قصة الغولة تفارقني أحياناً لأزمان قصيرة، ولأزمانٍ وطويله في أحيانٍ أخرى، ولكنها دائماً تعود أليَّ.
تعود إليَّ عندما يقع حادث في البلد يثير حزني ويأسي، أو مناسبة يلتقي بها أهل البلد على عمل مشترك. إن تعاونهم وتآلفهم يغمرني بالفرح والرضا والفخر.
قبل موته بسنوات عديدة، جلست بجانب جدّي، أشكو له ما ألمَّ بحال بلدنا من فساد وقتل الأبرياء.
فقال - يا ولدي - إن أردنا أن نرجع الصلاح الى بلدنا، فلا بدّ لنا إلا ان نتَّحد، ونطرد الغولة التي رجعت الى حياتنا في بلدنا لتخيفنا وتزرع الشرَّ فينا. مثلما فعل أجدادنا وأباؤنا في ماضينا الجميل.
جلست بجانبه أستمع الى القصة – قصة "بلدنا والغولة".
كان سعيد العارف، الصبي الذي جعل أهل البلد يدخلون المغارة. المغارة التي لم يجرأ على دخلوها أحد منهم قبله. مغارة المغاربي التي تقع غربي البلد .
بدأ جدّي قصته. قصة ماضٍ يملأ قلبه الحنين والشوق الى أيامه.
اعتقد غالبية أهل البلد، أن مخلوقاً غريباً مخيفاً "لا هو إنس ولا هو جان" يسكن في المغارة، ويتخذها منطلقاً للاعتداء عليهم وعلى حيواناتهم، فملأ حياتهم رعباً وخوفاً.
تناقلوا القصة من جيل الى جيل، فكان له التأثير الكبير على حياتهم. منهم من أعتقد أنه كان يسكنها منذ مئات السنين االشيخ "سيدي المغاربي".
بعد أن عافت نفسه كفر وضلال أهل البلد، اعتزلها واتخذ من المغارة مسكناً له، ورفض كل محاولاتهم لمصالحته وردِّه للعيش بينهم، وبقي معتكفاً فيها حتى مماته، وتحوَّلت روحه الى غولة، تنتقم له من سكان القرية الجاحدين.
ومنهم من يعتقد أنه يسكنها جان شرير، ينام بالنهار ويقوم بالليل يتربص بالناس وأطفالهم وحيواناتهم، فيفتك بها وتكون طعاماً سائغاً له.
أما سعيد العيسى، فيقسم أغلظ الأيمان على صدقه في قصته مع غولة المغارة:
"فبينما كنت أسير بالقرب من المغارة، فإذا بغولة أكبر من ثور أبو العبد تقترب مني، وتزعق في أذني زعقات هزّت الجبال، جعلتني أغيب عن الوعي، وأمشي وراءها باتجاه المغارة.
ولولا أن لطم رأسي في سقف مدخل المغارة فصحوت من غيبوبتي، لدخلت وراءها، وتحولت الى طعاماً سائغاً لها.
تركت المغارة وولّيتُ هارباً راجعاً الى البلد، والهلع يقطِّع أوصالي، وكنت كلما ركضت عدة خطوات، أنظر خلفي لأتبيَّن أنها لا تلحق بيَّ.
ومنذ ذلك اليوم وهو يملّ ولا يكلّ، من سرد قصته مع الغولة.
ويفسّر الشيخ عبد الله الزيناتي الحالة التي مرَّ بها سعود العيسى، بأنها حالة "الضبعة".
فالغول عندما يريد أن يسحب فريسة من البشر الى مغارته ليفترسه فيها، يزعق في أذنه بقوة، فيصبح الضحيَّة تحت سيطرته (مضبوعاً)، فيسير الغول باتجاه مغارته، ويمشي الضحية وراءه مسلوب الإرادة، الى أن يُدخله المغارة ويفترسه فيها.
أما محمد الشايب فيحكي:
بحثت عن بقرتي الحلوب في كلِّ مكان فلم أجدها، فلم قاربت الشمس على المغيب، ويلفِّع الظلام القرية وبراريها، قلت في نفسي البقرة راحت.
فتوجهت الى الشيخ سليم لألجم عليها. ناولته الموس الذي كان لا يفارق جيبي، ففتحه نصف فتحة، وقرأ عليه بعض الآيات والتعاويذ، وناولني إياه موصيّاً:
إيّاك أن تفتحه حتى الصباح. إن فتحته البقرة "بتروح" ويأكلها الغول.
ومن أول المصابيح، توجهت الى مراعي البلد، فوجدتها ترعى العشب في هناء ولذة. وعندما اقتربت منها، لاحظت آثار خطوات كبيرة بالقرب منها.
فتأكَّدت أن الغولة حاولت مهاجمتها فمنعه اللجام. وكان حليبها لمدَّة سبعة أيام من نصيب الشيخ سليم.
ويقسم محمد العبد أنه رأى حيَّة رقطاء ضخمة، طولها أربعة أذرع ورأسها بحجم رأس ثور ضخم. رآها تدخل الى المغارة وفي فمها
كبش كبير.
وعندما حكى قصته لشيخ مسجد القرية قال مفسراً:
هذه الحيَّة من صنف الجان، لا تخرج من وكرها إلا في الليل، وإذا ما لسعت فريستها سقط ميِّتاً. فزاد ابتعاد أهل البلد عن المغارة وشرَّها.الى أن ظهر البطل سعيد العارف. وقاد البلد الى دخول المغارة وطرد الغولة منها.
وهذه قصته التي رواها صديقه سالم الموسى ويتناقلها أهل بلدنا من جيل الى جيل.
***
إلحقني.
صاح بي سعيد ومشى أمامي. هكذا كان يفعل عندما يعقد العزم على اصطحابي للقيام بعمل خطير.
بدأ بالسير قبل أن يتلقّى ردّاَ مني على طلبه. كان يعرف أنني لا أخالف له أمر في مثل هذه الحالات.
وين؟ سألته في هذه المواقف معه بعد أن لحقت به كعادتي.
على المغارة. ردّ بلهجة من اتخذ قراراً خطيراً، لا رجعة فيه.
على المغارة؟ همست بهلع.
آه. بنّا نشوف شو فيها. ونخلِّص أهل البلد من الغولة.
أجابني وهو يسابق قدميّه.
إحنا؟ أنا وأنت؟ سألته وأحاسيس من الدهشة والاستغراب والخوف، تسرّى في كلِّ أنحاء جسمي.
امشِ لا تكن جباناً مثلهم. ردّ عليّ ردّاً أفهمني فيه أنه أمر لا رجعة فيه.
سرت بجانبه في الطريق الى المغارة. كنت أجرُّ قدميّ بصعوبة كبيرة، وأحسست أنهما أصبحتا ثقيلتين.
بعد مسافة طويلة من الصمت الثقيل، استطعت أن أرفع رأسي بصعوبة، لأسترق نظرة خاطفة باتجاهه.
كانت أمواج من الرهبة تنتشر على صفحات وجهه. كان يسير بتسارع كبير، كأنه كان يسرع الى مكان يشّده إليه بقوة، وكان لا بدَّ لي من الجري حتى ألحق به. وعندما أصبحنا على بعد مئتي متر عن المغارة وقف فوقفت. توجه اليَّ بعينين تطفحان بالتحدِّي المجنون:
استناني هون مدة قصيرة، ان رجعت ما صار إشي. وان ما إرجعتْ، بتروح "تفزِّع" أهل البلد. فاهم شو بقلَّك ولاّ أعيد؟
أكمل وهو يهاجمني بعنين يرميان سهام مخيفة، لا تقبل المعارضة أو الإحتجاج.
شعرت أنه يلقي على كاهلي أحمال الدَّهر. وقبل أن أنطق بشيء مشى باتجاه المغارة.
ووقفت متسَّمراً في مكاني، وعيناي منصبتان على هذا المخلوق العجيب، الذي يسير الى حتفه المحتوم، يفلت من بين يديّ وقوايَّ عاجزة عن منعه.
أخذه الطوفان منّي، ولم أجد بيَّ القوة حتى أنشله منه.
كلما ابتعد عنّي كان يصغر شيئاً فشيئاً، حتى اتحدت ملامحه في كتلة واحدة ليس لها معالم أو ثنايا، حتى اختفى عن عيني.
ولم أستطع أن انتظر المدَّة التي أمرني بها.
ولا أدري ما هي القوة التي حملتني ورمت بيَّ الى الطريق، وساقتني بسرعة البرق نحو البلد.
وعندما وصلت البيوت الأولى، بدأت أصرخ وأصيح بأعلى صوتي:
يا ناس. يا أهل البلد. يا ناس يا أهل البلد.
محمود فات على المغارة.. محمود فات على المغارة..
إنقذوا محمود من الغولة.
طفت كل ّحارات البلد وأزقَّتها، مزارعها بيادرها وكرومها.
وعندما رجعت الى المغارة، هالني ما رأت عيناي.
كان جموع غفيرة من سكان البلد، تقف في المكان الذي كنت أقف فيه قبل نزولي الى البلد، لأستنجد بهم.
كانوا يقفون في صمت رهيب.
وبعد سكون طويل كاد أن يخنقنا، خرج صوت من بين الجموع كسَّر الصمت الثقيل:
من يدخل المغارة وينقذ الصبيَّ الذي دخلها؟
سكون ما قبل الانفجار.
المختار. أليس هو المكلَّف بحماية أهل البلد؟ سُمع صوت من وسط الزحام.
لن أدخلها. مثلما دخلها هو دون أن يسأل أحد، فليخرج منها. ردَّ المختار بتحدّي.
ولكن معك سلاح يا مختار. صاح آخر.
السلاح هذا للحكومة، وتراقب كل رصاصة بتطلع منه. أجاب المختار.
صوت امرأة من بعيد: ولكن الولد دخلها، ليحمي أهل البلد من الغول.
فردَّ المختار بصوت من سئم هذا الحوار:
ليدخلها أبناء أصحاب الأراضي، التي ليس لها آخر، ومال لا تأكله النيران، وسلاح ليس له عدد.
سلاحنا مهرَّب نخاف أن نستعمله. ارتفع صوت صاحب المعصرة.
ولكن في أية حالة ستستعملونه؟ صاحت دايَّة البلد.
فلم يُسمع لسؤالها رد.
من يدخلها سندفع له مالاً، يكفيه طعامه وشرابه بقيَّة حياته.
أكمل أحد ملاك الأرض الكبار.
سنموت كلنا وتموت معنا، وتأخذ مالك معك الى القبر، قبل ان يستفيد منه أحد.
خرج صوت من بين الجموع.
كان صوت جمال الحسن أغنى رجال البلد.
ليدخلها إمام البلد. صوت خرج من بعيد.
لن أدخلها حتى تأتي مشيئة الله. ردّ الإمام بلهجة خطبة الجمعة.
ستخرِّب بيوتنا ونحن ننتظر - يا سيدي الشيخ. انطلق صوت امرأة يخالطه بكاء وحسرة.
وعاد السكون ليقبض على خناق المكان.
أنا سأدخلها وأخلّص البلد من الغول وأنقذ الصبيَّ. صاح محمد عامل المطحنة.
أنت؟ زعق المختاربهزء واستهتار.
وأنا سأدخل معه. صاحت خديجة الحطّابة.
أنت؟ ارتفع صوت جمال الحسن من بين الجموع.
وأنا معه. ارتفع صوت أحد الفلاحين.
وأنا معه. وأنا. وأنا. تتابعت وتكاثرت أصوات المتجمعين على باب المغارة حتى تحوَّلت الى طوفان هادر.
تركوا الإمام والمختار وأصحاب الأراضي، ومشوا نحو المغارة.
كانوا يمشون في صمت نحوها، متكاتفين ملتحمين ببعضهم، حتى شعروا أنهم تحوّلوا الى كتلة واحدة، وعيونهم منصبَّة على مدخلها.
كلّ خطوة من خطواتهم، كانت تزيد من أحاسيس الخوف في نفوسهم، فيلتصقون في أجسام بعضهم بعضاً، ليستمدوا القوة للاستمرار بالسير.
عندما وصلوا الى باب المغارة، تزاحموا وتدافعوا. كلهم يريدون أن يدخل إليها أوَّلاً.
قتلوا الخوف من قلوبهم، شعروا أنهم كتلة واحدة كبيرة، لا تستطيع الغوليَّة مهما كانت قوتها وجبروتها أن تنال منهم.
وعندما دخل أوائلهم االى داخل المغارة لم يجدوا الغولية فيها.
وقف موسى عامل المعصرة، على سطح المغارة، وصاح
بالجموع المحتشدة أمامه:
لم نجد الغوليَّة هنا اليوم، لقد "ضبعت" سعيد، وعندما رأت اتحادكم وتلاحمكم غادرت البلد هاربة.
ولكن بقايا آثار جرائمها مكتوبة بالدم على أرضيتها، بدماء أجدادنا وآبائنا وأولادنا.
ربما قصدت مكاناَ أخر من بلادنا، لتنشر الموت الخراب فيه.
اليوم قتلنا "حلفاءها" من الغيلان الموجودة في صدورنا، التي كانت تفرِّق بيننا.
ومن المؤكَّد أن الغولة، ستعود الى بلدنا لتحاول مرة أخرى.
ولكننا باقون هنا، وإننا "بانتظارها".
فتفرَّق الجمع، وعادوا الى بيوتهم، وكلُّ واحد منهم يشعر أن شيئاَ ما تغيَّر في نفسه.
- عرعرة
إضافة تعقيب