news-details

جبال الريح الجزء 2 الحلقة 20

في تلك السنوات الغزيرة بأحداثها، نشرت الكثير من القصص القصيرة، وصدرت لي مجموعتان منها: وَديّة، وريح الشمال. الوديّة تعني شتلة النخل بطول قامة الرجل..، لكن كثيرين راحوا يلفظونها وُدّيه!!

هذه الحلقة من السيرة والذكريات، فيها وقائع نُشرت في قصة "خفّاش على اللون الأبيض" التي صدرت في مجموعة ضمن مجلد "انفاس الجليل"، بذلت جهدا لإقناع زوجتي لنسافر الى الاتحاد السوفييتي، قضاء عطلة ثلاثة اسابيع، وهي أم لخمسة اطفال، ورفضتُ أنا السفر وحدي.

وألحّت والدتي وأختي عليها:

  • ما عليكي من الاولاد، إحْنا مندير بالنا عليهم.

وهكذا كان، كنا قد بدأنا ببناء بيت جديد في المكان الذي حلمت به منذ طفولتي، يطل على الخط الشمالي وتَلّتين من جنوب لبنان، جبل عامل، الحدّاية من دير الأسد، والرينة، وميعار يذكرون في صف السحجة جبل النار، والجليل، وجبل سيخ وجبل عامِل، وأنا أنظر الى جبل عامل من مكان البيت الجديد، مارا بنظري على جبل وَسْط والقرانيف والمَضبعة وعداثِر، وهي طريق المهرّبين الى لبنان، ويا نِعمك إن رأيت سيارة يلمع نورها على قطعة من الخط الشمالي، في فجاج العتمة الحالكة والمجهول الغامض.

السفينة تمخر ليلا الى قبرص، والبحر المظلم كبير صاخب وشقعات المياه تندفع على جانب السفينة، راحت نايفة الأم في صفنة ووجوم.

  • بَدّي أرجع، كيف تركت الاولاد لحالهُن!!

وأنا أشجعها، وأطمئنها، لكن الابن الخامس عُمر مريض، من ذوي الاحتياجات الخاصة، وهذا ما ضايقَها، وصالحة أرملة عمي حسن قالت لها: روحي مع محمد، أنا أتكفل بالولد، لكن قلب الأم له رأي آخر عبّر عنه سالم جبران ببيت الشعر المعروف:

كما تحبُ الأم طفلها المشوّها

  أحبها حبيبتي بلادي

يبدو ان ركوب الطائرة من مطار لارنكا القبرصي الى موسكو، فوق أكداس الغيم الأبيض المُهلهل مع فجوات وثغرات ألهى نايفه بعض الشيء.

في مطار موسكو استقبلنا إثنان من قِبل الكومسومول ومترجمة اسمها تانيا. والى فندق يونِست حيث نزلنا يأتي بعض الطلاب الدارسين هناك، من رفاق الشبيبة الشيوعية، مع آخرين من فلسطين والأردن والعراق وسوريا.

المترجمة تانيا تستعمل حرف اللام: لنذهَبْ، لنأكل، لِنعود، لِنشرب، لنجلس، لننهض... أما عند الفحص الطبي فقالت: لِنُبوّل!! كله بشكل جماعي. فما كان مِني إلا أن تناولت يدها الطرية وقلت: هيّا بنا لنبوّل معا كما تقولين. حمرقتْ واستحَتْ وضحكت بتقطع.

بعد ثلاثة ايام في موسكو وبردها وثلجها وعظمتها ونظافتها، وبعد زيارة الساحة الحمراء وضريح لينين والكرِملين، سافرنا الى المطار للانتقال الى الجنوب، الى سوتشي على البحر الأسود، ومعنا مرافقة قالت: أنا مرغريتا مرافقتكم الى القِرم. حطت الطائرة اولا في سِمفوروبُّل، فما كان من مرغريتا بسلامتها إلا ان قالت: يقدمون الطعام للطائرة من مؤخرتها!! بدأت أحلم بقضاء ايام جميلة، فهي مجتهدة، تدلنا على كل شيء، حتى عندما رأينا دجاجات سارحة قالت: حَريم الدّيك، ورحت أسجل هذا الابداع في الترجمة.

كنت قد قرأت عشرات كثيرة من الكتب السوفييتية المترجمة الى العربية، نقْتنيها من المكتبة الشعبية في الجانب الغربي من دار الصداقة، ومدير المكتبة الرفيق سهيل نصار، لكن معظم الكتب قرأتها في مكتبة المعهد في موسكو سنة 1971 ونحن في المدرسة الحزبية، عن حرب الأنصار، وكيف سقينا الفولاذ، وجون ريد، عشرة أيام هزّت العالم، عن بوديوني والقوزاق، بوشكين وشولوخوف وتشيبايف.

مرغريتا تعمل في وزارة الخارجية، كانت في سوريا ولبنان والعراق، وهي ملمّة باللغة العربية وتواصل دراستها وتقول لزوجتي: هو يعرف كل شيء. صارت بيننا وحدة حال. رحت اشرح لها عن معارك القفقاس وقوس كورسِك، وأبطال قلعة بريست، وحصار ليننغراد، ومأثرة ستالنغراد وقصة الرعب والجرأة او طريق فولوكولامْسِك... وهي تبتهج وتبدي دهشتها. من يالطا الى سوتشي سألتْ: في المطعم هناك يقدمون كل شيء ثم همست: هل تأكلون لحم الخنزير!! هو محرّم عندكم.

  • نأكل لحم الخنزير – سْفينايا – ونشرب الفودكا،.. وزوجتك ايضا!! وأنا ايضا قالت نايفه.

قالت مرغريتا بهمس: قدمنا مثل هذا الطعام لفرقة من (...) فما كان منهم إلا ان رموا صحون الطعام في وجه الطبّاخات.

  • همَج!! قلت. كان بإمكانهم إعادة هذا الطعام وليس رميه في وجوه النساء.

في طريق صاعد، مُلولَب، فيه الكثير من المنعطفات قالت مرغريتا: هذا الطريق نسميه لسان الحَماه. ونحن لدينا الكثير عن العلاقة بين الحَماه والكِنّة: مكتوب على باب الجنة، ما حماه بتحِب كِنّه، وفي لبنان يقولون: متى ما الواحدة قَبرتْ حماتها وجوّزت بناتها، بتقعد وبتمدد جْرِياتها. وهي تسجّل هذه الاقوال.

في سوتْشي وضعوا تحت تصرّفنا شقة كبيرة جدا، ومريحة، ودلّتنا مرغريتا على البناية التي كان يقضي فيها ستالين عُطلته لم تعلّق ولم تتدخل وأنا أعبّر عن تقديري الكبير لستالين. في سوتْشي وجدنا هناك دكتور كيسار من نيبال والرفيق فاسالو سكرتير الحزب الشيوعي في مالطة، وأي خليط غريب عجيب في لغة مالطة!! ودكتور كيسار انشدَ لنا اغنية:

كُبي كُبي نِرِدِلْني

  هيالاتا هيالاتا

هيالاتا تعني الخيال، وبدَن: البدَن او الجِسم، وكُشي تعني كشة الشعر، نشرت مقاطع من هذا النشيد في قصة خفاش على اللون الابيض، في زيارتي الى نيبال قلت للرفيق هناك عن هذه الأنشودة فقال لي: هذا نشيد سيء رجعي.

في لقاء آخر مع مرغريتا، وضمن وحدة الحال والصداقة والانتماء الحزبي همست: يقولون عن رايْسا زوجة غورباتشوف انها اشترت سبعة معاطف غالية الثمن من لندن، والكثير من الذهب، وفي فرنسا قالوا عنها: لها ذوق وتجربة في المشتريات والتسوق!! وإميل حبيبي يقول: لأول مرة تكون زوجة الرئيس السوفييتي صبية وجميلة، أجمل من زوجات المضيفين في بريطانيا وفرنسا.

عادل إمام كان أبعد نظرا من معظم الاحزاب الشيوعية، بعد وفاة برجنيف واندروبوف وتشيرنِينكو العجوز قال:

كُل ما إجا واحد بمشي، لأن أندروبوف لم يعمّر طويلا ويقال انه مات مسموما وهو الذي أراد ان يعيد الأمور الى نصابها بعد هذا السيل من الأخطاء والبيرقراطية والحصار الاقتصادي وسباق التسلح وحرب النجوم، وكذلك بعد تشيرنينكو ومجيء غورباتشوف الذي سمّاه عادل إمام: ياما بُكرة تشوف!! جاءت بكرة وشفنا الانهيار وخيانة يلتسين وغورباتشوف وشفِرنادزِه، وكان للصهيونية دور في التحريض على الاتحاد السوفييتي، عملتْ من ساخاروف وسولجنتسين ومحب وأسير صهيون شيرانسكي أبطالا، وها هي حدائق ساخاروف في مدخل القدس. وشيرانسكي يصبح وزيرا في اسرائيل، ويفتح باب هجرة اليهود الى اسرائيل، بعد ان منعت الولايات المتحدة هجرتهم اليها. والرجعية العربية ليس فقط انها ساهمت في الحصار الاقتصادي على الاتحاد السوفييتي، بل موّلت الكثير من مخططات امريكا ضد الاتحاد السوفييتي، وحرضت عليه: كيف سمح لشيرانسكي بالقدوم الى اسرائيل!! فهذه ضربة للقضية الفلسطينية والعروبة التي تموت حبا في فلسطين، تماما كما نراها اليوم في الخليج والمغرب ومصر والاردن. وها هو الرفيق ماير فلنر امين عام الحزب يهتف في عكا:

ضُلِّلْنا وضَلّلنا!! تأييد مطلق لغورباتشوف، لياما بكرة تْشوف الذي قال: أنا أتفهم تمسك اسرائيل بالجولان من اجل أمنها، الشهادة أمانة،  الرفيق الوحيد الذي خاف من سياسة غورباتشوف هو الرفيق توفيق طوبي الذي قال في مركز الحزب في تل ابيب شارع مازِه رقم 61: لا تستَعجلوا يا رفاق في الحماس لغورباتشوف، اليَد على القلب!!

وبدأنا نتأثر بإعادة البناء، والشفافية، والعلنية، والتعددية، والإفراط والمبالغة في كل ذلك، الامر الذي أدى الى نقاش حاد داخل الحزب وخروج عدد من قيادة وقواعد الحزب من صفوف التنظيم.

وبدأ مشوار "الحَداثة والتسيّب": طرح البعض إلغاء الحزب وتسجيل الجبهة، او تغيير اسم الحزب: الحزب الاشتراكي، للابتعاد عن كلمة الشيوعية، او الاكتفاء باسم الحزب الماركسي للابتعاد عن لينين الروسي السوفييتي حيث كان الانهيار، ومعنى ذلك الغاء "المركزية الدمقراطية" من دستور الحزب!! وجاهروا بذلك.

أما الطامّة الكبرى، عندما قلت في اللجنة المركزية ان غورباتشوف خائن، قامت قيامة تسعة أعضاء في اللجنة المركزية، وقع البعض تحت تأثير الشارع اليهودي الصهيوني!! وظل النقاش الحاد حتى جاء الحزب الشيوعي الروسي في مؤتمره الثالث وقال: نعم كانت هنالك خيانة من بعض قادة الحزب، بالاشارة الى غورباتشوف وشفرنادزه ويلتسين وياكوفليف الصهيوني، رئيس اللجنة الفكرية في الحزب الشيوعي السوفييتي، تشبها بسرسْلوف بعيد الشّبه.

أذكر ان الحزب الشيوعي الوحيد الذي اتهم غورباتشوف بالخيانة، كان الحزب الشيوعي الارجنتيني. قبيل وبعد الانهيار خرج حزبنا "مجرَّحا وليس مقتولا" بوعي وإرادة معظم رفاق اللجنة المركزية بالرغم من النقاش الحاد الذي كاد يؤدي الى انقسام الحزب.

وتجوّل غورباتشوف في عدد من الاقطار الاشتراكية يحمل معه رسالة وبذور الانهيار تحت يافطة الدمقراطية.

ومن المناظر البشعة والمؤلمة التي لا تغيب عن بالي، إطلاق النار الاجرامي على تشاوشِسكو وزوجته في رومانيا، وهو يعرّض صدره للرصاص وبالرغم من الموقف منه، بقعة من النار والدخان من فم البنادق وصدر تشاوْشِسكو.

وكذلك شنق الرئيس العراقي صدام حسين التكريتي يوم العيد بحجة سلاح الدمار العام الشامل، وهي الكذبة الاجرامية من قبل الرئيس الامريكي جورج بوش، هذا الرئيس الابن وفي كل خطاب كان يُبحلق في المشاهدين ويحرض على – سَدّام هوسين!!

قالت مرغريتا: هذه العين يسمونها دموع المرأة، لأن المرأة العائدة من عطلتها في الجنوب، تكون قد فارقت حبيبها الذي تعرفت عليه ومارست معه الحب، شربتُ من عين دموع المرأة، كانت المياه عذبة باردة صافية. وهذه العين اسمها دموع الرّجل، هنا يأتي الزوج ويتخيل زوجته وهي تقضي أياما وأسابيع في حضن عاشق من وراء ظهر الزوج، فيروح يذرف الدموع، كانت مياهها عذبة نقية.

في سوتشي وجدت كرّاسا عن جمهورية تتاريا ذات الحكم الذاتي، وعندما سألوا في المطبخ: هل تريدون طعاما خاصا من بلادكم؟ هنا يعرفون كل شيء، قلت نريد وجبة من طعام التتار. أحضروا طعاما اسمه المانتيه – كرات من العجين المسلوق والمقلي محشي باللحم المدهن والبصل ومختلف التوابل. انا الوحيد الذي أكلت بشهية، اما مرغريت فقالت: التّتَر يعني تَتَر.

كنت استحليها وهي تلفظ حرف الضاد خاصة كلمة على مضَض، تستصعب ذلك ويظهر رأس لسانها الغرِق الجميل بلون ورق الورد الجوري المسقي في الصبح.. فحسبت للأمر ألف حساب.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب