// طارق عوّاد
في هذا البحث حاولت إعطاء صورة اكثر وضوحًا عن تأثيرات غير تقليدية للمكان على ادب الأدباء ان كان في النثر او في الشعر او في القصص القصيرة والمسرحيات والرواية من خلال تحليل نماذج معينة واختصصت بالحديث عن هذه النماذج التي وردت في القصة القصيرة للأديب محمد نفاع عبر بنياتها السردية العميقة والخطابية والروائية وإبراز مختلف العناصر البنائية التي تساهِم في تجميل وبناء القصة القصيرة التي تأثرت من المكان والتي بها اختصصت بتحليل القصة القصيرة "الجرمق" من المجموعة القصصية "التفاحة النهرية" .
كثيرون هم الأدباء وبالذات من بلادنا هذهِ ممن قدموا اعمالًا ضخمة وكان إنتاجهم قممًا شاهقة في الثقافة الإنسانية ومنهم من شقّ طريقه في الأدب بعدة تأثيرات ولكن اكثرهم تأثروا بالمكان وهو هذه البلاد ، بلداتها، طبيعتها، تاريخها وجمالها واكبر الأدباء في هذه البلاد من بقيَ منهم ومن رحَل قدموا إنتاجًا خالدًا من وراء سرهم الأساسي هذا "ارتباطهم بالمكان وتأثرهِم بهِ" هذه الصلة التي كانت دائمًا القصبة الهوائية التي كانوا يتنفسون منها.
اما المكان فهو من اهم العناصر الأساسية في العمل الروائي بحكم كونه احد عناصره القيِّمة الرئيسية وكذلك العنصر التي تجري فيهِ الأحداث وتتحرك من خلاله الشخصيات ويتأثر منه الكاتب والأديب. هذه السطور هي خلاصة بحث جامعي موسع كنت قد اجريته لربط وإظهار عنصر المكان واهميتهِ وتأثيره على الأديب محمد نفاع من خلال قصصهِ القصيرة وبالذات قصة "الجرمق" التي تطرقت لشرحها مبينًا الإبداع في تأثير المكان على السرد، متطرقاً الى النشأة البيئية المحيطة بالأديب وانعكاسها على ادبه والعلاقة بينهما وكذلك الربط بين مواقف واحداث القصة وبين المكان ومستوياته المختلفة، موضحًا جماليات المكان وعلاقته المتينة بطبيعة الأنسان الفلسطيني وكيف لهذا الرابط ان يؤثر على العمل الأدبي في قصص محمد نفاع القصيرة.
المكان: لطالما عُرفَ المكان كوحدة أساسية مؤثرة في العمل الأدبي والفني في الأدبِ الحديثِ والمعاصر، إذ يلعب دورًا حيويًا في الرواية والقصة القصيرة العربية الحديثة كما انهُ باتَ الجدل الأكبر ومحط النظر الأساسي في تحقق العمل الأدبي والفني، لأن يتحول لاحقًا إلى ركيزة هامة من ركائز الرؤية وجمالياتها في النظرية الأدبية إذ "يرى البعض بأن فقدان عنصر المكان للعمل الأدبي هو ايضًا فقدان لخصوصيته وبالتالي اصالتهِ". وبهذا لقيَ عنصر المكان بدورهِ الحيوي هذا اهتمامًا واسعًا في الأدب العربي المعاصر في مجال الدراسات الأدبية والروائية، إذ اهتم دارسو الرواية والقصة القصيرة وكاتبوها بدراسة عنصر المكان منذ القرن التاسع عشر الى يومنا هذا، وما ينتج عنه من مجموعة المصطلحات الخاصة بدراسة هذا العنصر.
المكان في الأدب العربي الفلسطيني ما بعد النكبة:
إنّ تصور المكان هو أيضاً تصوّر أيديولوجي إذ فيه يبحث الأنسان عن روح المكان وفلسفتهِ وتأثير المكان عليه وموقف الإنسان منه، كما تتطور بينهما علاقة تُشكِل مع مرور الوقت رابطا متينا قد يؤدي انكساره الى تأثير كبير على شخصية الإنسان، فالعلاقة بين الإنسان والمكان تبدأ لحظةَ ميلاده وتكبر وتتطور لتستمر حتى موته.
مع انتهاء سنوات الـ40 من القرن الماضي حصل التغيير الذي قلب كل موازين وميزات الأدب الفلسطيني وأعطى أهمية كبيرة للمكان الذي عزز الارتباط بين حياة الأنسان وتاريخه بالمكان، التغيير الذي كان هو النكبة، نكبة الشعب الفلسطيني. بعد تجاوز هذا التغيير اصبح المكان نفسيا وشاعريا له رموزه وجمالياته الخاصة في الكتابة الشعرية او الروائية، رغم ظروف التغيير الصعبة وكذلك دلالاتها وارتباطاتها النفسية التي تتشكل عندما نذكرها او نقرأها.
هذا الحدث أدى الى تغيير نوعي وعكسي في نمط الكتابة فلم يعد الشاعر يشعر بان عليه كتابة ووصف المكان الذي سيدل على الطبيعة او على الرحلة او المكان الرومانسي، ففي حالة الحرب وبعدها وصف الأدباء الفلسطينيون فقط النوع الأساسي بالنسبة لهم من أنواع المكان وهو الأرض ارض فلسطين المُغتصبة. وُصِفت الأرض بنوعين من الأدب وهما ادب الرفض وادب المقاومة اذ هي أيضا جزء أساسي من ادب الرفض وبالأساس ضد دولة إسرائيل التي بنظرهم استولت على المكان وهو الأرض.
في سنوات الـ 50-60 اضمحل ظهور الأدب الرومانسي وكان التشديد الأكبر على حضور عنصر المكان، إذ اصدر الادباء العرب الفلسطينيون داخل دولة إسرائيل نبعًا من الإصدارات الأدبية بحيث بدأوا بكتابة روايات وقصص واشعار كبيرة واشغلوا فترة ازدهار رائعة وساهموا في إيجاد مكانة عالية للأدب الفلسطيني في دولة إسرائيل، وكل هذا كان مستوحًى من أوضاع هذه البلاد والظروف الخاصة بها ما بعد نكبة الشعب الفلسطيني الى عام النكسة. كما كتب العديد منهم الوانًا رائعة من الأدب وهم داخل السجون إذ سمي هذا النوع بأدب السجون وفيه السجن هو المكان الذي يكتبُ عنه بسبب تواجد الاديب او الشاعر به نتيجة الدفاع او الكتابة عن المكان الأكبر وهو الأرض. ازداد ادب المكان المرتبط بالأرض قوة في العام 1976 عقب احداث يوم الأرض التي دافع بها أهالي عرابة، سخنين ودير حنا بدمائهم عن الأرض وازدادت عقب هذه الأحداث التنوعات الأدبية في الدفاع عن المكان ووصفه.
في عام 2000 قامت الانتفاضة الثانية والتي سُميَت بانتفاضة الأقصى وبها أيضا تم التذكير بالارتباط بالمكان إذ تقدم الأدباء العرب داخل إسرائيل بكتابة شتى أنواع الأدب الذي يصف كل حدث من احداث أكتوبر 2000 مشددين على انتمائهم للمكان والأرض، "فالمكان والانتماء اليه كانا حجارة الأساس في تطور وتركيب الادب العربي الفلسطيني داخل إسرائيل".
المكان - قراءة وتحليل في قصة الجرمق:
"الجرمق" هي قصة قصيرة من المجموعة القصصية الشهيرة "التفاحة النهرية" والتي وصفها بعض المحللين والنقاد بأنها بمثابة وثيقة ثقافية تأريخية بالقريةِ والريف، إذ وصفت قصصها الواقعية بالإضافة الى المزج بين الواقعين الاجتماعي والسياسي كما احتوت على شرح مفصّل وإثارة نهايات مفتعلة، إذ يتناول فيها عدة مسائل أبرزها الدفاع عن الأرض والانتماء لها ودورها في تغيير القيم الاجتماعية والحياتية. وفي هذه القصة يركز الكاتب منذ بدايتها وكعادتهِ في كل اعمالهِ على استخدام أسماء القرى وبالذات المهجّرة منها ويصفها كأنها مكانهُ الذي ينتمي اليه، وإذا تعمقنا في قصص واعمال الأديب لرأينا بانّ اكثر الأماكن استخدامًا في اعمالهِ الأدبية هم "الجرمق" "الكرمل" و"بيت جن" بلدهِ الأُم، بالإضافة إلى ذكر أماكن أخرى معروفة وجميلة مركزًا على الأماكن التي تمت مصادرتها او أراضي كانت قد تغيرت اسماؤها بعد النكبة وقيام دولة إسرائيل. ومن هنا يشدد الاديب على حضور عنصر المكان منذ البداية بعنوان القصة "الجرمق" ليؤكد لنا المرة تلو الأخرى بأهمية المكان والأرض. يفتتح نفاع قصتهِ "الجرمق" بجملةٍ وهي ثورية من نوعها الذي تجسّد مشهدًا من مشاهد المقاومة التي يصفها نفاع في قصتهِ، والتي حثت الناس بشكل جماعي للهبوب والدفاع عن ارضهم المهددة بالمصادرة. افتتح نفاع قصته بجملة "ما نطيع اللي يجينا بالعناد، ما تعودنا على بوس الأيادي" ومن هنا نرى ان قصة "الجرمق" تنتمي الى نوع ادب كان قد برزَ عند الأدباء الفلسطينيين وهو ادب المقاومة، لذا فإنّ قصة الجرمق هي قصة ادب مقاوم يرويها نفاع الذي يجسِّد احد شخصياتها ايضاً إذ تتحدث هذه عن بطولة جماعية جاءت للدفاعِ عن الأرض، ولهذا افتتح نفاع القصة بهذه الجملة تمهيداً لوصف مشاهد أخرى تتعلق بمقاومة ما كان في الجرمق.
تدور احداث القصة وهي قصة حقيقية معروفة عند سكان الجليل عامةً وسكان بيت جن خاصةَ والتي فيها يعرض الكاتب لسلسلة احداث يربط فيها علاقة الانسان القروي البسيط بالسلطة، والتي تتحدث عن مجموعة من أهالي القرية الذين تواجدوا في الجرمق من شباب وصبايا ورجال ونساء، بعد ان كانوا جالسين في أحضان طبيعة الجرمق إذ هب الجميع فجأة بأنفعال عند سماعهم أصواتا لسيارات اقتحمت الجبل والهدوء بقوة، وفي الحال طلب الرجال من النساء بالعودة الى البلدة "النسوان تروّح، ولا وحدة تبقى هون" وبهذه الجملة رأت النساء لطلبهم احترامًا لهن ولحمايتهن بمحبة وطمأنينة، فنهضَ الرجال من مكان راحتهم في عب شجرة السنديان المتدلية وقال احدهم: "إتصلوا في البلد" هنا أيضاً نرى ارتباط السكان بالبلد إذ لجأوا اليها في لحظات الحاجة.
وكان سبب هذا الصوت عشرات السيارات العسكرية التي اقتحمت ارض الجرمق، أهالي البلد كانوا بالعشرات أيضًا إذ لم تكن بحوزتهم سوى الحجارة والعصي وقوة القلب والجرأة. ومع احداث القصة يصلُ الخبر الى اهل البلد الذين تركوا بيوتهم وهبوا للدفاع عن المكان. ثم تطايرت الحجار على المعتدين وسياراتهم قبل ان يلقي العسكر على اهل البلد العيارات الجوية لتخويفهم إضافةً الى قنابل الغاز. وبعد هذا الحدث "قامت القيامة في البلد" إذ طالت اعتداءات الشرطة ايدي الناس الذين جاءوا من كلِّ حدب وصوب رجالاً ونساءً شيبًا وشبابًا وأطفال يصرخون ويهتفون "بلدنا الأبية مين يعادي رجالها، بالروح بالدم.." بهذه الجملة يلخص الكاتب كل ما وصفنا وشرحنا بعلاقة الانسان بأرضه والذي يستعد بالتضحية بروحهِ ودمهِ حمايةً لمكانهِ وارضهِ، اذ شرح أيضا فيها وبيّن لنا ادراك وصحوة وعي الفلاحين بخطورة السكوت على مشاريع مصادرة الأراضي وان بعملهم المشترك سيلحقون فشلاً حتمياً لمخططات السلطة ومشروعها لمصادرة الأراضي، ومع نهاية القصة وتجمع الناس في المكان للمشاركة والمقاومة هربَ المعتدون وظلّ المكانُ نظيفًا كما وصفه نفّاع بعد المعركة العادلة التي انتصر فيها وأهل بلدهِ.
واخيراً تجمهر اهل البلد وكافة الناس الذين اشتركوا في الحدث بعصيهم وحجارتهم وقطعهم الحديدية ومطارقهم ومناجلهم هاتفين الأهازيج الشعبية وزغاريد الفرح، تجمهروا في منحدر الوعر جانب البركة مع الوف الناس الذين وقفوا معهم من القرى المجاورة وبدأوا بتناول عرائس الخبز والصاج والشطائر المخبوزة "ودموع الأمل والحنان تترقرق في عيونهم" إذ تحول المكان بجانب البركة الجافة الى بسمة على وجهِ جبل الجرمق.
هذه القصة كالكثير من القصص والكتابات من اعمال الأديب محمد نفاع تحتوي في طياتها على رسالة فكرية سياسية واضحة والتي ارادَ نفاع ان يوصلها للقارئ خلال سردها في القصة القصيرة الواقعية "الجرمق" التي دارت احداثها في العام 1987. الجرمق وهو اكثر جبال هذه البلاد ارتفاعًا اذ اقامت السلطات الإسرائيلية على الجبل قاعدة عسكرية والتي اثارت غضب سكان البلدة الذين هبوا لتحرير ارض الجرمق الطيبة التي ابدعَ الكاتب في وصفها، اذ رأينا من خلال وصفهِ أهمية المكان والأرض. فقامت المواجهات بين جماعات الشرطة وبين أهالي البلدة وكل أطياف الشعب المتضامنين من النقب الى المثلث والضفة والجليل وكل جماهير الشعب الفلسطيني في الداخل بكلّ اطيافهِ الدينية والسياسية التي جاءت للتضامنِ مع أهالي البلد في قضية ارض الجرمق الى ان إنتصر هذا الكفاح في نهاية المطاف بهمة الناس والمتظاهرين. كان هذا بعد محاولات عديدة من قبل رجال السلطة بالتواصل مع كبار الشخصيات من الطائفة الدرزية بهدف تهدئة أهالي البلدة ولكن في النهاية اسفرت المواجهة غير العادلة التي كانت بين اطراف الشرطة المسلحة وبين الأهالي المدججين بالحجارة والبصل والعصي! على انتصار أهالي البلد إذ دحرج الناس من قمة الجبل الى الوادي 16 سيارة عسكرية من الشرطة. أعتُبِرَت المواجهة على النطاق المحلي وعلى النطاق العام للجماهير العربية داخل البلاد بمثابة هبّة ثورية نجح فيها الناس بتحرير الأرض والمكان وحمايتهم له، لهذا فالجرمق هو رمز مكاني شامخ ورمز نضالي مهم. تنتهي القصة باحتفال الأهالي والمتظاهرين من كل أطياف الشعب والجماهير العربية قرب بركة الجرمق.
لعب المكان في قصة الجرمق دورًا هامًا اذ برع محمد نفاع في وصف الطبيعة القروية والجبلية كما يبرع في الوصف الداخلي ايضاً، اذ استطاع ان يصف ويصور كل ما يدور داخل شخصيتهِ بشكل مُتقن ودقيق ليجعل من نفسهِ احد ابطال القصة واحد مكوناتها الأساسية كفرد من أهالي البلد الذين نجحوا في تحرير ارضهم التي ينتمون اليها انتماءً قويا وعميقًا، ولكنّ البطولة في النهاية كانت للشخصية الجماعية وهي أهالي البلدة وكل الجماهير العربية القريبة والبعيدة التي هبت للدفاع عن الجرمق، ولكن في النهاية لم يكن هناك فرق بين البطولة ان كانت للفرد ام للجماعة، او من هو الفرد ان كان الكاتب ام غيره من الناس، المهم ان القصة كانت عبارة عن مقاومة قد انتهت بفوز أهالي البلدة.
واخيرًا القراءة والبحث في ادب محمد نفاع يثبتان وبكل قوة مفهومًا مُقنِعًا للأسباب التي تربط الكاتب بالمكان وهو الأرض، ارض الجليل وقريته "بيت جن"، وفلسطين عامة وارضها التي هي مكان نفاع الحميمي الذي ابدع في وصفه ووصف الأحداث التي حصلت به بواسطة توظيف الأسلوب الرمزي العميق فيه الخالي من التعقيدات .
من هنا نلاحظ التزامه بالرسالة الاجتماعية والأيديولوجية التي يريد توصيلها الى شرائح مجتمعية واسعة وليس لفئة معينة من القرّاء. كما نستنتج وبشكل واضح بأن المكان هو عنصر أساسي في النمط الأدبي للعديد من الأدباء اذ يهيمن بشكل واضح على صورة الأدب بإعطائه لوناً جميلاً خاصًا يجذب القارئ ويعطيه فكرة ومغزى واضحا اذ ارتبط الادب العربي الحديث ارتباطًا قويًا بقضايا الأرض، المسكن والوطن الذي يخصه ويخص بلاده حيث عبّر من خلاله عن آماله مقاومًا كل محاولات طمس الهوية محافظًا على تاريخ مكانه آخذًا بالاعتبار تأثير كل حقبة زمنية عليه. اذ كانت القضية الفلسطينية لدى الشعراء والادباء الفلسطينيين من أكثر القضايا التي أقضت مضجع الاديب لينتح من خلالها ادبًا عربيًا ناصع البياض، محافظين على اهمية العناصر الاساسية في الادب العربي بواسطة حضور وتأثير المكان عليهم.
//مراجع:
النابلسي،شاكر، جماليات المكان في الرواية العربية، عمان: دار الفارس للنشر والتوزيع، 1994.
بولس،حبيب، انطولوجيا القصة العربية الفلسطينية القصيرة في إسرائيل خلال نصف قرن، عمان: دار الفكر، 2012.
نفاع،محمد، التفاحة النهرية، حيفا: دار راية للنشر، 2011.
4. زيّاد،توفيق، عن الأدب والأدب الشعبي في فلسطين، بيروت: دار العودة، 1970.
(عرّابة البطوف )
باحث في الادب العربي الحديث - جامعة بار ايلان؛ هذا المقال هو كتابة مختصرة عن بحث جامعي موسع عن الموضوع وعن المكان في ادب محمد نفاع
إضافة تعقيب