news-details

المِعطَف.. | يوسف جمّال 

 

لاحظوا بعد مراقبة استمرَّت سنوات، أن له مستقبل زاهر في الفنون المسرحية. فقرّروا ضمَّه الى فرقتهم.

 بعد مقابلة قصيرة، أخذوه الى سوق وادي النسناس، ليقتنوا له معطفا يرتديه على خشبة المسرح. وبعد تجوال في السوق، والبحث بين أكوام الملابس المستعملة، وجدوا عند أحد الباعة معطفين، واحدا صغير المقاس والثاني كبيره. فقالوا له: أنت في بداياتك فخذ الصغير فأخذه.

وعندما لبسه، والأصح حشر جسمه فيه حشراَ مؤلماً، أدخلوه الى غرفة المخرجة.

نظرت إليه بعد جلس أمامها، فقالت له وهي تتفحِّص لباسه، وابتسامة مشفقة ترتسم على شفتيها:

إنك ترتدي معطفاً جميلا.. 

أراد أن يقول لها إنه يقتله.. فسكت.

هل سبق وأن مثّلت على المسرح؟ 

لا.! أجاب وهو يحاول أن يحرّك يده فمنعه المعطف.

وعندما غادر مكتبها، تذكّر أنهم طلبوا منه أن يشاهد المسرحية، التي كانت تُعرض على خشبة المسرح، لعلَّه يتعلَّم منها شيئا ًيفيده في عمله الجديد. 

وعندما دخل القاعة، شعر أن مئات العيون تتجه إليه. بدأ مصدوماً وبعدها مشدوهاً. وسرعان ما تحوَّلت القاعة الى ساحة للضحك والقهقهات.

 حوّل جسمه ومشى باتجاه الباب، ليفلت من هذه المصيبة التي وقع فيها. وعندما وصله، حاول أن يرفع يده لتصل الى يدِّ الباب ليفتحه، فمنعه المعطف مرةٍ أخرى.

فبقي واقفاً في مكانه، شعر أن ضحكات الجمهور تلاحقه.. تتعالى أصواتها وتخمد ومددها تطول وتقصر.

نظر باتجاه خشبة المسرح، فرأى ممثلين يقومون بحركات مضحكة، فانتبه أنَّ الجمهور يضحك، بسبب ما يصدر عنهم من أصوات وحركات. وأن ضحكاتهم لا تتعلّق به.

 شاهد بقيَّة المسرحية، وهو مسجون ومخنوق في داخل المعطف اللّعين، وعند انتهائها غادر دار المسرح راجعاً الى بيته.

وعندما وصله، أراد أن يخرج المفتاح من جيبه، فلم يستطع تحريك يده.

فاضطر الى استعمال جرس الباب، وكان لا يستعمله عادة إلا عندما يعود في وقت متأخر من الليل، خوفاً من أيقاظ زوجته وأولاده من النوم.

أراد أن يمدَّ يده لتصل الى الجرس، فبقيت ملتصقة على جنبه في مكانها.. لقد منعها المعطف من الحركة.!

مدّ رأسه وألصقه بكلِّ قواه بالجرس، وضغط به عليه بكلِّ ما استطاع من قوَّة.. فسمع رنينه في داخل البيت، وأبقى رأسه يضغط عليه، حتى سمع صوت المفتاح يتحرّك في السُّكرة من الداخل، فابتعد عن الباب.

فتحت زوجته الباب وصاحت به:

الذي أعرفه، أن معك مفتاح.!

فبقي متجمّداً في مكانه..

مالك هيك مُجمَّد يا أبا أحمد!؟ شو صار لك!؟ شو صار ليديك!؟

سألته بعد أن تبدَّلت مشاعرها من الغضب الى الشفقة.

فتحرّكت الى الداخل لتمكنه من الدخول الى البيت..

ساعديني لأخلع المعطف.! طلب منها آمرا. 

مدَّت يديها ومسكت بكُمِّ المعطف، وبدأت تشدُّه بكلِّ قوتها، فعجزت عن زحزحته قيد أنملة، حاولت من الكمِّ الثاني فلم تنجح في خلعه. مسكت به من مكان الأزرار من الناحيتين، وحاولت خلعه فلم تستطع..

بقي المعطف لابساً في مكانه، كأنَّه جزء من جسمه خُلق معه!

فلم تجد طريقة سوى أن تقصه، فأحضرت مقصاً كبيراً، وبدأت تقص به من ناحية الظهر، حتى حوَّلته الى قطعتين، وشدَّتهما من الأكمام بكلّ قواها حتى فصلتهما عن جسمه.

فتنفَّست وتنفَّس الصعداء..

ولما أنهت سألته متعجِّبه: من أين لك هذا المعطف اللعين!؟ 

اشتريته! أجاب بلهجة يستعملها عادة ليفهما، أنها لا يحتمل كلام منها في هذه اللحظة. 

بعد يومين اتصلوا به من إدارة المسرح، وطلبوا منه الحضور الى مكتبهم، ولما وصل أخبرهم ما حدث معه المعطف الضيٍّق، فرافقوه الى البائع نفسه واشتروا له المعطف الكبير. 

ولما لبسه شعر أنه ضاع فيه، طوله وصل الى تحت ركبتيه، وكمّاه أطول من ذراعيه بشبرين، وفي حضنه كان يستطيع يدخل رجل سمين..

توجّه الى دار المسرح، وعندما وصل استقبله رجل على الباب أمسك بيده وشدّه، وأخذ يجرُّه الى الدرج الموجود بين المدرّجات، وعندما صار في آخر الدرجات صاح به: الى أين تأخذني!؟

الى خشبة المسرح! أجابه وهو مستمر في جرّه.

ولكنكم لم تعطوني نصَّاً لأحفظه! قال وهو يشدُّ بجسمه ليفلت من قبضته.

دورك ليس فيه كلام أو حركة، وما عليك إلا أن تقف على خشبة المسرح فقط.. ردّ عليه وهو مستمرٌ في جره.

ولما اعتلى المسرح بمعطفه الكبير، ضجت القاعة بالتصفيق الحاد، وبعدها ارتفعت أصوات الضحك والقهقهات حتى ملأتها.

وهو واقف في مكانه لا يتحرَّك.

 واقف متجمِّد.. وهم يضحكون.. متجمِّد وهم يقهقهون..

الممثلون يدورون حوله، ويشيرون باتجاهه وضحكاتهم تنفجر هازَّة جدران القاعة..

جميع أضواء المسرح من جميع الاتجاهات سُلَّطت نحوه..

وهو واقف في مكانه كأنه صخرة.

استمرّ الوضع على هذه الحال ما يزيد عن ساعتين..

وفجأة أطفئت جميع أضواء قاعة المسرح.

وساد القاعة ظلام دامس لا يرى الواحد إصبعه..

وتلاشى الضجيج وران على القاعة سكون أخرس.

 وهو متجمِّد في مكانه ضائع في الظلمات.

وإذا بيد تربت على كتفه، ويسمع صوتاً يقول له:

انتهت المسرحية وانتهى دورك فيها.!

وأخذه من يده، وقاده الى باب القاعة.. فتحه ورماه خارجها!.

عرعرة

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب