسبب الفتحات التي في أسفلها..

كان يشاركه فيها رجلان، غادراها ليناما في مكان آخر..

وعندما خلونا لأنفسنا، حكينا له قصة طريقنا الى هنا.. غلبني

 النعاس والتعب، فغرقت في نوم عميق.. نمنا على حصير رقيق وتغطيّنا أنا وعمتي بحرام واحد.

 في الصباح صحوت على ضجيج وصرخات وبكاء الأطفال..

يبحثون عن أقربائهم الذين ماتوا أو ضاعوا أو تاهوا. يتلمسون أخبار الوطن الذي تركوه..

عن البلد والدار والجار القريب والبعيد والمزرعة وعين الماء..

يسألون عن الطريق التي حملتهم الى هنا، عن مصير القليلين الذين رجعوا الى بلدهم..

يسألون عن مخيّمهم والمخيَّمات الأخرى.. هنا في لبنان.. في سوريا في الأردن والبلاد الأخرى.

مسحت وجهي بقليل من ماء كان في علبة من الصفيح، ناولتني عمتي قطعة خبز وشيئا من الجبن. وبعد فطوري هذا نادني أبي إليه..

وبدأ يهمس في أذني، كلمات متقطِّعة مغموسة بالقهر واليأس: 

عمّتك سترجع الى البلاد.

وأنا!؟ زعقت به من أحشاء تقطَّعت..

أنت ستبقى معي هنا!

قتلتني الصدمة، وقتلتْ كلَّ أدوات ردودي.

عمَّتك مريضة.. هكذا أعلمها الأطباء، وأيامها قليلة على هذه الحياة.. أكمل يرمي بكلمات قضى الليلة وهو يتمرّن كيف سيرميني لي.

ولماذا لا نرجع ثلاثتنا معاً الى حيفا!؟ سألته والدهشة تقطّع أحشائي..

أنا كنت مع الثوار!. ومطارد من قبل اليهود.

قالها والحسرة تعصره. 

وأتبعها بجملٍ تائهة، يحاول أن يبيٍّن لي الأسباب القاهرة، التي تجبرني وتجبره البقاء هنا..

وأنا أعيد واكرِّر بغضب ينطلق من بركان أعماقي:

لا!.. لا! أنا لن أبقى هنا.. سأعود الى حيفا.. إني أعرف الطريق. إن لم أعد مع عمتي.. سأعود لوحدي.. سأعود لبلدي.. لن يمنعني أحد!.

تركته مشدوهاً "مقتولاً " وخرجتُ أبحث عن عمتي..

فلم أجدها في المخيَّم.. فاستنتجت أنها غادرت لبنان، وتوجهت الى طريق الرجوع الى البلاد.

الى حيفا.. 

 فلحقت بها.

قطعت الحدود. "مسكت" الطريق.. أمشي وأنادي.. أمشي وأنادي..

انا يا عمتي.. راجع معك الى حيفا!.. أنا راجع معك الى حيفا!

أنا عائد الى حيفا.

كانت جبال ووديان الجليل تردد صدى صوتي.. 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب