ترتسم القدس مدينة روائية جميلة قبل هصرها وخسرانها بشطريها عام 1948 وعام 1967 فهي في " صيادون في شارع ضيق" (الصادرة بالإنجليزية عام 1960) لجبرا إبراهيم جبرا تسكن ذاكرة جميل فرّان ويضوع عبق بخورها من حديثه اللامتناهي عنها منذ لحظة وصوله بغداد عام 1948.ولم تستطع بغداد بإشعاعها الثقافيّ وجمالها المعماريّ وقوس قزحها السكانيّ أن تحلّ محلّها . أجمل المدن في نظر جميل فران مشظاة ، صور حبيبته ليلى المقتولة والبيت المهدّم تلاحقه ليل نهار " ومن خلال النوافذ القوطية المضيئة برزت سقائف دار ليلى ودارنا مهصورة- محطّمة " (ص82).وفي رواية "عائد إلى القدس " (1998) لعيسى بلاطة ، تحضر القدس بأزقة البلدة القديمة وحي القطمون الغربي ، الذي أضحى بعد 1948 مكانا مهدّما ومهجورا ،لكنّها تستعاد من خلال ذاكرة فؤاد السرحان المقدسيّ الجذور، الذي يعيش في الشتات، مكانا جميلا بحاراته وبمبانيه الأنيقة. وتحكي الرواية الضياع والتمزّق النفسيّ لدى المقدسيين في المهجر،رغم انتعاشهم الاقتصادي ونجاحهم الأكاديميّ ،فجليل حداد المقدسي يرفض اقتراح وداد هنداوي أن يعمل سائقا في واشنطن بسبب تعلّقه بالقدس " وتعلمين أنّه لا يربطني ببلاد الإنجليز أي رابط ،ولن يربطني شيء بأية بلاد أخرى خارج فلسطين ،لأنّ جذور قلبي ما زالت ضاربة في روابي القدس "-ص 94.
بينما تحضر الحارة مكانا ضائعا وحزينا في "حارة النّصارى"(1969) لنبيل خوري (1929- 2002) ،التي تعتبر من الأعمال النثرية الأولى التي رصدت كفاح أهل القدس في الدفاع عن مدينتهم ووثقت احتلال القدس وخسارتها بشرا وحجرا بعد هزيمة حزيران 1967 وتداعيات الهزيمة على الشعب الفلسطينيّ .كما أسّس هذا العمل المثقل بالأفكار والرسائل لصوت أنثويّ رائد في كتابات حقبة الهزيمة ، يتجسد بصوت الأمّ الصبية الأرملة سلمى راشد المسكون بالصدمة والطاغي على معظم الرواية ، حيث انكسار سلمى وتنازلها عن المدينة في اندفاع ذاتيّ وانهزام داخليّ بفعل فقدان زوجها وحبيبها يوسف الذي هو في نظرها أهمّ من كلّ حجارة القدس " كن بجانبي الآن ولتذهب القدس إلى الجحيم ..لتسقط ألف قدس، وتبقى أنت . أنت قدسي. حجارة المدينة السوداء لا تهمّني. بلاط الحارة الأملس لا يعنيني "(ص14)هذا الصوت الاستسلامي ،الذي يعكس المناخ العربي والفلسطيني والذي مسح معظم أدبيات ما بعد الهزيمة ، يعيش صيرورة مفاجئة في نهاية الرواية ،وتبدأ تباشير الأمل في تحقيق الحلم الفلسطيني تهدهد سرد سلمى وتفوح منه احتفاء بانطلاق الثورة والمقاومة الفلسطينية .سلمى تخرج من حالة اللاوعي وتتوقف عن سيل المونولوغ الطويل الذي وسم كتاب تيار الوعي أمثال جيمس جويس وفرجينيا وولف ،حين يتحقّق حلم زوجها يوسف باجتراح الثورة الفلسطينية نهجا وممارسة .لقد صبغ نبيل خوري شخصية المرأة سلمى بالانهزامية والانكسار وفقدان الوعي إحالة على الوضع الفلسطيني وتعبيرا عن هول الصدمة وتداعياتها على المرأة الفلسطينية التي دفعت ثمنا غاليا بفقدانها عقلها وتقويض ذاتها بعد خسارة زوجها ووطنها ، هذا ما حدث كما تسرد "حارة النّصارى" على لسان سلمى مع زوجة الشاعر عبدالرحيم محمود بعد مقتل زوجها في قرية الشجرة عام 1948 " عام 1952 بالضبط حين ذهبنا إلى جنين لزيارة أحد أقاربك ،وشاهدت زوجة رفيقك الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود تمشي عارية في الشارع ، مجنونة، والناس يشيرون إليها ويتهامسون : مجنونة، أطفالها جياع .عقلها ضاع .ألم تتعظ .ألم تقل لي ونحن في طريق العودة أنّ هذا هو مصير زوجة كل مناضل في هذا البلد "- ص 87 . مات يوسف راشد ، أحد أبطال حارة النّصارى فداء للقدس ،تاركا زوجته الصبية سلمى في تصدّع نفسيّ مع طفلهما الوحيد رجاء.تفتح سلمى خزانة ذكرياتها مع يوسف ، باسترجاعات تفضي فيها إلى قصة حبهما التي بدأت منذ كانت تلميذة في المدرسة ، وتقدّم شهادات بطولية عن انخراط يوسف في النضال الفلسطينيّ ، وتقيم علاقة نفسية خاصة بينها وبين المكان الأوّل المحبّب حارتها ، حارة النّصارى في القدس التي ولدت وترعرعت فيها ، مستودع ذكرياتهما، وتصور انخراط أهلها في الدفاع عن مدينتهم وتصبغ يوسف بالأسطرة رغم الهزيمة لإبراز الدور النضالي لهذه الحارة والشريحة من المقدسيين سكان حارة النصارى ولإعطاء عمق تاريخيّ لجذورهم المقدسية ، فحارة النصارى التي زينت عتبة الرواية هي دالة على هوية مكان البطل يوسف الذي عاش وناضل ومات فيها، كما شكّلت مسرحا للأحداث .وفي شخصية يوسف انشطار من شخصية الكاتب وتماهٍ بينهما من حيث شيفرة الانتماء الطائفي لبطله الفلسطينيّ ووسمه بالنضال والمقاومة بعيدا عن الانحسار المذهبيّ ، هذا التماهي بين الكاتب وبطل الرواية برز بشكل خاص في الأدب الفلسطينيّ في روايات الكاتب جبرا إبراهيم جبرا ، الذي جعل البطل في "صيادون في شارع ضيق " وفي "السفينة" وفي "البحث عن وليد مسعود" انشطارا منه ، فلسطينيا مسيحيا ويعيش في المنفى.
هذا العمل المسكون والمتشابك بالواقعيّ والتخييليّ ، وبالذاتي والموضوعيّ ، يحمل تماهيا بين يوسف راشد والكاتب ،الكاتب لم يستطع البقاء في المدينة الفيزيقية بعد الهزيمة في ظل الاحتلال والتي أصبحت مدينة أشباح ،ويوسف راشد لم يستطع البقاء والعيش في حارة النصارى الروائية والجنود الإسرائيليون يسيرون فيها " حين دخل أوّل جنديّ إسرائيليّ القدس العربية خرج يوسف وسار بجانبه جندي ،رآه رفيقه عدنان الذي حمل قنبلة وأقسم أن يقتل بها أوّل جنديّ يدخل حارة النصارى ، أومأ له يوسف أن يرمي القنبلة على الجندي وعليه، رفض بداية خوفا على يوسف ،ثم رماه فقتل الجندي ويوسف وعدنان "- ص 129، والحلّان الموت والنزوح سيّان .
لا يمكن توصيف وإدراج هذا العمل فنيا تحت جانر الرواية فهو عبارة عن سرد شاعريّ مترع بمونولوجات رومانسية عاطفية وبتكثيف أفكار يوثّق احتلال القدس وإسقاطات الهزيمة على سكان حارة النصارى ،وإن كانت الرواية الفلسطينية في تلك الفترة قدّمت أعمالا ناضجة فنيا وموضوعيا تمثّلت بأعمال من أهمّها كتابات غسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا وإميل حبيبي .
إنّ لغة نبيل خوري شاعرية بامتياز وفجائية مكثّفة بالصور المائية الترميزية من دموع ومطر مرايا عاكسة للهزيمة ، ومتّشحة باللونين الأسود والأبيض شيفرتي الحزن ورايات الاستسلام .
كما ذيّل نبيل خوري عمله التوثيقي بخمس رسائل من القدس ورسالة أخيرة متماهيا مع الرقم 5 الذي حمل تاريخ الهزيمة وضياع القدس، والرسائل تحمل وجع ضياع الوطن ،الرسالة الثانية هي الأهمّ من ابن إلى أمّه بشكل باروديا تحمل تحريف الصلاة المسيحية احتجاجا ورفضا للواقع المنكوب "..المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السّلام، وفي الناس المسرّة .لم يبق من الآية ،إلا المجد لله ،أما السلام على الأرض ،والمسرة بين الناس فقد ضاعت ،سرقها من لا يحب السلام ،ولا يريد للناس المسرة"-138
حارة النصارى التخييلية هي مرايا وتجسيد لنظرية غاستون باشلار، التي ترى أنّ المكان ليس أبعادا هندسية فحسب، إنّما روابط عاطفية من علاقة حميمة وذكريات وأحلام يقظة للإنسان الذي يعيشه فكم بالحري حين يخسره كما خسر نبيل خوري وبطله يوسف حارة النّصارى والقدس أجمل المدن في رسمهما التخييليّ.
إضافة تعقيب