يُعتبر الكاتب الروسي ميخائيل زوشينكو (1894 - 1958) من ألمع كتّاب القصّة القصيرة في الاتحاد السوفييتي، إذ تجد في قصصه سخرية من الطراز الرفيع، استمدّ جذورها من الكاتبين العظيمين نيقولاي غوغول وأنطوان تشيخوف.
عرفتُ ميخائيل زوشينكو أوّل مرة من خلال قصّة مُترجمة في مجلة الفيصل (العدد المزدوج 405 -406 مارس/آذار 2010) بعنوان "الفاقة"، كتبها عام 1925، وترجمها عن الروسيّة المترجم السوري هشام حمادي. في القصّة تأثيرات مُذهلة تنطبع في الذاكرة البشريّة، فتحرّضها على التذكّر والانتباه الدائم واليقظة، إنّها من أبدع (على قصرها) ما يمكن أن تقرأه في الحياة. وظنّي أنَّ الترجمة الجيّدة (في الأدب الساخر خاصة)، لا بدّ لها من مراعاةِ قاعدةٍ مهمّة: "خير الكلام ما قلّ ودل".
من فضائل الإنترنت الكثيرة أنَّه سهّل علينا البحث والتنقيب في أسرارِ الخلق. بحثتُ فوجدت "مختارات قصصية" لميخائيل زوشينكو، من ترجمة المصري يوسف نبيل بساليوس ومراجعة أشرف الصباغ، صادرة في سلسلة "إبداعات عالمية" عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآدب في الكويت. فرحتُ بها، لكن فرحتي لم تدم، لماذا؟ لأنّني حين أنهيت قراءة القصّة الأولى "المتوترون"، شعرت بالحزن والغم. لماذا؟ يا سيدي لم أفهم مغزى القصة، كانت الترجمة العربية "ركيكة"، تشبه ترجمة غوغل الآلية المُبسترة. بحثتُ عن سيرة المُترجم، فوجدتُ على صفحات مجلة روز اليوسف ما يلي: "يوسف نبيل بساليوس روائي ومترجم مصري من مواليد 1987. يُترجم عن الروسية والإنجليزية. خريج كلية الألسن - جامعة عين شمس عام 2008 قسم اللغة الروسية. صدرت له سبع روايات حتى الآن، وما يقرب من عشرين عملاً مترجماً".
حيَّاكم الله وأمدَّكم بالصحة والعافية أستاذ يوسف، هل تعرفون "نكاشة" ببور الكاز التي تُرجمت في القصّة بكلمة "مقشطة"، وما هي "مقشطة" أصلحكم الله، بل هي نكاشة ببور، ونكشَ فعل عربي فصيح، و"نكاشة" اسم آلة، صحيح أنّها وضيعة، لكنها مهمّة، وكانت تُلازم ببور الكاز في كلِّ مطابخ العالم، وعليها نهضت أحداث قصة ميخائيل زوشينكو حيث دارت معركة حامية الوطيس من أجل نكاشة ببور. ولتسمح لي بترجمة قصّة ميخائيل زوشينكو من جديد، باسم "الشعب معصِّب" أو "نكاشة ببور"، وهذا العنوان أليق للنصّ. سحبتُ ترجمة القصة عن "غوغل" بالنصّ الروسي (موقع قصص ميخائيل زوشينكو) وأعدتُ صياغة النصّ وتحريره في بضعة أيّام، وها هي القصّة في حلَّةٍ جديدة:
من فترةٍ قصيرة شهدتُ مشاجرة في نُزُل للعائلات، لم تكن مشاجرة عادية؛ بل معركة حامية الوطيس، والسبب (كما تعلمون) أدوات المطبخ. تشاجر السكان بحماس، وكادوا في غفلةٍ من أمرهم (مع احتدام المعركة) أن يفصلوا آخر ما تبقى مـن جـسـد جافريلـوف السليم؛ رأسه. السبب الأرجح لهذا الحماس في العراك هو أعصاب الشعب، فقد أصبح أكثر توتّراً وانفلاتاً بعد الثورة البلشفية وتحولها إلى حربٍ أهلية، باختصار: الشعب معصّب، يفقد زمام أمره لأتفـه الأسباب، ويثـور. وهذا التحليل (إن صح) لـن يجعـل رأس جافريلـوف المفصول، ينمـو ثانيـة بكلّ تأكيد.
من وقائع ما جرى: في العادة تذهـب السيدة ماريا فاسيليفنا شيبتسـوفا (إحـدى قاطنات النُّزُل) إلى المطبخ في الساعة التاسعة، تشعل ببور الكـاز "البريموس". هـي دائمـاً مـا تشـعله (كما تعلمـون) في مثـل هـذا الوقت، تحقنه، ثمَّ تنتظر برهة، حتى يمتلئ جرن الببور بالكاز؛ تُشعل عود ثقاب وتضعه في الجرن؛ تنتظر حتى يسخن رأس الببور لتحقنه برفقٍ هذه المرّة، فتظهر تلك الشعلة الوهاجة، ومن ثمّ تضع على منصبه إبريق الشاي. ولكن هذه المرّة (وكثيراً من المرّات)، ولأنّ أعصابها مشدودة، تضـع الـببـور أمامهـا وتبـدأ بإشعاله، ولكن محاولاتها باءت بالفشل.
ما السبب يا ترى؟ فكرت بصمتٍ، لماذا لا يشتعل هذا المحروق؟ وهي تلوب على شيءٍ لا تعرف ما هو، وبالمصادفة رأت "نكاشة" ببور الكاز معلًقة في مسمار في الرفّ الخشبي على مستوى نظرها تماماً، فأخذتها، وراحت تُعالج بالنكش سطم فالة ببور الكاز. وهي منهمكة في عملها و"جوغان" ببور الكاز المحقون يملأ هواء المطبخ برائحةِ الكاز، في هذه اللحظة التاريخيّة العصيبة مـرَّت جارتهـا داريـا بتروفنـا كوبيلينـا، فرأت نكاشة ببور الكاز في يد ماريا، فماذا فعلت؟ اشتعلت غضباً، لأنّها من أفراد الشعب المعصِّب، والتفتت إلى ماريا فاسيليفنا شيبتسـوفا بكثيرٍ من الرعونة والسخرية المُبطَّنة. وقالت: من فضلك يا عزيزتي ماريا أعيـدي نكاشة ببوري إلى مكانها، لأنّ زوجي دفع ثمنها من جيبه. اشتعلت ماريا فاسيليفنا شيبتسـوفا هي الأخرى غضباً، وقالت: لجهنم الحمراء أنت ونكاشة ببورك عزيزتي داريا بتروفنـا. هل تظنين أنّي مبسوطة من استعمال هذه النكاشة الصدئة مثل صاحبتها، أنت غلطانة يا عزيزتي.
وبالطبع اشتعلت (وهذا مفهوم) داريا بتروفنـا كوبيلينـا غضبـاً. وبدأ العتاب والصياح وارتفع صـوت ضجيجهما، وسـاد الهرج والمرج، فظهـر الـزوج إيفـان سـتيبانيتش كوبيلين صاحـب الزوجة والنكاشة معاً. رجـلٌ قـوي البنية "يَصرَع ذا اللُبَّ حَتّى لا حَراكَ بِهِ". قال والشرر يتطاير من عينيه: إنّي أعمـل كالثـور في التعاونية الاستهلاكية مـن أجـل 32 روبـلاً وبضعة كوبيكات في الشهر وفوقها عليَّ أن أبتسـم للزبائن، وأزن لهـم اللحم وما إلى ذلك، وقد اشتريت نكاشة ببور الكاز مـن عـرق جبينـي، لكنـّني لـن أسـمح أن تكون ملكيّة عامة. وتصاعـد الضجيج ثانية، واندلع الحريق حول نكاشة الببور. بالطبع تجمع أهل النُّزُل داخـل المطبخ، والمكان ضيّق كما تعلمون، والشعب معصّب، وأخـذ الجميع يتحرّك على غير هدى. وهنا ظهـر المُقعد جافريلتـش في المكان، وصاح: أسمع جعجعة ولا أرى طِحناً.
وبعد هذه الدعوة الصريحة للمعركة، قامت القيامة وفار التنور. وبدأ الطحن في مكانٍ ضيّق، تضرب هذا فتصيب ذاك. دستة من الشعب المعصّب في معركة حامية الوطيس. المُقعـد (مثير الشجار) تمكّن مـن أن يشق طريقـه بشكلٍ مـا وسـط هـذا الجمع. صرخ فيـه إيفـان سـتيبانيتش: اخـرج يا جافريلتـش سـوف يقطعـون لـك سـاقك الأخـرى. ويجيبه جافريلتش: سـوف أفقـد سـاقي الأخرى! ليكن، ولكنّني لـن أغـادر. وفي تلك اللحظـة تلقى ضـربـة عـلى وجهـه، لكنـه لم يغـادر، بـل هـجـم عليـهم، وحينهـا تلقى ضربة مُفاجئة بمقلاة المطبخ على أمّ رأسه، فشجَّ، وسقط مغشياً على الأرض. في هذه الأثناء بادر أحدهم وأبلغ جنود الحرس الأحمر. فظهر أحدهم بالمكان كالبرق، وصاح بصوتٍ كالرعد: جهزوا أنفسكم أيّها الأوباش للدفن، سوف أطلق النار حالاً. حين سمع أهل النُّزُل تلك الكلمات، عـادوا إلى رشدهم، وذهـبوا إلى غرفهم إلّا جافريلتـش المقعـد، وحـده لم يذهـب إلى غرفتـه فقد ظـلَّ راقـداً وحيـداً عـلى الأرض، والدمـاء تسيل من جرحٍ غائر في رأسـه. وبعـد أسـبوعين مـن هـذه المعركة انعقـدت محكمـة من جنود الحرس الأحمر، وكان القاضي هو الآخـر عصبي المزاج، ضيّق الصدر، فحكم على جميع سُكان النُّزُل بعقوبة قاسية.
إضافة تعقيب