اتخذ الثوار من مقام يقع في أعلى المقبرة،ملتقى لهم يحميهم من أعين دوريات الإنجليز، وأنواء الشتاء وقيظ الصيف.
وكان مكان الاتصال بينهم وبين أهل البلد..
كان سعيد ابن العاشرة، يعرف أن هذه الصرَّة التي تقبع بالقرب من باب الغرفة، زوّادة معدَّة لأبيه ورفاقه الثوار.
ستحملها أمه بعد أن تصلي الصبح وتوصلها لهم..
نام ليلته، وأنين أمه التي تعاني من المرض، كأنه سكين حاد يجرِّحه في جميع أعضاء جسمه.
كيف ستحمل مرضها، وتقطع المقبرة الوعرة الموحشة في هذا الليل البهيم، وتصل الى المقام لتسلِّم الثوار الزوّادة!؟
أنهم ينتظرونها مع جوعهم..
أنات أمه جعلته يقضى ليلته ساهراً لا يقترب منه النوم.. وعيناه لا تكادان تفارقان صرة الزوّادة.
كانت الليلة طويلة مخيفة مثقلة بالخوف والهموم.. ثقيلة بما تخبِّئه مما ستلده من أحداث.
كيف ستقوى أمه على القيام من فراش مرضها، وتقوم بإيصال الصرة الى الثوار؟
هل سيبقى الثوار عالقين، بين فكيِّ جوعهم وبنادق جنود الإنجليز؟
ساعات الليل كانت تمرُّ بطيئة، كأنها أسنان مفترس يتلذَّذ في النهش منه.
كان في كلِّ أنين يصدر من أمّه، يرفع رأسه عن وسادته، ويسترق نظرة الى وجهها الذي يظهر شاحباً من تحت اللحّاف، وإذا تقلَّبت في فراشها تقلّبت أحشاؤه معها..
وإذا تكشَّف اللحاف عن جسمها، قام من فراشه واقترب منها وأعاد تغطيتها..
دقائق آذان الصبح بدأت تقترب سريعاً.. وأمّه ما زالت نائمة تحت لحافها غارقة في زفرات التوجّع والأنين.. وصرة الزوّادة جاثمة على قلبه.. صار ينقِّل عينيه بينها وبين أمه، والحيرة والهمُّ يملآن جوارحه.
مشاعره تتمزَّق بين الذين سيقتلهم الجوع على الجبل، وبين أمه التي تعاني من براثن المرض اللعين.
وفجأة شعر أن قوة نزعته من فراشه.. اقترب من الصرّة نشلها من مكانها، وتناول بيده الأخرى مصباح يدويّ كان بجانبها، فتح الباب بخفة كي لا تشعر أمه به.
ومشى..
لا بدَّ له من الوصول الى الشيخ خلف قبل طلوع النهار.. ومن هناك عليه أن يقف على شرفته المطلّة على البلد، ويضيء المصباح ثلاث مرات.
هذه الإشارة المتَّفق عليها بين أمه والثوار، وبالتقاط عيونهم الضوء، يسرعون إلي المقام ويستلمون الزوّادة.
هكذا كانت تفعل أمه كما حدثته..
ولكي يصل إليه، كان عليه أن يقطع عدداً من أزّقة القرية، ومن ثمّ المقبرة، متحدِّياً الظلام المطبق على المكان، والسماء التي بدأت تسقط نقاطها منذرة ما تحتها، بأنها ستتبعه بسيول من الأمطار المخيفة.
خرج من باب الدار، متخذاً من أزقة البلد المظلمة طريقاً الى المقبرة.
وعندما وصلها وبدأ يمشي فيها، صارت قبورها ترتطم بقدميّه وساقيه حتى ركبتيه، وإذا اهتدت رجلاه الى طريق بين القبور، لطمت بالنباتات الشوكية النابتة بينها، فتجرِّح ساقيه حتى سالت الدماء منها، لأن الظلام أخفى القبور وما بينها تحت غطائه الأسود عن عينيه. ونباحات الكلاب صار تلاحقه من كلّ الجهات فتزيد رعبه رعبا.
وبعد أن مشى عشرات الأمتار، هاجمته صور الشياطين والعفاريت، التي سمع القصص التي تحكي عن خروجهم من أوكارهم ليلاً، فاستولى عليه الخوف، حتى كادت أن تجمِّده وتجمِّد رجليه.
كانت الرياح تخبطه بسياطها بلا رحمة، وأمطار السماء بدأت تنزل ثقيلة على رأسه فغرقت ملابسه فيها، وقدماه تغوران في أوحال الأرض تحت رجليه.
مشى ما يقارب منتصف المسافة، مقارعاً الطريق الصعبة، وإذا به يسمع صوتاً ضعيفاً يتسلِّل إلى سمعه، من بين زمجرات الريح، ونباح الكلاب، وخبطات المطر.
سعيد.! يمّا يا سعيد. يا سعيد!
أصاخ السمع لهذا الصوت.. إنه صوت أمَّه الذي لا يخطئ في تمييزه من بين أصوات الكون. ولكنه سرعان ما كذَّب أذنيه.
فكيف تقوم أمه من فراش مرضها.. فلا بد أن يكون هذا صوت استغاثة خوفٍ خرجت من داخله.
واستمرَّ بالسيّر، واستمرت النداءات تلاحقه..
سعيد! سعيد! يمّا يا سعيد !.
كان يمشي على القبور وبينها، يقع ويقوم.. يقع ويقوم، ولكنه بقي قابضاّ بيده بقوَّة على الزوّادة. فكأنها بالنسبة له هي الحياة، فإذا تخلّى عنها تخلَّت عنه الحياة.
سعيد! سعيد.! بدأ الصوت يقترب
نظر أمامه، فاصطدمت عيناه ببيت المقام، الذي كان سواده أغمق من السواد الذي يطبق عليه.
لطمت قدمه بالدرجة الأولى من المقام.
فبدأ بصعود الدرجات.. درجة.. درجة.. وهو يتوكّأ على حائطها.
صعد على سقف الشرفة.. وضع الزوّادة على سطح الشرفة التي يقف عليها، وتناول من جيبه بطارية الإضاءة، بحث عن زرِّ تشغيلها وضغط عليه ببقايا قواه.. واحد إثنين ثلاثة..
كانت أمه وراءه فسقط في حضنها مغميَاً عليه، فتلقَّفته بيديها ولفته بثوبها المبلول من المطر، وحملته وأدخلته الى داخل المقام..
"كان أبوك هنا، وأخذ الزوّادة بعد أن جفت من مياه المطر. وعاد الى هناك".
قالت له أمه بعد أن استيقظ من فراشه في الصباح.
إضافة تعقيب