مع قصص السيدة اعتدال القاسم:
السيدة اعتدال فلاح القاسم زوجة الناقد الكبير نبيه القاسم وأم الدكتورة رباب القاسم تثبت في هذه المجموعة الروائية أنها اديبة تجيد فن القصة، وأن لها مساهمات في الحراك الثقافي الفلسطيني، وأن لديها حنينا الى الماضي الجميل منذ فترة الصبا وبأسلوب رشيق وجميل في آن واحد ولكن بلغة بسيطة لا تعقيد فيها حتى تكاد تكون عامية لأنها جاءت مطعمة ببعض الألفاظ العامية. هذا ما اكتشفته منذ أهدتني السيدة اعتدال مجموعة قصصها والتي عنوانها "قصص من الماضي الجميل" أقول قصصا روائية مع أنها عنونت كل فصل من فصول هذه المجموعة بعنوان خاص به ليبدو ما كتبته عبارة عن مجموعة قصص قصيرة. والحقيقة أن ما وجدته بين صفحات هذا الكتاب هو سرد قصصي لا يجيده الا كاتب متمرس في كتابة القصة كما كان أجدادنا يسهرون في ليالي الشتاء الباردة حول كانون النار وعليه حبات الكستناء أو التين المجفف اللذيذ ثم يغمسونه بحبات السمسم ليتمتعوا بطعمه الرائع واللذيذ..
والحقيقة الأخرى أنني لم أفاجأ عندما أهدتني هذه المجموعة لأنها تعيش في بيت فيه مكتبة كبيرة تحوى مختلف الكتب المتعلقة باللغة العربية والأدب العربي فهي تنتمي الى عائلة ادباء وكتاب معروفين على الساحة الأدبية. لذلك كان من الطبيعي أن يتعاطى كل من يعيش في بيت كهذا البيت، أن يتعاطى الأدب والكتابة ولذلك أيضا ليس غريبا أن تتعاطى هذه السيدة مهنة الكتابة وتعشق الأدب واللغة العربية وتبدع فيها نثرا وحتى شعرا.
قارىء هذه المجموعة سوف يجد مفاجآت رائعة وجميلة تعيده الى ماض ليس ببعيد جدا عنا، الى ماض عاشه أبناء شعبنا العربي الفلسطيني منذ فترة الانتداب أي مطلع القرن العشرين والسنوات الأولى منذ قيام دولة اسرائيل حيث كانت الحياة بدائية الى حد ما، فمعظم السكان في القرى الفلسطينية كانوا يعيشون على فلاحة الأرض بواسطة الدواب حيث لم تكن الجرارات الزراعية قد وصلت الى هذه القرى وكان القليلون يعملون اما في بعض الوظائف الحكومية البسيطة او في جهاز التعليم الابتدائي وحتى هذا الجهاز لم يكن متطورا كما هو عليه اليوم.
تأخذ السيدة اعتدال بيدنا من زاوية حياتية بسيطة فلاحية الى زاوية أخرى بشكل مبسط ولكن ممتع وتشدنا بين الفصل والآخر الى ما هو جديد لجيل الشباب اليوم ولكن ليس جديدا لمن تجاوزوا سنوات الخمسين من أعمارهم. فأنا وأعوذ بالله من كلمة أنا عشت تلك الحياة البسيطة على ما فيها من عراقة وذكريات وتراث رائع هو تاريخنا الشعبي الذي نعتزّ به. فقد عشنا العمل على البيادر وركبنا النوارج ودرسنا القمح والشعير والكرسنة والحمص وذرينا التبن والقصل وزرعنا البطيخ والشمام وبذور نوار الشمس والسمسم، وجمعنا أكواز الصبار وامتلأت ايدينا وأطرافنا بالشوك الناعم الذي كان يتطاير حولنا فنقاسي منه ومن غيره.
ما يميز هذه المجموعة القصصية اولا هو صدق الوصف لكل صغيرة وكبيرة لم نكن لننتبه اليها في حينه ولذلك فانها تعيدنا الى ذلك الماضي المجيد والبسيط وبصراحة ما بعدها صراحة فان هذه العملية، أقصد، العودة الى الماضي القريب والبعيد تتطلب من الكاتبة دقة الملاحظة حول بعض الأحداث التي كانت تميز قرانا وبعض مدننا فهي أي المؤلفة تطرقت الى حياة الفتاة صغيرة السن التي عاشت في القرية مع كل ملابسات هذه المعيشة فأخذت تؤكد في كل مناسبة علاقة المحبة التي كانت تربطها بالجد وبالأب وبالأم وعادة احترام كبار السن وتقاليد الفرح في الأعياد والمناسبات والأفراح والأعراس ووسائل اللعب وطرق التصرف والعلاقة مع كبار السن، والتعايش معهم باحترام ومحبة حقيقيين. وهي تؤكد أيضا كيف كانت الأمهات يعملن في الليل والنهار لاعداد لقمة العيش واعداد رغيف الخبز وتجميع حملات الحطب للتدفئة والغسيل والخبيز والاستحمام وما الى ذلك.
هذه الأمور تبدو بسيطة على البعيد ولكنها كانت تتطلب الكثير من الجهد والتعب والانتباه لأن وسائل النقل والتنقل كانت بدائية أيضا وعلى الدواب أوعلى الرؤوس والظهور وكل ذلك كان يتطلب جهودا مضاعفة من أجل متابعة الاحتياجات اليومية المعقدة. انها تعرف وبذكاء كل ما يتعلق بالمصطلحات اللغوية التي لم يعد بعضها مستعملا في أيامنا. والأمثلة على ذلك كثيرة منها: عارضة الخشب في الفرن، تنعف الطحين، تلقح العجين على الصاج، الخبط للعجين، بجيش أي لا يصل مقدارا معينا، المرقحة أي الضحك بغير حدود، أم علي بتقلع وأبو علي بيلبع، وغيرها من المصطلحات التي قل استعملها الا قليلا. لأن قسما منها ما زال مستعملا حتى اليوم ولكنه قليل.
والحقيقة التي يعرفها كل عارف باللغة، أن هناك بعض الكلمات التي يتم استعمالها في فترات معينة ثم يستبدلها الانسان بمصطلحات أخرى وهكذا. هذا معناه أن اللغة لا يمكن أن تكون جامدة دون تجديد حتى لو كان التجديد باللهجة العامية وهنا يحصل معظم الخروج عن قواعد اللغة وفي هذا الخروج الشيء الكثير من الجمال.أخيرا أقول: هذه النصوص السردية أعادتني سبعين عما أو أكثر الى الوراء الى تلك الأيام الجميلة، الى حياة البساطة الى رغيف الخبز الساخن والمدهون بالزيت والسكر، أو بالزيت والزعتر، او بالزيت والسمسم الى حياة الريف الفلسطيني الذي غيّر الكثير من مظاهره وعاداته وتقاليده ومستواه المعيشي، ومن هنا تظل تلك الحياة عى بساطتها تشدنا في ذكريات رائعة وممتعة! ولكنه الزمان الذي يمضي ولا يعود. فما كان جميلا سابقا بات غريبا على حياتنا اليومية اليوم. هكذا تتبدل الأيام وتتبدل ظروف المعيشة، وتظل المؤلفة السيدة اعتدال فلاح القاسم تحلم بتلك الأيام وتعيدنا معها لنعيش أحلامنا التي فقدناها فلا يبقى منها الا الذكريات وما أجملها من ذكريات.
فالى هذه الأديبة الواعدة أقول: تابعي مشوارك مع ذكريات أخرى نحن بانتظارها!
لك الحياة!
(كفرياسيف)
إضافة تعقيب