يحاول دائماً ان يبعد عنه شبح تلك اللحظة، لحظة دعاه رنين هاتف بيته ليردَّ على مكالمة غيَّرت كل مسار حياته، قلبت كل الأشياء، قتلت الماضي وشوَّهت الحاضر، وشتَّت المستقبل.
مكالمة هاتفية واحدة، حوَّلت حياته الى شيء بلا شكل وبلا زوايا. شعر أنه وقع في حوّام، يشدُّ به الى غياهب الغرق، ولا يجد " ممسكا" يتشبَّث به كي يتخلَّص من براثنه، ليتحسَّس بداية طريق وعرة، أجبر على السير بها، دون أن يهيئ نفسه ليخوض غمارها.
وقطعت المكالمة ولم يسمعها مرَّة أخرى. تركته مع ثلاثة أطفال، الكبير في الرابعة وتوأمين في الثانية من عمرهما.
وغزا خياله شريط من الماضي البعيد، لعلَّه يخفِّف عنه احتجازه بين جدران هذا السجن المظلم..
لم تكن حياته "مفروشة بالورود"، بدأها ابن لفلاح شقَّ الأرض فشقَّقت أنامله وقسمات وجهه، وصنع من ترابها لقيْمات "بلَّت" ريق عشرة أفواه كانوا ينتظرونه على مسطبته.
"أنت مش مثل اخوتك يا سعيد.. إنتَ بدَّك تتعلم!"
كانت هذه الكلمات التي كان يسمعها من والده في كل مناسبه، ولا يدري ما سبب تخصيصها له من بين أخوته.
أبوه هو الذي زرع فيه التصميم على مواصلة تعليمه حتى تخرَّج طبيباً، وعاد الى الوطن يحمل معه شهادته، وفتاه هنغارية أحبها وتزوجها وعاشا أربع سنوات مع أولادهم حياة طبيعية. هي كانت تشتغل كممرضة في مستشفى الخضيرة، وهو كان يعمل طبيباً في مستشفى العفولة. ولم يلاحظ يوماً أيَّة إشارة تشير الى أنها ستغادر بلا عودة، لم يتخيَّل يوماً أنها ستترك ثلاثة في عمر الندى.
توجهت الى عملها في ذلك اليوم، ولم تعد وتركته ينوء تحت هذا الحمل الثقيل.. الثقيل.!
كان لا بدَّ له من السير في الطريق بعد ان خذله الرفيق. يحمل على أكتافه كلَّ الحمل- متطلبات العمل بما تحمله من ساعاتها ووردياتها التي لا تنتهي، وأطفال يحتاجون الى بيت يوفر لهما أسباب الحياة من رعاية واهتمام.
كان الأمر يبدو مستحيلاً في البداية، ولكنه "طوُّع" المستحيل وأخضعه لظروف حياته الغير عاديه.
حتى جاء ذلك اليوم المشؤوم.. الذي استغل فيه فرصة نادرة "سرقها" من مكان عمله، ليأخذ ولديه الى حديقة مدينة العفولة العامة، التي لا تبعد كثيراً عن المستشفى. وعندما وصلوا الى الحديقة، ركض التوأمان وهم يطلقان صيحات الفرح الى المراجيح الثلاثة، على واحدة منها كان يركب طفل يهودي، بينما أمّه كانت تجلس على المقعد المقابل تقرأ كتاباً في يدها، أما هو وابنه الكبير فقد جلسا على مقعد آخر في الجهة المقابلة لمقعدها.
رفعت الأم عينيها باتجاه الأصوات التي سمعتها، فرأت ابنها مستمراً باللعب، دون ان يعير الطفلين اللذين يلعبان بجانبه أية اهتمام، فقامت من مكانها واقتربت من ابنها وأوقفت المرجيحة، دون ان تبالي باحتجاجاته، وأمسكت بيده وبدأت تشدُّه الى الأسفل، محاولة إنزاله بالقوة عن المرجيحة.
- إنزل.. إنزل حالا!.. أمرته ووجهها مكسو بعلامات الغضب والقرف.
فصاح ابنها باستغراب شديد:
-لا أريد.. لا أريد ان أنزل. لماذا تتصرفين هكذا!؟
- ألم تنتبه أنهم عرب!؟ أطلقت وشوشات حاقدة من بين أسنانها.
- إنهم أطفال صغار لن يؤذونني يا أمي.. قال الطفل مستعطفا أمه.
قام ابنه البكر من جانبه ومشى الى أن اقترب من شقيقيه.
أما هو فكان يراقب الموقف من بعيد، ويحاول أن يقرأ ردود فعل أولاده، الذين بدأت على وجوههم آثار الخوف مخلوطة بالاستغراب والدهشة.
وعندما يئست من طفلها تحوّلت الى أبنائه، وبدأت توجِّه لهما كلاماً تصحبه إشارات موجهة إليهم، فأسرع الى هناك وعندما وصل سألها:
فأجابها بحدّة متحديا:
-لأنهم عرب!؟ أنتِ لا تريدين له أن يقترب من العرب.
- أنا لم أقلْ هذا..
فقاطعها:
إن أولادي لم يلعبا معه، والمتضايق ولا يعجبه الموقف فليغادر.!
- ولكن هذه الحديقة لنا، وليست للغرباء!.. صرخت متحدِّية.
- نحن لسنا غرباء، فالغريب هو الذي لا يستطيع أن يتعايش مع أهل البلاد التي يلجأ إليها.
ردّ عليها بتحدٍ أقوى..
**
انسحبت من المعركة وانتحت جانباً، ولاحظ أنها أخرجت هاتفها المحمول، وبدأت تتكلّم فيه. وأما هو فرجع الى مكانه، وجلس وعاد الى جريدته، واستمر طفلاه باللعب بالمراجيح.
وإذا بصرخة مدوّية تخترق أسماعه، أسرع بصورة تلقائية نحو أولاده، فوجدهم يصرخون باكين بأعلى أصواتهم، وأمامهم الطفل اليهودي ملقى على الأرض.
وعندما اقترب منه رأى منظراً مروعاً، كان الدم يسيل بغزارة من رأسه، أسرع بقدر ما يستطيع باتجاه سيارته، وأم الطفل وأولاده يتبعانه، أخرج حقيبة الإسعاف من السيارة، وعاد وبدأ يعالج الجرح محاولاً إيقاف نزيف الدم، ولما وجد ان الجرح كبير وعميق، قرَّر ان يوصله الى المستشفى القريب الذي يعمل فيه.
- ضعيه في حضنك، وتعالي الى السيارة. قال بلهجة آمرة.
- لماذا!؟ سألت أمّه بخوف شديد.
- لا بدَّ من أخذه الى المستشفى، إن إصابته تحتاج الى ذلك. قال بحزم.
وبينما كان يهم بفتح باب السيارة، لتتمكن من الدخول هي وطفلها، وإذا بصوت يطرق أسماعه من الخلف:
صرخ به شرطيٌ آخر مهدِّدأً.
تعالت أصوات أفراد الشرطة متوعدة.
صرخ به كبيرهم وهو يرفع هراوته فوق رأسه.
توجه الى ابنه الكبير وهمس في اذنه: "لا تخف سأرجع حالاً، أطلب منهم ان يأخذونكم عند جدتكم".
في الطريق، قيَّدوا يديه، وعندما أراد أن ينطق، وجه أحد أفراد الشرطه سلاحه باتجاهه.
ولما وصلوا مركزالشرطة رموه فيما يشبه الغرفة، لا يستطيع إلا الجلوس فيها تاركاً نفسه فريسة لسيل من الأفكار والتساؤلات الرهيبة:
ماذا يريدون مني!؟، ماذا فعلت!؟..
قطعاً هذا خطأ سيكتشفونه في أقرب فرصة، وسيطلقون سراحي، ومن المؤكد أنهم سيعتذرون لي.
ولكنه سمع الكثير من القصص والروايات عن الناس الذين يقعون تحت أيديهم في المعتقلات. وعن أساليب وفنون التعذيب التي تعرضوا لها، وعن السجناء الذين أجبروا على الاعتراف بأعمال لم يقوموا بها، ويقبعون في سجونهم ظلما. تذكر أولاده الذين أخذتهم الشرطة لتوصلهم الى بيت أمه في القرية.. وماذا سيكون وقع الخبر على أسماعها.. والتي لم يبق منها سوى بقايا إنسان "امتصته" السنون، وتركت آثار ضرباتها على جسمها. " ربما تكون نهايتها" قال في نفسه، عندها شعر أن دمعات بدأت تسيح من عينيه متسلله الى خديه.
وبعد ساعات خالها الدهر، فتح شرطي الباب وطلب منه مرافقته، فقاده في ممر يتوسط غرفاً كثيرة الى أن وصل الى باب إحداها، فأدخله الى داخلها، وطلب منه الجلوس على كرسي أمام طاولة، يجلس خلفها شرطي تزيّن أكتافه ومعصمه نجمات تدلُّ على علو مرتبته.
وبعد الأسئلة الروتينيه عن اسمه ومكان سكناه، سأله:
- ماذا تعمل؟
- انا طبيب في مستشفى العفولة.
- طبيب!.. طبيب!؟ انا لا أصدِّق.. يعني من الممكن ان تكون طبيباً لي ولزوجتي وأولادي.
- نعم وما الغريب في ذلك!؟
- الغريب في ذلك أنك طبيب، وتتحرش بالنساء في الحدائق العامة!! القى الشرطي قنبلة انفجرت في المكان، فحولته الى أشلاء مبعثرة.
- أنا.!؟.. أنا أتحرَّش بالنساء!؟ مستحيل.. مستحيل. قال وهو يلملم كلمات مبعثرة، وجد صعوبة في العثور عليها.
- لا تحاول ان تتغابى. وان تجعل من نفسك أهبلاً.
صرخ به أحدهم.
- إنك تتكّلم عن شخص آخر! أنا مستحيل! إنك تتكلّم مع شخص لم يرتكب شيئاً من هذا في حياته.
- إذا اعترفت سنساعدك وسيكون عقابك مخفَّفاً، وستخرج من هنا حالاً. قال محاولاً استدراجه.
- لقد قلت لك الحقيقة، وهذا كل الذي عندي. ردّ محاولاً كبت ثورة الغضب التي بدأت تعلو الى راسه.
- ان سيدة يهودية كانت معك في الحديقة، وهي التي اتصلت بالشرطة تطلب الحماية منك.
- آه السيدة أم الطفل.!.. مستحيل.!
- ها أنت تعترف أنك كنت معها في نفس المكان!! قال الشرطي مقاطعاً.
- نعم تواجدنا في الحديقة، هي مع ابنها وأنا مع أولادي، ولم أتكلَّم معها إلا..
- إلا ماذا !؟، أكمل !.. أكمل! " اعترف"!! قاطعه المحقق.
- إلا عندما وقع ابنها على الأرض، وقدمت له الإسعاف..! أكمل محاولاً التغلب على ارتفاع صوته.
- هي لم تقل هكذا..
- سجِّل عندك - إنَّكم الشرطة قمتم بمنعي من مرافقته الى المستشفى.
وفجأة سُمع طرق على الباب.. قام الضابط وفتح الباب، وخرج من الغرفة وتركه لوحده، واستمر غيابه ما يزيد عن ربع ساعة، فاشغل نفسه بتفحص محتويات الغرفة. وعندما رجع كانت ترتسم على وجهه ابتسامه، لم يستطع تفسير معناها.
قال الضابط:
لاحقه صوت المحقق، وهو يسابق الخطا، كألهارب من مكان موبوء.
خرج من المعتقل، وعندما وصل الى موقف السيارات، رآها بجانب سيارتها، تنتظر خروجه من مركز الشرطة. وعندما صادته عيناها فتحت سيارتها، وأشعلت المحرك، وانطلقت بسرعة هاربة من المكان.
إضافة تعقيب