من سلسلة الأمثال العربية التي يضربها الناس بينهم ويستعملونها في الحالات المطابقة لهذه الأمثال، أمثال كثيرة كانت في أصلها شعرًا، ظهرت في قصيدة هذا الشاعر أو ذاك من الذين اشتهروا بين الناس أمثال: المتنبى وبشار بن برد والإمام الشافعي وغيرهم كثيرون، مثال ذلك قول المتنبي:
فإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ فهي الشهادة لي بأني كامل
وقوله:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
وقوله:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكْته وان انت أكرمت اللئيم تمرّدا
وقول الإمام الشافعي في حسن المفارقة:
وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى وفارق ولكن بالتي هي أحسن
وقول بشار في كثرة العتاب:
إذا كنت في كل الأمور معاتبًا صديقك لم تلق الذي لا تُعاتبه
أدناه، أورد للقارئ بيتًا من الشعر صار مثلاً وهو:
وان يك صدرُ هذا اليوم ولّى فإن غدًا لناظرِه قَريبُ
وهذا المثل الاخير يضرب في وصف حالات يمرّ بها الواحد منا عندما يتوقّع حدوث الأحسن في حياته ويبقى منتظرًا ومتأمّلاً في حدوثه وينظر دائمًا بتفاؤل نحو الغد القريب الذي يغيّر حاله إلى الأحسن وقد ذهب "عجز" هذا البيت أي القسم الثاني من بيت الشعر أعلاه مثلاً يدور على ألسنة أناس يمرّون في ظروف كما ذكرت أعلاه.
وقصة هذا المثل تتصل بالنعمان ابن المنذر ملك الحيرة فقد انتهج النعمان في حياته اتباع أسلوب من التعامل مع الناس تكون فيه أيامه موزعة بين أيام "سعد" وأيام "نحس" وكان يتبع كل يوم "سعد" يمر عليه "بيوم نحس" في غداة اليوم الثاني... وان تنبني علاقته في تعامله مع الناس على هذا الأساس. فإذا ما أتاه شخص يطلب مساعدته وكان ذلك في "يوم السعد" فقد كان يسعده ويغدق له العطاء، وإذا ما صادف وأتى إليه شخص يطلب مساعدته في "يوم النحس" فهو محكوم عليه بالموت والإعدام بقطع رأسه...
وقد صادف في أحد أيام النحس ان حضر إليه شخص مادًا يد العون. وعندها أمر النعمان بقطع رأسه. ولما سمع البدوي ذلك، طلب واستجدى النعمان أن يمهله في تنفيذ الحكم ويعطيه فترة يستطيع بها البدوي الرجوع إلى أهله وتدبر شؤون عائلته، ثم يعود إلى النعمان ويسلّم نفسه له من أجل تنفيذ الحكم... فكر النعمان قليلاً، ونظر إلى وجه الرجل فبدا الصدق على وجهه وانه جاد في أقواله، وعندها قال النعمان للحاضرين في مجلسه: من منكم يكفل هذا الشخص؟ ومن منكم يضمن رجوعه؟ وكان في قصر النعمان أناس كثيرون. إلا أن واحدًا منهم كان يسمع كلام البدوي ويرى فيه الصدق، عندها استنهضته الحميّة وقال: أنا أكفله! وسأكون مستعدًا لتنفيذ حكم الإعدام بديلاً له في حالة عدم حضوره في الموعد الذي يحدده الملك... عندها قبل الملك بهذا الكفيل وأعطى للبدوي مهلة سنة يعود فيها إلى أهله ويرتب أمور عائلته. وهكذا أفرج عن البدوي وأخليَ سبيلهُ... وبعد مرور سنة إلا يومًا، دعا الملك النعمان الكفيل وطلب إليه أن يُحَضِّر نفسَه في الغداة لتنفيذ حكم الإعدام فيه، عندها قال الكفيل هذا البيت من الشعر الذي ذهب فيما بعد مثلاً والذي يقول:
فإن يِكُ صدرُ هذا اليوم ولّى فإنّ غدًا لناظِرِه قريبُ
وفي اليوم الموعود، وبعد أن جرت الاستعدادات لتنفيذ الحكم بالكفيل، رأى الناس من بعيد رجلاً يركب حصانًا يجري سريعًا ومثيرًا لغبار كثيف بسبب سرعته... وعندما وصل الشخص راكبًا حصانه الذي أجهده الكدّ والتعب، تحقق جميع الحضور ان هذا الشخص هو هو نفسه البدويّ الذي وعد ان يعود قبل فوات المدّة التي اُعْطِيَتْ له، وعندها نزل عن حصانه وتقدّم نحو النعمان قائلاً له: "ها أنا قد حضرت ووفيْتُ بوعدي، فافعل ما بدا لك!" عندها اهتزّت مشاعر وعواطف النعمان وتيقّن ان العادة التي اتبعها كانت مبالغًا فيها، وقرّر في تلك اللحظة إلغاء هذا النهج، وعفا على الفور عن البدوي وأكبر في الكفيل شهامته وأمر للاثنين بمبلغ كبير من المال.
لقد درج على ألسنة الناس "عجز" هذا البيت "ان غدًا لناظره قريب" وصار مثلاً كما قلت آنفًا، يضرب في الحالات التي يعد فيها الإنسان نفسه بشيء ويبقى متفائلاً حتى اللحظة الأخيرة مرددًا ذلك ومؤملاً بالغد الذي سيأتي له به.
إضافة تعقيب