لم اكن اريد ان اكتب ردا على نقد الكاتب والناقد، د. محمد هيبي المحترم. فانا اعتقد ان من حقه كناقد ولغيره من النقاد، لا بل من واجبهم قراءة كل جديد يصدر على الساحة الادبية والثقافية في الوطن الفلسطيني عامة والفلسطيني الداخلي بشكل خاص، لما لهذا المكان من خاصية مميزة، ليقيِّموا كل عمل وعمل، ويعطوا ملاحظات تساهم في رفع مستوى هذا الادب. فنحن نعيش ظروفا غير عادية كاقلية قومية بقيت في الوطن بعد طرد أغلبية الشعب إلى خارج حدوده ليعيشوا في مخيمات التهجير والتشريد والشتات والعذاب، ولنبقى نحن نعاني ونصارع من اجل البقاء ومن أجل اعادة بناء مجتمع هٌدِّمت أساساته بتهجير معظم الطبقة المتعلمة. من هنا، علينا بأيي ان ننتج أدبا يسهم في رفع شأن شعبنا ومجتمعنا. نحن لسنا فقط جزءا من شعبنا الفلسطيني في الوطن الكبير والشتات، انما نحن جزء من أُمة عربية كبيرة تعاني من حالة تدهور وتمزق ربما لا سابق لها.. وبهذا الشأن ايضا أدبنا مطالب بان يأخذ دوره ويعمل لنصرة قضاياه جميعها.
من هذا المنطلق أنا أُحيي د. هيبي على مبادرته الى قراءة كتابي الذي صدر قبل بضعة اشهر عن "دار الوسط للطباعة والنشر" من اجل الوصول إلى أدب حقيقي وبمستوى عال. أقول إن الذي دفعني الى الكتابة هو الرغبة بتوضيح بعض النقاط التي قد تكون قد غابت عن أعين الناقد أو التي شعرْت بأن الناقد لربما لم يصادفه التوفيق فيها. لكني أؤكد انني لن اتدخل في تفسير أو تحليل النصوص، فلم يعد لي حق بذلك بعد أن صدرت. وقبل ان أتطرق للنقد الذي خرج به الصديق هيبي أود أن أذكر أيضا انني حاولت بهذا الكتاب ما استطعت ان أعبر عما كنت أشعر به في الظروف التي مررتُ بها أنا وشعبي ووطني وأمتي. وأنا طبعا لا أعتقد انني كنت الافضل في التعبير عن قضايانا الوطنية والاجتماعية، فكثيرون هم من كتبوا في هذه المجالات، ولا أدعي انني كتبت الافضل من ناحية لغة، مبنى النصوص، الموسيقى الشعرية التي هي ضرورة، وكذلك المفردات التي يجب ان تأتي منسابة ومتآلفة بعيدة عن التنافر، كما قال د. هيبي. وقد يكون الناقد قد وجد ان نصوصي ضعيفة من هذه النواحي بحسب رأيه. لا أريد أن أدخل في جدل معه حول هذه الملاحظات، فهذا ليس من اختصاصي، وسأترك هذا للقراء وللنقاد. ولكنني وبتواضع شديد أقول بأنني اردت ان أوصل رسالة عبر نصوصي تلك و أن أُطلق صرخة مدوية لتصل مسامع كل الدنيا وأن أبعث صورة عن آلامنا القاسية، نتيجة ما يجري على الساحة الفلسطينية وعلى الساحة العربية من أحداث.
قد أكون وفقت في أماكن وربما لم أوفق في أُخرى. قد اكون نجحت أحيانا في ايصال هذه الكلمة وهذه الصرخة في قوالب ادبية لائقة وربما لم أنجح.. انا لا أدّعي المعرفة الكاملة، فهذه لا يملكها أحد. لقد أشار د. هيبي إلى كثرة في الانتاج الادبي الذي ينشر عبر دور النشر والصحف. وقال إن بعض ما ينشر ليس بالمستوى المطلوب، وقد يكون فيه إسراع وتسرع من قبل الذين يكتبون. ولربما لو تأنوا لكان أفضل لهم وللأدب. الناقد هيبي محق في هذا بكل تأكيد، وكثيرون هم من استعجلوا، ولربما الناقد نفسه فعل ذلك في بعض نصوصه.
د. هيبي كتب واستعرض كتابي ونصوصه. كتب عن الكاتب وما يعرف عنه واعطاه الكثير وانصفه في مواضع كثيره، ربما اكثر مما استحق، وقسا عليه في مواضع اخرى كما قال هو بنفسه.. لقد ذكر ان الكاتب لربما قد استعجل النشر كما جاء في عنوان مقاله النقدي. لا اعرف ان كنت قد استعجلت، فالنصوص مكتوبة بمعظمها منذ سنوات عديدة. وقد نشرت هذه النصوص كلها بجريدة "الاتحاد" الحيفاوية والتي تُقرأ من قبل العديد من الأدباء والمثقفين الفلسطينيين على الساحة المحلية. ومن هذه الصحيفة تخرج كثير من الشعراء الفلسطينيين مثل، محمود درويش وسميح القاسم وراشد حسين وتوفيق زياد وغيرهم.. كما ان معظم النصوص عُرضت على بعض الأصدقاء الادباء، وحظي كثير منها برضى هؤلاء الاصدقاء الادباء..
اخذ الناقد على النصوص انها في قسم منها كانت بسيطة وسهلة اللغة، وانها في بعض الاحيان كانت اقرب الى العامية منها الى الفصحى، واجبرت الكاتب على استعمال كلمات تؤدي القافية من اجل أن تعطي موسيقى بواسطة السجع لكنها لا تؤدي المعنى. وقد اشار الى عدة نصوص، ذاكرا انها جاءت على هذا الحال، مثل ماذا لو قابلتها (ص٦٣)، وقصيدة "نحو السماء" (ص٩٣)، وقصيدة "مشتاق انا" (ص١٠١).
وانا اسأل: الم تُستعمل العامية من قبل ادباء كبار في العالم العربي امثال احمد فؤاد نجم، عبد الرحمن الابنودي، عمر الفرا، صلاح جاهين وبيرم التونسي وغيرهم؟ أولم تعتبر العامية لغة بحد ذاتها لها مكانتها الخاصة؟ العامية في مواقع معينة تؤدي الدور بشكل جميل فهي اقرب لواقع مجتمعاتنا، ونحن بالنهاية نريد ان نوصل للقارئ ما بداخلنا من رسائل. ولو دخلنا الى تلك النصوص المشار اليها، لا أدري ان كانت فعلا قريبة الى العامية.. ربما كانت بعض الكلمات او الاستعمالات العامية. لكن لا اريد ان اتدخل كثيرا في هذا الامر وساترك هذا لغيري ان يقرر. فانا، منذ ان طبعت هذه النصوص خرجت من دائرة سلطتي، كما قلت.
يبدأ الناقد بالاشاره لموضوع الايدولوجيا. بمعنى اني ناصري الفكر والهوى والايدولوجيا.. وهو يقول اني وغيري من ابناء جيلنا تاثرنا الى حد كبير بفكر ناصر، الذي أجج المنطقة بحسب قول الدكتور هيبي. هذا صحيح. انا شخصيا لا انكر ناصريّتي ولا تأثري بهذا القائد العربي العملاق، وفخر لي اني عشت زمن ناصر الجميل. وانا اعلنها صراحة وعلى الملأ إنني اتمنى ان يسود الفكر الناصري في كل مكان من هذا العالم، لما يحمل من رغبة بالاصلاح والعدالة الاجتماعية والانسانية. وقد شكا الناقد في هذا النص وغيره من "بكاء زائد" بحسب رأيه. ربما ورَد بكاء في هذا النص، لكنه بكاء ناتج عن حالة انفعالية من تواجد الكاتب على الضريح واستشعاره لمكانة عبد الناصر في فترة معينة من تاريخ الامة العربية، عاصرها الكاتب، حيث كان في هذه الفترة احساس عال بالكرامة والعزة والصمود امام كل الاعتداءات على فلسطين والامة العربية. وقد مثل عبد الناصر املا في انتعاش مصر وتطورها، بناء على برامجه الناجحة والتي رفعت من مستوى الشعب وقلصت الامية وفتحت الآفاق في شتى الميادين. وكان في زمنه أمل لحل لقضية فلسطين وفي الوحدة العربية والارتقاء الى مكانة متقدمة بين شعوب العالم، على ضوء المكانة العالمية التي حظي بها جمال عبد الناصر من قبل شعوب كثيرة. انا اعتبر نفسي محظوظا وفخورا ان عشت تلك الفترة.
بكاء الشاعر في هذا النص عقب المشاعر الخاصة لتلك الحالة لا تعني ان الكاتب ضعف كما اشار الناقد، بل هي لحظة حزن ووقوفا مع الذات امام هول المصائب التي تحل بنا. لكنه، ينهض مسرعا وينفض عنه وهن تلك الحالة ليعبر منها الى حالات نضالية كما في نص "الخروج من التابوت"، و "لن ارحل"على سبيل المثال والتي تؤكد على صمود الشعب الفلسطيني وتمسكه بارضه ووطنه مهما حصل.
يقول الناقد ان الشعر ما هو الا عاطفة تخاطب عاطفة تطمح للتآلف معها بلمح ولغة كثيفة وموسيقى. وهذه العناصر هي الاكثر اثارة واستفزازا للذائقة الجمالية عند الشاعر ويقول الناقد: إن اهتزاز الأصوات في الشعر هو صدى لاهتزاز القلوب، مقتبسا ذلك عن "عبد القادر الجرجاني". ويقول د. هيببي ان هذا الاهتزاز لا نجده يسعف اسيد في اتكائه البارز على القافية، لانها غالبا ما تجيء على حساب المعنى. ويظهر ذلك بشكل واضح حين تخونه اللغة وترغمه على استعمال مفردات قد تتآلف مع القافية لكنها لا تتآلف مع المعنى او السياق او الدلالة التي يبحث عنها القارئ، ضاربا على هذا مثال ما جاء في نص "اين الطريق". حيث ورد، "وتحتجب الشمس في النهار / فيخرج من ينادي بالافصاح / بعد تكتم وخشية البواح / ويسير العبد بلا أغلال / يدعو الناس الى الفلاح /.../ تدلت عناقيد العنب / ووصل التفاح اقاصي البطاح / وهناك في الوادي / هبت ريح صرصر / فدخلوا الكهف للراح (٢٠-٢١). وهنا يعترض الأستاذ هيبي على القافية، ويقول بانها ليست اكثر من سجع يمنح النص بعض الموسيقى. اذا، يوجد موسيقى بالنصوص، حتى لو كانت "بعض"، وهذا ينفي قوله ان النصوص خالية من الموسيقى. ويقول ان القافية فرضت نفسها عليه بشكل واضح بعبارة "ودخلوا الكهف للراح " ويكمل الاستاذ: "والراح بمفهومها الاكثر قربا وتداولا هي الخمر والمعنى الذي يريده الشاعر هو الراحة لا الخمر". وأود ان اقول في هذه الاشارة بان الناقد لم يوفق. بداية، هو اعتقد ان الراح لا يمكن ان تكون بمعنى الراحة، لكن بعد مراجعة معه والقول بان لسان العرب يقول إن الراح تعني الراحة ايضا، عندها تم تعديل العبارة.. بكل الاحوال، وحتى لو كان المعنى الوحيد هو الخمر، فأين الخطأ بذلك الاستعمال؟ لماذا هذا الاستعمال يلقى كل هذا الانتقاص من النص؟.. فقد يكون الكاتب قصد فعلا الخمر. بمعنى ان الذين دخلوا الكهف أخذوا يشربون الخمر في الكهف، اي أنه كان ارتداد عن الايمان. ويضيف الناقد "قد نجد في هذا الاتكاء ليس اكثر من سجع يضفي بعض الموسيقى ولكنه يظل بعيدا عن كونه قافية تلائم قصيدة". اليس هذا تناقضا مع جملة سابقة بالقول بان الشاعر اتكأ على القافية. ويقول الناقد ايضا: "ان الشاعر يضطر الى الحشو لاستكمال السجع وليس بلوغ الدلالة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، (ربما لا الحصر خط رجعة للناقد- الكاتب) في قصيدة "اين الطريق".
اعترض الناقد هنا على كثرة الايات القرنية وايات الانجيل، وسأل ما الداعي لكثرتها. وهنا ايضا لن اتدخل في محاولة التوضيح وسأتركها لتقدير القارئ الذي قد يجد جوابا لهذا التساؤل.
امر اخر اريد ان اتطرق اليه بخصوص هذا النص هو سؤال الناقد عن الدافع الذي دفع بالكاتب لكتابته. وهو يتساءل ان كان السبب هو القول بان الكاتب قد حج الى مكة او سعيد بانتمائه الى الرسالة المحمدية! ام تمهيد ليخبرنا اننا اضعنا الطريق. لا اريد ان اتوسع كثيرا بالرد. فقط اقول ان سيد قطب كان قد كتب كتابا بعنوان "معالم في الطريق". ولربما الطريق التي اشار اليها سيد قطب اضحت طريقا شائكة.
ساذهب الى نقطة اخرى وجدتني مختلفا بها مع الاستاذ محمد هيبي وهي في قصيدة "مدي ذراعك يا جفرا". لا اريد ان اعلق على استنتاج الأستاذ من ضعف يشير اليه ولا عن البكاء الذي اكثر من الاشارة اليه، مع ان البكاء هو أمر ليس بسيء، فالبكاء مفتاح للفرج، والنقطة هي بجزء من النص (ص ١٧) يقول: ضعي يدك على صدري /وضعي يدي على صدرك". هنا، يثور الناقد ثورة عارمة على استعمال ضعي يدي على صدرك. فيقول "فهي بجانب انها تبرز ضعفه وعدم قدرته على المبادرة والفعل، تبرز ايضا جوعه الجنسي. فهل هذا هو الهدف الحقيقي القابع في لا =وعي الشاعر، من التقرب الى جفرا، لإطفاء الرغبة الجنسية؟".. وانا اسأل وأتساءل كيف وصل الناقد الى مثل هذا الإستنتاج؟! اليس من الممكن ان يكون الناقد قد اخطأ في استعمال هذا التعبير؟ الصدر ليس هو النهد فالصدر بالنص ربما لا يعني المعنى الذى فكر به الناقد.. الصدر هو بيت القلب، دينمو الجسم وكذلك الرئتين ادوات التنفس، والذي بدونهما تتوقف الحياة. والصدر ايضا موطن للأحاسيس. انا فقط اردت الاشارة الى ان الناقد، ربما لا يصيب احيانا.
يقول الناقد: "ليس لدى اسيد مشكلة في المضامين بل في شكل طرحها وبلوغها". الأستاذ يرى المشكلة في الشكل، فالشكل الذي قدمت به القصائد يوجد مأخذ عليه، ويضيف: "الشكل الذي قدم به اسيد قصائده لنا عليه مآخذ" ويقول ان الشاعر "استعان بالتناص والرموز والاسطورة " ويضيف بان النصوص والمضامين اعتمدت على هذه الادوات، وسواء نجح الكاتب بتوظيفها ام اخفق.
لن ادخل في جدال هنا ايضا مع الناقد في مدى نجاح هذه الادوات في اخراج المضامين بالشكل اللائق. سأدع هذا الامر للقارئ الذي هو بالنهاية المقصود ان تصله النصوص ليقراها ويتمتع بها ام لا ويقيّمها بما تستحق ويحكم عليها، وكذلك لكل ناقد يريد ان يقرأ هذه النصوص.
اشكر مرة اخرى الدكتور محمد هيبي على المجهود الذي بذله في القراءة وفي الكتابة التي اخذت منه جهدا يشكر عليه. طبعا هناك امور اتفقت بها مع الدكتور وهناك امور اختلفت معه بها، وتبقى القراءات تختلف. لكن، الاختلاف بالرأي لا يفسد للود قضية.
إضافة تعقيب