news-details

قبر أمّي المجهول..| يوسف جمال

 

 كنتَ في حضن أمك عندما تسللت الى بيتكم سارقاً. اغتنمت فرصة وجود أبيك مع الثوار. وقفزت من فوق الجدار الذي يحيط في البيت. ولسوء حظّي لم أجد من حظيرة المواشي ما أسرقه، لقد بات بها الراعي خارج البيت.

صعب عليَّ أن أعود الى بلدي بلا غنيمة. فدفعت باب البيت، ووجدت أمك تجلس في صدره وأنت في حضنها..

جالت عيني متفحصة محتويات البيت، فصادت براميل مصفوفة، تقدَّمت منها ونظرت في داخلها، فوجدتها تحتوي على اصناف عديدة من الحبوب: القمح والعدس والفول والسمسم..

كان بجانبها أكياس فارغة صغيرة الحجم وأخرى كبيرة..

فصرت أملأ من هذه الأصناف بالأكياس الصغيرة، وأضعها بكيس كبير حتى امتلأ بها..

ولما أردت أن أرفعه لأحمله على ظهري عجزت يدايَّ عن حمله.

إذا بأمك تنزلك من حضنها وتضعك على المصطبة وهي تقول: اقعد يا ولدي هنا لأحمِّل خالك..

فصحت "مذبوحاً": والله وأنا خاله! وأنتِ أمام الله وخالقه أختي..

فعدت الى الأكياس وأفرغتها في مكانها في البراميل.

وخرجت من البيت هارباَ ولم أعد إليه إلا في العيد معايداً.

أليس من الواجب أن يُعايِّد الأخ أخته!؟

كان أبو السعيد يحكي قصته مع أمي، وأنا أنظر الى وجهه كالمشدوه.. كنت متجمِّداً تتعالى في داخلي أمواج من الغضب والنقمة أحياناً، وأحيانا تخبو وتتسلَّل مكانه أمواج هادئة من الحبِّ والتقدير.

بدأ قصته مع أمي لصّاً وانتهت به ليكون ملاكاً.

***

 رفضت أمّك أن تغادر بيتها مشرّدة.. وبقيت وحيدة في الكفرين، حتى جاء "أخوها" وأقنعها بعد جهد جهيد أن تترك البلد.. اقتنعت أن ترحل من البلد من أجلي أنا - ابنها. لم يجد أبو السعيد سوى هذه الطريقة لإقناعها.

فلاحقتها رصاصات من طردوها من بيتها، وقتلتها في الطريق المارة بجانب المقبرة ودفنت فيها.

جنازتها كانت عبارة عن رجل واحد. كان هو المشيِّع والدافن، فطردته رصاصاتهم قبل أن يودِّعها الوداع الأخير.

زرت مقبرة الكفرين مرات كثيرة، وبحثت عن قبرها فيها فلم أجده.

"إنه بجانب الخروبة المحاذية للطريق". هكذا أخبرني خالي قبل أن يلتحق بالرفيق الأعلى.

 هذه المعلومة سمعها من أبي السعيد الرجل الذي دفنها بيديه. سلّم أبو السعيد الخبر لخالي وغادر البلد، وقطع الحدود الى بلاد الشتات..

ولكني لم أجد الخروبة، ولم أجد القبر..

 قُطعت الخروبة وهُدمت القبور واختلطت حجارتها. لتتحد في قبر واحد. امَّحت بينها الحواجز والحدود.

***

قبل يومين عاد أبو السعيد الى بلدنا.. بعد غياب دام عدة عقود. جاء خصيصاً ليصطحبني الى مكان قبر أمي.. فهو الوحيد الذي يعرف مكانه.

أمك ماتت بين يديّ.. حاولت إنقاذها فلم أستطع..

وعاد أبو السعيد ليكمل حكايته مع أمي:

 حاولت براحتي أن إغلاق ينابيع الدم، التي كانت تتصبَّب من شرايينها. حاولت أن أعيد لها أنفاسها التي بدأت تخبو، أن استرجع الدّقات الى قلبها التي سكتت.. حاولـت أن أعيدها الى الحياة فلم أستطع.

كان أبو السعيد يحكي ويبكي..

لم أكن وحدي مع أمك حين اغتالها الموت، كنت أنت تتلفَّع في حضنها..

أصابها الرصاص وأخطأك وأخطأني..

تمنيّت في مرات كثيرة أني كنت قد متُّ معها!

خنقه شهيق البكاء..

***

كنت في الثانية من عمري..

حين أوصلني أبو السعيد الى عرعرة وسلّمني لخالي وغاب.

 وعاد الآن ليكمل ما بدأه في إكمال بناء قبر أمي.

 أليس للأخت حق على أخيها؟.. سألني وهو يحاول اختراق عينيَّ ليصل الى مشاعري..

عشت هذه العقود وأنا لا أدري أين قبر أمي، عشتها وأنا لا أجد لي قبراً يحتضني وأبكي له.

وها هو يعود بعد كلّ هذه السنين ليوصلني الى قبرها.

***

وعاد أبو السعيد الى أحداث حكايته مع أمي..

كان يحكي مقاوماً الدموع التي تحاول أن تتناثر من عينيه..

 وضعتك جانباً وأنت تصرخ على حافة الطريق، حملت أمك الميِّتة ووضعتها تحت الخروبة.

 عدت إليَّك وحملتك بحضني، وانطلقت بك الى البلد.. الى الكفرين.. وهناك دخلت الى أحد البيوت التي طردهم الجيش منه، وتناولت فأساً وطورية، وحملتها معي عائداً الى أمك. كنت أحفر والطَّخ يمرُّ من فوق رأسي أو يتساقط حولي..

هكذا قصّ لي أبو السعيد قصة استشهاد أمي..

خرجت أمك بدون جنازة.. أتموت أختي يا محمود بدون قبر أيضاً!؟ ولما انتهيت من حفر القبر، حملتها ووضعتها فيه. فالشهيد يدفن كما هو بلا حمّام. بدأت أصفُّ الحجارة حول القبر.. وضعت الشاهدين في مكانهما، وإذا برصاصة تلتطم بترابه وتمرّ بجانبي. فعرفت أنهم يقصدونني، فانتبهت الى بكائك فخفت عليك وقفزت الى ذاكرتي كلمات أمك وهي تنزف:

خطيّة محمود في رقبتك.. دير بالك عليه!

 هذه هي الكلمات الأخيرة التي نطقتها أمّك، قبل أن تسلِّم روحها الى الروحة لتنقلها الى باريها.

 فتركت الطّورية والفأس وحملتك في أحضاني، ووليّت هارباً مستعيناً بالصخور التي على جانبي الطريق. قطعت العديد من قرى الروحة جبالها ووديانها حتى وصلت وادي عارة.. وسلمتك لأخوالك.

وغادرت البلاد وقطعت الحدود، وتشتتّ في بلاد الشتات كلّ هذه السنين.

ودفن أبوك بلا حمّام، ولكن جنازته كانت مهيبة، كانت كالسيّل الجارف. حضرها أهل البلد والبلاد المجاورة..

وغنّت أمك للشهيد:

 يا بطل يا أبو عقال وبارودي

يا طويل القامة يا مفتول الزنود

يا صاحب الظهر والأكتاف المسنود

والله ما خفت لا من عسكر ولا جنود

ويوم استشهادك من الأيام المشهوده

أنا وأهل البلد سنحافظ على العهود

بعد انتهاء أبو السعيد من سرد حكايته مع أمي، غاص في صمت عميق، ووضع يده على عينيه محاولآً إخفاء الدموع التي تمرّدت وأغرقت بيّاض لحيته.

بعد سكوت دام لحظات طويلة، قام من مكانه وطلب مني أن أناوله حجارة كانت متناثرة على القبور وحولها.

ولما قلت أن بعض الحجارة التي تناولها مني كانت جزءاَ من قبور أخرى.. أجاب كلّ القبور هنا هي عبارة عن قبر واحد!

بعد أن انتهينا من وضع الحجارة حول تراب القبر، وقف أبو السعيد وبدأ يتمتم. من المؤكّد أنه كان يقرأ لها الآيات القرآنيه ويدعو لها الأدعية.

ولما انتهى توجه إليَّ وقال: ألا تريد أن ترافقني الى البلد؟

لا.. لا.. أريد أن أبقى مع أمي لأتوحّد معها. أجبته بصوت مخنوق.

فغادر المقبرة ولم أره بعد ذلك.

ولما ابتعد وتوارى عن ناظري، لملمت الحجارة التي وضعها أبو السعيد حول قبر أمي، وأرجعتها الى أمكنتها..

أزلت الحواجز والحدود بينه وبين القبور الأخرى.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب