news-details

مجدي أبو مطر في (آخر 15 ثانية): أسئلة المختبر الرؤيوي للإرهاب الأعمى ..

تعتبر رائعة المخرج الكندي مجدي أبو مطر (آخر 15 ثانية)، إنتاج (إم تي سبيس)، واحدة من أهم العروض المسرحية التي قدمت على خشبة مسرح قصر الثقافة في مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي في دورته الرابعة، إن لم تكن أهمها وأبدعها على الإطلاق، ذلك أنها مسكت بخيوط وتلابيب الإرهاب الأسود في أبشع صوره وأفظع فجائعه، برؤية فكرية فنية اختبارية ركيزتها الأساس المخرج والمنتج السينمائي العربي الكبير مصطفى العقاد الذي راح ضحية لهذا الإرهاب الذي خُطط له بأيدٍ غادرة طالته وطالت ابنته ريما في ليلة زفافها بفندق غراند حياة بالمملكة الأردنية .

وكما يبدو أن المخرج أبو مطر، أخضع هذه الرؤية لحوار ثقافي باحث وعميق بينه وبين أسرة عرضه المسرحي التي تتنوع جنسياتهم وثقافاتهم وخبراتهم ورؤاهم وإن اتفقت جميعها على إدانة الإرهاب، ليخرج العرض في صورته الكلية إدانة رفضية عالمية للإرهاب ومرتكبيه وليست عربية فحسب باعتبار أن المستهدف مصطفى العقاد عربي الجنسية والهوية .

أما على الصعيد الفني والمعملي، فقد حاك المخرج أبو مطر نسيج هذه الحادثة الأليمة المفجعة، وفق رؤية اختزالية استذكارية استحضرت تاريخ وحياة العقاد الأسرية والعقائدية والإنسانية والفنية في سياق أزمنة متداخلة ومتشظية تقترح على متلقيها مساحات متعددة للتأويل، لتدشن في نهاية الأمر أسئلة الراهن والمستقبلي في خارطتنا الكونية التي استفحل فيها الإرهاب حد التباس البصر والبصيرة والملموس والمحسوس في معرفة من هو الإرهابي وما هويته وما دينه ومذهبه ومن ورائه وأمامه ولماذا يصبح هذا الإرهاب سبيلا مخادعا لفردوس وهمي ومضلل . 

إنها قراءة معاصرة لهذه الأسئلة الشائكة التي وقف فيها أبو مطر على شفير هاوية الإنسانية جراء الإرهاب الأسود والأعمى، وكان الفعل الاستحضاري لحادثة العقاد، متكأ ومنطلق تجسد الذاكرة الصعبة والعنيفة والفدحية التي باتت تتملك حضور الآني في واقعنا الراهن وكما لو أنها تسعى بكل ما أوتيت من خلايا المواجهة المضادة للحياة الآمنة، لأن تنفي كونها ذاكرة استحضارية في الأصل . 

لقد وضعنا المخرج أبو مطر في حيز اشتباكي خلاق بين حلم العقاد بسيادة رسالة محمد الإنسانية المسالمة في الكون كله، وبين حلمه في أن يعي الإرهابي قبل الآمن، القيمة المثلى لهذه الرسالة، وبين حلم العقاد في أن تتجلى أبهى لحظات أمنياته في زواج ابنته ريما، وبين حلمه في أن يستوعب الإرهابيون تبعات الكارثة الفدحية التي راح ضحيتها فرحٌ كان من شأنه أن يشمل متسع المجتمع الإنساني برمته .

في هذا العرض الاستثنائي، يفسح المخرج أبو مطر مجالات وأنساق تقنية وجمالية، تعضد رؤيته الاختزالية لحادثة العقاد، وذلك عبر توظيف المشهد السينمائي الذي يتقاطع مع فعل الحدث الحي على الخشبة، ليصبح الزمن الاستحضاري شاهدا فاقعا على ما يحدث الآن واللحظة، ولتصبح تلك الأزياء البيضاء المعلقة على خلفية الخشبة شهود عيان على هذا الحدث، وهنا نلحظ الدور الفاعل والمؤثر لسينوغرافيا العرض التي في الوقت الذي يتماهى فيها المشهد الضوئي بالمشهد السينمائي بالمشهد الموسيقي، يشكل الأداء الحركي والصوتي للممثلين، منعطفات التقاطع الزمني واللحظي التي تؤسس لحوار أسئلة جديدة حول الحادثة مع المشاهد المذكورة في العرض .

إن الممثل لدى أبو مطر، يتملك خاصية استثنائية وفريدة في الأداء بمختلف أنواعه، فهو إذ يستخدم صوته لحوار أو منولوج يبدو واقعيا وطبيعيا، ألا أنه في الوقت نفسه متمكن من خلق حالات صوتية تعبيرية مغايرة، تصدر أحيانا ببلاغة تتجاوز كل ما يكتنز به هذا الحوار من كلمات، ولتصبح هذه الحالات في كثير من الأحيان متمكنة وباقتدار تقني صوتي على محاورة اللامرئي أو المتوقع أو الموتوجس في هذه الحادثة، بجانب تمكنها في الوقت ذاته على أن تصبح غرفا داخلية عميقة لموسيقى الألم والخوف والحيرة التي تشاكس في قيمتها الدلالية المتوالدة والمتناسلة، الموسيقى المصممة أو المعدة للعرض . 

وفي الوقت الذي يرسم فيه أبو مطر خطوط مشهدياته السينمائية في فضاء العرض المسرحي، يشتغل في الوقت ذاته على تقنية مونتاج المشاهد الحية على الخشبة، وكما لو أنه يعيد تدشين أسئلته في كل لحظة باتجاه آخر، مؤثرا لعبة المحتمل في التجربة أكثر من المكتمل الذي يقتل الفراغ المولد للرؤية وتأويلها معا، وهكذا نلحظ أغلب المشهديات التي يؤديها على وجه التحديد الممثل الكندي صاحب الإمكانات الأدائية الاحترافية الهائلة تريفور كوب في دور (رواد) والإرهابي، والممثلة الهندية الاستثنائية بام باتيل في دور ريما ابنة العقاد وساجدة زوجة الإرهابي رواد، بجانب لحظات الإرتحالات بين فعل الملتبس وفعل المتحقق في الحكاية، وهنا نكون في حيز يفضي إلى اشتغالات أدائية وإخراجية ما بعد درامية في إطار إزاحتها الواعية للنتائجي الذي يروم تفسير الحكاية وفق مخطط معد وغير قابل للتأويل . 

ولعل أقرب وأبلغ نموذج لما نذهب إليه، هي لحظة الصمت المريبة التي لفّت رواد وزوجته قبل حادث الانفجار، وهو يطوقها ويطوق نفسه بالحزام الناسف في لحظة فرح مرتقبة، وما أبلغ هذا المشهد وما أبعد دلالاته، فهو حالة من حالات التجاوز لأي لغة عدا الصمت .

أما اللحظة الأخرى، فتختزل في لحظة الفاجعة، لحظة زواج ريما ووالدها العقاد وأسرته، حيث نكون في مواجهة صورة فوتوغرافية عائلية، لم نتوقع لحظة أنها ستتحول إلى فاجعة إرهابية مدوية، وهنا نلحظ بلاغة الصراخ الصامت وإبراز حجم الفجيعة القادمة الهائل والمدوي، هذه اللحظة الصعبة لا شك أنها وحدها اختبار رؤيوي لآلاف المشاهد التي سبقتها، فلم تعد تلك الصورة (البافيسية) المعبرة والجامدة بكافية عن التعبير لتشظيات نرى هلعها يتجاوز حيز المسرح والمكان الذي يشغل المتلقين في مقاعده . 

مثل هذا العرض، لا بد وأن يكون معاصرا، فهو يقترح ممكنات تأويله وإن ظل يقدم على ما يربو العقد من الزمن، فهو متجاوزا للأزمنة، قريبا من المستحيل المتخيل حدوثه . 

فمن القلب تحية للمخرج المبدع المعاصر مجدي أبومطر، (مصطفى العقاد) ولفريق عرضه الرائعين المحترفين والمؤمنين بما يقدمونه لجمهورهم من قضايا تهم كل إنسان على هذه الخارطة الكونية .. 

تحية لـ ندى حمصي السورية (أم العقاد وجدة رواد)

بام باتيل الهندية الكندية (ريما ابنة العقاد وساجدة زوجة الإرهابي رواد)

بو باردوس المجرية الكندية (باتريسا زوجة العقاد الأولى، أم ريما وأم الإرهابي رواد)

تريفور كوب الكندي، (رواد الإرهابي العراقي الذي فجر الفندق وقتل العقاد وابنته)

غاري كيركهام (تطوير وضبط النص)

نيك ستورينغ (موسيقى)

جينيفر همينيز وكريس مالكوفسكي (إضاءة)

شيري تامز وويليام تشيزني (ديكور) 

روب رينغ (فيديو) ...

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب