news-details

جدلية الماضي والمستقبل لعلاقة الحب والغرام

*قراءة في المجموعة الشعرية «كنتِ أنتِ وكنتُ أنا» لناظم حسّون*

 

يرى كثير من النقّاد قديمًا وحديثًا أنّ الفن ينبغي أن يولي اهتمامه لموضوع «ذاتية« الفنّان وحاجته الداخلية الى التحقق والتجسُّد. وفي هذه النظرة انعكاس لا لقراءة الشاعر فحسب، وإنّما لطريقتهِ في معاناة الحياة عامةً ومعاناة الحب الغرامية خاصة وتوضيحا لتاريخ الأفكار العاطفية والمشاعر الداخلية أيضًا. ويبدو أنَّ شاعرنا ناظم حسّون في مجموعته الشعرية «كنتِ أنتِ وكنتُ أنا » هو من بين شعراء الوجدان الذين اعتمدوا الذات منطلقًا لهم في هذهِ القصائد. فقد التحم لديهِ الفكر بالإحساس، والوجدان بالعاطفة، فجاء شعره في هذهِ المجموعة صدى لمعاناتهِ الحبيّة العشقية وتداعياتها في ماضي علاقته مع المحبوبة، وحاضرها ومستقبلها، فشكّلت صورة أو صورًا من هذه العلاقة الرومانسية.

ومن اللافت أنّ الشاعر ناظم حسّون في شعره بهذه المجموعة ينتمي الى فئة من الشعراء الذين لم يصرفوا همهم الى وصف محاسن المرأة وأعضائها ومفاتنها، ولم يتغنَّوْا بفضائلها وأخلاقها، ولكن راح شاعرنا يصوِّر ما يلقاه العاشق المحبّ من شوق ووجد وهيام، وما يعانيهِ مِن ألم الفراق ولوعة البعاد، يتغنّى بخيالها ويمنّي النفس بزورةٍ من طيفها وهو مضطرب لما يلقاه من أسى الهجران والحب العنيف الذي يكاد يحطِّم القلب ويثبِّط العزم. وتقف قصيدة:

« سألتُها: هل تقرئين بريدي؟» (ص 31) في طليعة هذا الضرب من الغزل الذي يصوِّر ما يعانيه الشاعر من وجد واشتياق حيث يقول:

ساءَلتُها: هل تقرئين بريدي؟

أم هل نسيتِ رسائلي وقصيدتي؟

لكنّها قد أمعنتْ في صدِّها

حتى سؤالي عادَ دونَ رُدودِ

فإلى متى تقسو على القلبِ الذي

أعطاكِ ما أعطى بغيرِ حدودِ

لو كانَ بعدَ اللهِ مَنْ اجثو لهُ

ما كانَ غيركِ في الورى معبودي

وهنا نلحظ استخذاء وتوسُّل الشاعر لحبيبته بخنوعهِ المطلق لها كأنّها إلَهَةٌ يُسجَد لها حتى أنّهُ في نهاية هذه القصيدة يصوِّر يأسه من استجابة الحبيبة لرجائهِ لهجرانها وتنكّرها وتعذيبها له مما سيؤدي الى لقاءِ ربِّه في وقتٍ ليس ببعيد نتيجةً لتجاهلها لعاشقٍ مُتيّمٍ بحبِّها مثله وقد جاء قوله في ذلك:

 

ما بالُهَا حكَمَت عليَّ بهجرها

وتنكَّرتْ لمودَّتي وعُهودي

إنْ كانَ يُرضيها عذابي بَعْدَهَا

فلقاءُ حتفي باتَ غيرَ بعيدِ

(ص 33).

 

إنّ شاعرنا لا يفقد الأمل نهائيًا في استجابة الحبيبة لتوسلاته بعدم الصد والهجران، ففي قصيدة « كيفَ انتهينا الى صدٍّ وهجران » (ص 56) نجد بعض النفحات التفاؤلية في هذا الصدد، وإنْ كانت طفيفة في امكانية تحقيقها. فالشاعر يرى المستقبل المأمول في ماضيه، وأنّ عودة الماضي تعني اشراقة مستقبل غرامي بهيج مع الحبيبة، وتعني عودة الحياة الجميلة له، بهذا يندمج المستقبل في الماضي بعلاقته مع المحبوبة، هذا ما ترسمه القصيدة المذكورة هنا، فهو لا يريد غدًا غير مُجَرَّب وغير مألوف عنده، وإنّما يريد إياب ربيع الحياة الماضية التي رآها وجرّبها من قبل، ويريد حضور فردوسه المفقود المتمثّل بعودة الحبيبة إليهِ من جديد، ورجوع روحهِ إليهِ المتجسِّدة حبيبتهِ الذائب في هواها. وتتمظهر هذه المعاني في قولهِ:

 

واللهِ واللهِ إني عاشقٌ دَنِفٌ

وإنَّ حُبِّكِ في نبضي ووجداني

فقد تَرِقُّ لحالي بعدما عَصَفَتْ

وأجَّجَتْ ريحٌ ما عانيتُ نيراني

وإنْ تَقَصَّيْتِ لي ذَنْبًا فمعذرةً

فما قَصَدْتُ وهل أسعى لخُسْرَانِ

فما خلا الشِّرْكِ يرجو العبدُ مغفرةً

فهل لذنبي مِن عفوٍ وغفرانِ

وإنْ أردتِ مقاضاتي فمرحمةً

فصادِقُ الشِّعرِ يا سمراءُ قُرباني

عُودي إليَّ فروحي فيكِ عالقةٌ

كما تَعَلَّقَ بالرحمنِ إيماني.

 

إنّنا نلمح في ألفاظ ومعاني هذهِ القصيدة جماليات الغزل وتصوير العواطف والصدق في المشاعر والإحساسات. ومع توسُّل الشاعر ورجائهِ ومع ضعفهِ وعجزهِ يأتي هذا التمني الحار من الأعماق، لينقل عشق الشاعر وحبهِ لحبيبته ؛ وإذا كان الشاعر يبالغ في تصوير آلام الفراق، فما ذلك إلاّ ردة فعل لحبٍّ عظيم للمحبوبة، يتفاعل في نفسِهِ، ويدفعه تلقائيًا للبحث عن كل ما يؤدي بهِ انفعاله الصادق هذا، فهو في الحقيقة يبحث عن معادل موضوعي يمكّنه من أن يقيم نوعًا من التوازن مع نفسِهِ المضطربة المتوترة؛ فالطريق الوحيد للتعبير عن الإنفعال في صورةٍ فنيّة، هي العثور على معادلٍ موضوعي ؛ مجموعة من الأشياء أو موقف، أو على سلسلة من الأحداث تكون مصورة للانفعال الخاص. والشاعر ناظم حسّون يؤدي انفعاله الحزين هنا معتمدًا على مجموعة من الأشياء بدأها في قصيدتهِ « ما زلتُ أحْلُمُ أن تعودَ إليَّا » (ص 15) بالحديث عن الحنين، وتناثر الدموع على الخدود كالمطر، وأنهاها بالحديث عن الوفاء بعهود الحب:

 

ما زلتُ أحلُمُ أنْ تعودَ إليَّا

كالنبعِ ثرَّاً صافيًا ونقيَّا

يا هاجرًا قلبي وفي قلبي لهُ

حبٌّ يُزَلزلُ كُلُّ نبضٍ فيّا

هاجَ الحنينُ لهُ فهاجتْ أدمُعي

وتناثرت مطرًا على خَدَّيا

إني على عهدي وربّي شاهِدٌ

ولسوفَ أبقى ما حَيِيْتُ وفيّا

 

ومن هنا نرى أنّ شاعرنا بين هذا وذاك يوظِّف عناصر مختلفة في قصائد مجموعتهِ هذه تدور كلها في هذا الفلك الى حدٍ كبير ملموس. والنص الشعري لديهِ هنا كلٌّ لا يتجزّأ يسري فيه شعورٌ واحد ونفس واحد يعلوان ويهبطان مع توتّر النفس الشاعرة واستسلامها. فهو يعتبر أنَّ جمالية الشعر في القصيدة تقوم على مدى ارتباطه العضوي بالمضمون المتفاعل داخله. وهو أيضًا لم يشغل نفسه بالحديث عن مناقب وخصالِ الحبيبة بل شغلها بالحديث عن وقع موقف الصّد والهجر وألم الفراق والبعاد ورجاء عودة الحبيبة إليهِ ووفائهِ إليها.

والشاعر حريص كل الحرص أن يوفِّر لقصيدتهِ موسيقى لفظية ملحوظة وإيقاعًا مُريحًا يضيفان لصورهِ البسيطة بُعدًا وإيحاءً، وتعطيها مذاقًا خاصًا ولونًا انفعاليًا فتتّخذ شكلاً مؤثرًا في نفوس السامعين والقرّاء. فالشاعر يعتمد اعتمادًا كبيرًا على الوقع الصوتي للألفاظ والأساليب في نقل آلامهِ وخيبة أملهِ وتصويرهِ لمعاناتهِ في الحب والغرام.

ولو تتبّعنا عمل الشاعر ناظم حسّون الشعري في هذهِ المجموعة لوجدناه قائمًا على صراع نفسي يتنامى قليلاً قليلاً في التأزم فيصَوِّر فرادة وخصوصية الموقف الغرامي في جوٍ عاطفي مشحون بالحزن والألم والوجد تنسجه انفعالات وكلمات وتصرّفات حتى ذروة اكتمالها. وتأتي ألفاظه وموسيقاه معبرة عن شعوره تعبيرًا تامًا فيسمو بشعرهِ ويقدِّم لنا ضربًا من التعاطف الإنساني الذي يشعر بهِ المتلقي في أحيانٍ عديدة قد نجد انعكاسًا لكل ذلك تخلص به خاتمة قصيدة «أشكو إليكَ الصدَّ والهجرانا» (ص 49-51)، وفيها يقول شاعرنا:

 

لو كانَ للنسيانِ عندي حِيلةٌ

لتخذتُها كي أَبْلُغَ النسيانا

 

لكنَّ حُبَّكَ في شراييني سَرَى

فاستنزّفَ الأعصابَ والوجدانا

 

فكأنّهُ الخمرُ التي سَوَراتُها

تَدَعُ الشقيَّ بشُرْبِها سكرانا

 

يا مَنْ تمكَّنَ في الشغافِ غَرَمُهُ

وأذاقني مُرَّ النوى ألوانا

 

حَسْبي وحَسْبُكَ أنني يا هاجري

أزْدادُ فيكَ على الجفا إيمانا.

 

وأخيرًا وليسَ آخرًا، فإنّ أبيات قصائد مجموعة «كنتِ أنتِ وكنتُ أنا » على بساطتها وسهولتها وسلاستها تحمل دفئًا وحبًّا وحرارة ومرارةً، واستسلابًا قهريًا أمام جبروت الحبيبة وعذاب المُحبّ. ولعلَّ الغنى الرومانسي للشاعر في هذه القصائد يأتي من هذه البساطة وعدم الغموض، ويتولد من كثافة التجربة الغرامية التي يريد الشاعر أن يعلقها وينقلها عبر وعيهِ.

فللأستاذ الكريم ناظم حسّون، خالص التحيات، وأطيب التمنيات بدوام التوفيق والمزيد من الابداع والعطاء مقرونةً بوافر محبتنا وتقديرنا.

(كفر ياسيف)

 

 

 

 

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب