بدوري أشبهه بالبركان الصّامت الذي يخفي في جوفه الكنوز الدفينة والثمينة والمفاجآت
في كل فترة زمنية ينفجر هذا البركان، ليكشف لنا أسراره وكنوزه.
إنه عاشق للكلمة الحرّة الراقية؛ له خصوصية، كتاباته مزدهرة لها رائحة ونكهة عطرة رقيقة أليفة متدفقة بالعطاء، تزرع ثقافة التواضع والمحبة بين كافة أطياف وطبقات المجتمع ويتفاعل مع نبضات قلوبهم وأحاسيسهم، يؤمن بحرية التعبير وبناء مجتمع حضاري راقٍ، وله دور فعّال في إثراء الحركة التربوية والثقافية.
إنه الزميل النجم الثقافي الساطع د. محمد صفوري، ابن بلدتي شفاعمرو ذات التاريخ الحافل والزاهر والتعايش الأخوي.
أهداني مشكورا وكعادته كما في كل إصدار جديد نتاجه وانفجاره الأخير "عريب، زعيمة الغناء العباسي". يقع الكتاب في 120 صفحة من الحجم الكبير الصادر بدعم صندوق يهوشوع رابينوفيتش للفنون ووزارة الثقافة والرياضة. يهديه إلى: نياط القلب، من يتخذن كرم الأخلاق ناموس حياة، فلذات كبدي، بناتي؛ أطلال سميحة وعريب.
إن حقيقة كون الباحث الأديب د محمد صفوري ملمًا في دراسة السرد النسوي جعله يغوص عميقا في وصف أدق التفاصيل والأجواء الرومانسية، ويعزف بصورة بارعة على أوتارها.
يصدّر الكاتب مقدّمة كتابه بقوله: "ترصد الدراسة حياة جارية من جواري العصر العبّاسيّ، نبغت وفاقت قريناتها في فنون عديدة، فتربّعت على عرش الغناء، إضافة لكونها شاعرة مجيدة وناقدة بارعة ولاعبة نرد وشطرنج يُعتدّ بها، إلى غير ذلك من الفنون".
وبعد، فلا يغفل من يتحرى حياة عريب عن جوانب سلبية كثيرة في سلوكها وحياتها وهي سمات قد وسم بها مجتمع الجواري الذي نشأت فيه، فهي امرأة ساقطة أخلاقيا ماجنة متهتكة لا تأنف من التلفظ بأفحش العبارات كفخرها بمضاجعة ثمانية خلفاء من بني العبّاس وأنها اشتهت من بينهم الخليفة المعتز، أو شروطها التي تشترطها في من يطارحها الغرام وسردها لأخبار مجونها وخلاعتها مع من أحبتهم من الرجال وعاشرتهم، ولا غرابة في ذلك ولا استهجان حين ندرك أن مثل هذه التعابير والتصريحات قد صدرت من جارية ليس إلا.
الكتاب وكما جاء في تلخيصه "يميط اللثام عن ثقافة عريب الشاملة؛ إذ برعت في فن الغناء واستحداث أصوات وألحان جديدة لم تكن معروفة قبلها كما تألقت في قرض الشعر فأنتجت أشعارا راقية عملنا في هذا الكتاب على جمعها وحفظها من الضياع إضافة لتوثيق ما قيل فيها من الشعر، كما نبغت عريب في فن النثر على قلته، وقد أوردنا في الكتاب ما جمعناه من مقطوعات نثرية شهد لها كثيرون ببراعتها فيه، ناهيك بكونها ناقدة صادقة وموضوعية لا تداهن ولا توارب إنما يأتي نقدها معللا واضحا ينم عن معرفة شاملة ودراية تامة فيما تذهب إليه".
وهنا لا بد من أن أقدر مصداقية الكاتب حين يقول: "إني لا أدّعي الإلمام بكل ما يتصل بعريب وحياتها الفنية أو الاجتماعية، ولعل بعض الأمور قد غابت عن مداركي عفوا لا قصدًا، إلا أني على ثقة بتقديم صورة واضحة لحياة عريب والفنون المختلفة التي طرقتها، آملا أن تضئ هذه الدراسة ما خفي من حياة عريب وتسهم أيما إسهام في كشف النقاب عن مجاري الحركة الفكرية والثقافية لمجتمع الجواري في العصر العباسي وإثراء فكر القارئ ".
توزعت الدراسة على ثمانية مباحث لا مجال لتوسيع الشرح وأكتفي بتلخيصها في بضعة أسطر، على النحو التالي؛
المبحث الأول الجواري في المجتمع العربي وأثرهن في الحياة، مع عرض لفئات الجواري على اختلافهن في العصر العباسي، سبقه تقديم قصير لنشوء الجواري عند العرب والإشارة الأولى لمن غنى الغناء العربي، وإبراز التباين بين الدارسين حول تصنيف الجواري، واختلافهم فيه لاختلاف المعايير التي اتخذها كل منهم.
المبحث الثاني يسرد سيرة حياة عريب ونشأتها منذ ولادتها حتى موتها وكيف أصبحت جارية ومن كان مالكها الأول ويستعرض أنواع الثقافات التي نهلت منها وأسهمت في جعلها شاعرة موهوبة ومغنية لا منازعة لها.
المبحث الثالث تمحور في تفصيل علاقات عريب الغرامية وجعلها في صنفين؛ من أوهمته بحبها وعشقها له لأهداف في نفسها، ومن كانت تحبه حبا خالصا مع محاولة فحص أنواع وصحة تلك العلاقات والوقوف على حقيقة مشاعرها نحو الرجال الذين ارتبطت أسماؤهم بها أو كانت لهم مغامرات معها من خلفاء، قادة، أمراء، وخاصة الناس وعامتهم.
المبحث الرابع حرص الكاتب فيه على وصف أخلاق عريب وعاداتها بغية الوقوف على المزيد من أخبارها وتمييز صفاتها وأعمالها سلبا وإيجابا
المبحث الخامس خصص لتوضيح دور عريب في صنعة الغناء والألحان وعرض الأسباب التي جعلت معظم الدراسين يشيرون إلى تفوقها وتميزها حتى اعتبروها زعيمة الغناء العباسي، داعما مكانتها الغنائية بعرض آراء فيها لمغنين آخرين عاصروها.
المبحث السادس عالج شعر عريب الذي قيل في مناسبات عديدة مع قليل من الشرح للمناسبة أحيانا، اعتمادا على ما أوردته من شعرها مبينا إسهامها في الحركة الأدبية عامة والشعرية خاصة.
المبحث قبل الأخير استعراضٌ دور المرأة العباسية في الحياة الثقافية والفنون النثرية التي برعت فيها كأدب المراسلات وأدب التوقعات مع عرض نماذج نثرية من نتاج المرأة العباسية سواء كانت حرة أم جارية.
المبحث الأخير خصص لما قيل في عريب من الشعر، وهو مبحث يؤكد أخبارا في سياق الحديث عن علاقاتها وتم التركيز على شعر إبراهيم بن المدبر الذي ربطته بعريب علاقة غرامية مشهورة.
أخيرا أقول لكاتبنا لحروفك زفرات وعبرات تندمج في ألوان الربيع التي يفوح منها عبير راقٍ ساحر وعذب، بمداد قلم معطاء حر ذي رؤية حضارية ء لا يعرف التوقف ومعنى العناء.
تقديري ومودتي وإلى مزيد من الإبداع وخدمة الحركة الأدبية والثقافية.
*عضو الاتحاد العام للكتاب الفلسطينيين-الكرمل 48
إضافة تعقيب