بدت الردهة خالية الا من بعض المسافرين عشاق الليل والسفر الذين تابعوا العاصفة عبر الشرفات الزجاحية الكبيرة المشرفة على قسم من المطار الكبير. ولولت العاصفة ورعدت وبرقت فبان برج المراقبة في طرف المطار البعيد والطائرت الرابضة كطيور الرخ الخرافية التي تنتظر اشارة الاقلاع، هطلت السيول وتدفقت في كل مكان. جلست هناك وحيدة وجلست قبالها مصادفة وأنا أحاول أن أجفف شعري واعادة الهدوء الى عالمي المجنون منذ ثلاث ساعات قضيتها سائقا تحت رحمة هذه العاصفة.
كانت تقرأ وعندما أحست بحركاتي نظرت وابتسمت وهي تراقب هيأتي المبللة وأنا أنفض المطر عن معطفي كالطير المبلول وأحاول أن أعود الى عالمي الواقعي. كانت ابتسامة جميلة من امرأة خلاسية جميلة وأنيقة في العقد الرابع من عمرها. حاولت اخفاء ابتسامتها لي بين صفحات كتاب أمسكته بيمينها بغنج ودلال ألف غادة جميلة حتى طغت تلك البسمة علي وعلى المكان والزمان، وجعلت من العاصفة في الخارج عزفا موسيقيا لأوتار سماوية نورانية لم أسمع أروع منها من قبل. بعد التحية وشد الأيادي قالت الجميلة.
"أنا مسافرة الى مدريد ومنها الى الغابون بلد أفريقي صغير غرب كليمانجارو على ساحل المحيط الاطلسي". قدمت نفسي بعد أن عبرت عن روعه ابتسامتها الجميلة ودعوتها الى مشروب ساخن في المقهى الوحيد الساهر معنا في هذا المطار الكبير القابع تحت العاصفة وقد قاربت الساعة الثانية صباحا. وقفت وغدت بالحال امرأة ناضجة وخصبة جميلة القد والعيون والشعر الأبنوسي. خطت خطوات امرأة واثقة اختزلت في جمالها شمس افريقيا كلها. تماوجت دقات قلبي على وقع خطاها وكاد يرقص.
قالت أن اسمها راشيل درست الفن التشكيلي في باريس وأنها تدرّس الطلاب في بلدها الفنون الجميلة وخاصة الرسم، وأنها أيضا تحاول الرسم بذاتها واخبرتني بأنها مكثت هنا في هذا البلد الأوروبي لتعمق دراستها بالرسم التشكيلي من عصر التنوير الأوروبي الرينسانس.
أخبرتي أن طائرتها أيضا تأخرت عدة ساعات بسبب ذالك الجو العاصف. تناولت بيد الفتنة كأس النبيذ الخمري المغلي بالقرفة وأنا أراقبها وأغرق أكثر وأكثر في ذاك الجمال الذي حباها وفرض هيبته علي وعلى المقهى الذي يغفو على أضواء خافتة متحولة هادئة بلون الطيف كله. رأيت جمالها وسحرها بكل الألوان. نسيت العاصفة والزمان والمكان ولم أتابع الا شفتيها المكتنزة بلون النبيذ ذاته وهي تتكلم عن بلدها البعيد تحت خط الاستواء الى الغرب من كليمانجارو على شفا المحيط الكبير. طارت الطائرات وحطت الطائرات. غادرنا المقهى وقاعة المطار وبدقائق معدودة كنا في ساحة تلك العاصمة الجميلة التي بدأت تستعد ليوم جديد. عقد الحب ثماره مع أول شعاع للشمس التي اخترقت الغيوم وبعثت أشعتها على وجوهنا وعلى المكان. قلت لها: "ربما كنا نقيضين نحمل نفس الصبغات الوراثية التي تحدد الحب والاصابة به من النظرة الاولى". ضحكت وضممتها الى صدري قبلتها وقبلتني وعبثت بشعرها وتذوقت رضاب شفاه ناضجة اكتنزت كل حرارة خط الاستواء وما حوله.
بقينا أياما، غيرنا فيها كل مواعيدنا وغرقنا في عسل أفريقيا وفلسطين والغابون. أخبرتها عن الأقحوان وشقائق النعمان وأخبرتني عن زهر اللوتس. أخبرتها عن النوارس الهائمة في رأس الناقورة وأخبرتني عن موج الهادئ وسواحل رملية نقية لا تنتهي. أخبرتها عن الأمراض العصبية وسبل علاجها المتطورة في هذا البلد البعيد الذي يشغل عالم الطب اليوم وخبرتني بفيض عن الرينسانس وعن لوحات غويا وعن الموناليزا وعن جمال عباد الشمس والريف الهولندي في لوحات فان كوخ، وعن شمس افريقيا تحت خط الاستواء وعن أدغال ليس لها آخر وخبرتها بدوري عن كروم الزيتون في الجليل وعن بيارات يافا وعن أسوار القدس وكنيسة المهد وعن جفنات العنب في الجليل وفي الخليل. خبرتني عن النخاسين البيض الذين اختطفوا شباب أفريقيا وخاصة غربها القريب الى امريكا وكأنها تعيد الى أسماعي قصة كتاب الجذور للكاتب الزنجي الأمريكي الكيس هالي، الذي بحث فعلا عن جذوره واجداده وبلده ألأصلي وبعد 14 سنة من البحث المضني في مكتبات العالم حتى وصل فعلا الى أهله وأصله في غامبيا القريبة من الغابون. خبرتها عن العراق ودجلة وبغداد وبيروت وعن النيل والفرات وعن علاء الدين وعن بردى وارهاب أمريكا القذر الذي يكتسح العالم وخبرتني عن ضياع أفريقيا وعذابات شعوبها بعد أن امتص الغرب ترواثها وتركها لقمة سائغة للزمن الضائع.
ضمتني للوداع وقبلتني حتى حرقتني للمرة الالف شمس أفريقيا وذرفت دموعا في صفائها وحرارتها وجمالها تجسدت فتنة من كل العصور. رحلت هي أولا ورحلت بعدها وأنا أراقب من الشرفات ذاتها طائرتها وهي تختفي وتضيع خلف الغيوم في تلاشي سماء زرقاء. وعدتني ووعدتها أن نلتقي في فلسطين أو تحت الشمس الافريقية أم كل الشموس، واتفقنا أن نلتقي في نصف الطريق على ضفاف النيل. ذكراها حية وكتاباتها تأتي دوما في ساعات الليل البعيدة من خلف كل العصور والوهاد والبحور وتتعمشق من جديد نياط قلب لا يرغب في النسيان.
إضافة تعقيب