news-details

نصائح أب لإبن، الذي عزم على ربط حياته بالصحافة | يوسف جمّال

يا بنيَّ وقد قرّرت أن تتخذ من الصحافة مسلكاً تسير عليه، وطريق حياة تحقِّق فيها ذاتك وأمنياتك. ولن أقول مهنتك، لأن الصحافة إذا تحوّلت الى مهنة، تفقد كلّ أصالتها والأهداف التي خُلقت لها، فرأيت من الضروري أن أسوق لك هذه النصائح، لعلها تعينك في طريقك البالغة الصعوبة والمشاق.

  •  لا ترقص على حبال النوريات

ليكن لك موقف تقف عليه.. ومبدأ تثبت فيه.. ولا ترقص على الحبال لإرضاء قرائك. وذوي النفوذ في دور النشر وأصحاب الصحف والجرائد، ووسائل الإعلام من المرئيات والمسموعات. 

ولا تكن مثل النوريّات.. فقد كنَّ يزرن البلد في مواسم الحصاد. فتُربط لهنَّ الحبال بأسطح البيوت المحيطة بالساحة العامة، ويقمن بالرقص عليها رقصات بهلوانية، أمام تصفيق واستحسان جماهير أهل البلد.

 ولا تغريّنك المتاليك، التي قد يدفع بها إليك المتفرجون على رقصاتك. فهي لا تسمن ولا تعني من جوع. فالرقص على الحبال فيه خطر عليك. فقد تسقط عنها وتتحطّم.

وتخسر حياتك وحياتك الصحفية. فتذكَّر ما حدث للراقصين من الصحفيين الذين سبقوك. 

فقد تكسَّرت أقلامهم وجفَّ مدادها. وألقيّ بكتاباتهم في مزبلة التاريخ. وتحولوا الى نسيَّاً منسيا.

  •  لا تخضع لذوّي السلطة و السلطان

 كن مثل حمارنا الحوراني الّذي أتى به جدُّنا من حوران.

وكان مشهوراً بحرونته، ومن هنا جاءت هذه الصفة التي تُطلق على العنيدين وقساة الرؤوس، وكان هذا الحمار عنيداً لا يسمح لأحد غير جدّنا- صاحبه بركوبه..

 فلما سمع حاكم البلاد التركي بعناد الحمار، أمر باستدعائه ليطبِّعه، مدّعيّاً أن لا أحد يقف أمام إرادته، فهو يستطيع، إن أراد، أن يليِّن الصخر.

 وما أن نطَّ الحاكم على ظهر الحمار، حتى صار يهزُّ جسمه الى الأمام طوراً، وأخرى الى الوراء. ويميل بشدة نحو الشمال، ومن ثمَّ الى اليسار. حتى أوقعه أرضاً مكسَّراً محطَّماً ودمه يسيل من أماكن متعدِّدة من جسمه.

 فرمى السلطان جدَّنا في السجن، وقدَّم الحمار علفاً لحيوانات البريَّة.

 فالسلطان - يا ولدي - كالنار إن بالغت بالاقتراب منها أحرقتك..

 وأن دخلت داخل دائرته سجنك فيها.. وقيّد حريَّتك وصرت أسيراً له تخدمه وتأتمر بأمره.

فجدّك كان في موسم الحصيد يخطّ حول جدتك دائرة، ويأمرها أن لا تخرج منها، إلا بعد أن يعود من صلاة الجمعه، التي كان يؤديها في مسجد البلد، الذي يبعد عن الحقل مسافة شرب سيجارتين.

فكانت جدَّتك تقضي مدة غيابه عنها، في الدائرة التي رسمها لها، ولا تخرج منها حتى عودته.

لا تدخل في سجن دائرة السلطان - يا ولدي - فدخول الحمام ليس كالخروج منه.

وتذكّر قول المتنبي عندما صاح شاكياً، بعد أن دخل دائرة سيف الدولة الحمداني:

أذا رأيت نيوب الليث بارزة/فلا تظننَّ ان الليث يبتسم

  • ولا تكن مثل سعدان النوَّر 

عبّر- يا ولدي - عن رأيك، حتى لو لم يرض الناس. ولا تكتب أو تقول حسب ما يحلو لبعض الناس.

فلا تكن مهمتك كصحفي تقتصر على إرضاء وإمتاع القراء، وكتابة ما يحلو لهم، وإشباع رغباتهم وميولهم. وعزف موسيقى حسب أهوائهم. وإنما عليك أن تكتب الحقائق فقط. 

ولا تكن مثل سعدان النَّور.. 

 فقد أطلقوا على قرد النّوَر في ذلك الزمان اسم  سعدان ، لأنه كان يسعد الناس بحركاته البهلوانية، التي كان يقوم بها أمام المتفرِّجين من أهل البلد.

 فقد كانوا ينصبون له في ساحة البلد، ما يشبه سلّم له درجات عريضة من الخشب، وعندما يغنّون له أغنية خاصة، يقوم بألعاب جمبازية على السُّلم، فيفرح الناس ويسعدهم خصوصا ً الأطفال منهم.

 أما الحمار فكان ينتظر جانباً الى آخر النهار. فيأكل ما كان قد جناه السعدان طوال اليوم من الغلة، التي دفعها أهل البد، مقابل استمتاعهم بألعاب السعدان.

فلا تكن سعداناً يضحك لك المتفرَّجون ويضحكون عليك، ولا تكن   حماراً   تستغلُّك الحمير، فترقص لتطعمها فترضيها.

ولا تطبِّق القول: ما يجنيه ويتعب من أجله السعدان طوال النهار، يأكله الحمار في نهاية النهار. 

فذوو الأطماع والمصالح لا يشبعون.. والذين يبحثون عن اللذّات لا يُعَدّون..

فابتعد عنهم وأبحث عن ذاتك في داخلك. ولا تضيِّعها في متاهات الضياع.

  • لا تتعلّم البيطرة بحمير النوَّر  

كن يا ولدي بين الناس، وفي موقع الأحداث اشربها من المنبع قبل أن تفسد في طريقها الى الجمهور، وخذ من هناك أخبارك وموادُّك الصحفية، ولا تكتف بالتقليد وأنصاف الأخبار.

وأصل الحكاية أن النوَر عندما كانوا يؤمون البلد لطلب الرزق. كتصليح الأواني وتبييضها وتصليح الأدوات، وتمضيَّة السكاكين وغيرها من الأعمال، كانوا يطلقون لحميرهم العنان، كيّ تسرح وتمرح في براري البلد. 

وهنا كانت الفرصة   لأطباء البلد، لتجريب أدويتهم التي اخترعوها من الأعشاب وأوراق الأشجار على حمير النوَّر. التي كانت سائبة في البراري دون رقيب أو حارس.

ومن هنا جاء المثل.. تعلّم البيطرة في حمير النوًّر 

وتعل معي الى ما حدث لعمّ محمود السليم..

 فقد اشتكى من حَمارٍ على رجله، يصاحبه حكة. فطلب لنصيحة من جاره سالم الحسن، الذي كان معروفة بوصفات الطبيًّة، حيث كان يقول للناس: وصفاتي واحدة بواحدة.

فأشار عليه أن يتمرّغ عارياَ كما ولدته أمه، في مزرعة   طبيعية من القرّيص، طول عيدانه متران، ومساحة أوراقها مثل راحة اليِّد. نبتت في خرابة بيت قديم مهدوم.

وبعد خروجه من التمرُّغ المشؤوم، نُقل الى المستشفى. ولولا لطف الباري لانتقل الى جواره.

 يا ولدي - تعلّم الصحافة وأنت بين الناس، تألَّم مع آلامهم. تعلّم من تجاربهم ومعاناتهم على الطبيعة، وفي مكان حدوث الأحداث.

ووظِّف قلمك للبحث عن الأدوّية الحقيقية، التي فيها شفاء لقرائك من أمراض ومتاعب الحياة.

  •  كنْ مثل خالتي فاطمة الدّايّة

خالتي فاطمة دايّة البلد. كانت لا تبشِّر بالمولود الجديد، إلا بعد خروجه الى الحياة باكياً.

تعلّم منها يا ولدي.. لا تنشر خبراً إلا بعد أن تتأكّد منه.

فكم من صحفيٍّ نشر خبراً دون أن يتأكد من صحته. فدفع ثمن غلطته الويلات احترامه، وتقدير القراء والمستمعين، والكثيرون من الصحفيين، بسبب ذلك، لفظتهم الصحافة خارج دائرتها. 

وقد تعلَّمت خالتي فاطمة من كيسها. 

فقد استدعيت الى توليد امرأة جاءها المخاض، فأسرعت الى بيت العائلة التي استدعتها.

وفي الطريق التقت بإحدى نساء البلد فسألتها: من السعيدة التي ستلد اليوم؟

فأجابتها: عائشة الصالح ستلد اليوم. وانشاء الله ربنا يعطيها ولد، فانتشر الخبر كالنار في الهشيم، في جميع حارات البلد..

ومن الطريف أن جميع سكان البلد، كانوا يعرفون أن عائشة حاولت لمدة سنوات طويلة أن تحبل فلم تنجح.

ولكن في هذه المرة.. استبشرت خيراً، بعد أن انتفخ بطنها، وعانت من متاعب وحام شديده.

ولكن عندما وصلت الدّايّة فاطمة الى بيتها، بحثت في أنحاء بطنها عن وليد فلم تجد.

فلم تعرف الى أين تودّي وجهها أمام الناس وأصبحت مثار سخريّة من قِبَل أهل البلد فقد كان الحمل كاذباً.

فالخبر يا ولدي كالمولود الجديد. لا يولد ولا يرى النور إلا بعد حمل ومخاض. 

  •  لا تكن مقالاتك مثل طبيخ النّور 

والنور عندما كانوا يؤمون القرى طلباً للرزق، كانوا لا يطبخون. فكانت كلُّ نورية، تحمل قدرها وتطوف في البلد، وتدخل البيوت فتمدُّ قدرها، فتقوم صاحبة البيت، بصبِّ ملأّ مغرفة من طبيخها في قِدر النوريّة.

وما أن يرفع المؤذن أذان المغرب، حتى تكون قد دخلت عشرات من بيوت البلد، واحتوى قدرها على مثلها من طبخات أهل البلد.

وهذا هو طبيخ النَورَّ - خلطة من الطبخات في قدر واحد 

ولذلك يا ولدي - فلا تدخل في مقالات تكثر مواضيعها، فتدخل القارئ في متاهات، لا يعرف من أين بدأتَ والى أين ستنتهي، فيخرج منها القارئ أكثر جهلاً وأقل معرفة. 

اختر موضوعاَ واحد وتركَّز فيه، إبحث فيه من جميع جوانبه، حلٍّله.. تفحّص كلَّ دلالاته، إبحث عن الأسباب والنتائج. أشبعه تمحيصاً. وقدّمه للقارئ طبخة واحدة طيبة المذاق، تزيد معرفته وفهمه.

ليكن طبخة واحدة، وليس خليط طبخات لا يعلم إلا الله أولها وأخرها. 

  •  يا ولدي تمسّك بالحقيقية 

خذ مقولة أرسطو كدستور لك في حياتك الصحفيّة..

مقولته الخالدة التي قالها في معلّمه أفلاطون، عندما اختلف معه في الرأي والآراء: 

 أنا أحبُّ معلِّمي أفلاطون، ولكني أحب ُّ الحقيقة أكثر منه.

لتكن الحقيقة والصدق الصحفي وقول الحق، مشعلك التي تسير على هديّه.

إعلم أن الكذب حبله قصير، كما قال من سبقونا. تموت وتفنى كلّ الأشياء في هذه الدنيا وتبقى الحقيقة خالدة..

  •  يا ولدي قل للأعور أعور بعينه

ولا تخف من أحد.. حتى وأن كان صاحب جاه أو منصب..

تعلّم من خالتك عفيفة..

وقفت في شرفة بيتها، وصاحت بأعلى صوتها، وعلى مسمع من أهل الحارة والمارين في الطريق..

المختار أعمى.

فقال لها قائل من المارة: ولكن يا حاجَّة له عينين مثل  ضيات  السيارة.

فأجابت: أعمى، وستين أعمى، لأنه يمرُّ بأكوام الزبالة تملأ الطريق. ولا يحرّك ساكناً كي يمنع رميها أو يقوم بإزالتها.

فالأعمى - يا بني- من لا يرى العوَّج، ولا يحاوِّل تصليحه أو إزالته.

والتعامي أشدُّ بلوى من العمى.

فلا تتعامى عالج الأحداث وتعامل معها.. هذه وظيفتك ومسؤوليتك لصحفي..

وأنت معك سلاح قلمك وصوتك.. وهذا سلاح خطير إذا ما استعملته في موضعه. تعيش مرتاح الضمير، راضيّاً عن نفسك.

وتذكر ما قال البدوي لعمر في خطبته، وأمام الناس عندما صاح بالخليفة: أنت ترتدي ثوباً فيه كميّة من القماش، أكثر من أثوابنا..

وعندما عرف البدوي أن عمر لم يأخذ لثوبه من القماش أكثر من باقي المسلمين، قال موجِّهاً كلامه للخليفة وللناس: لو رأينا فيك إعوجاجاً لقوَّمناه بسيوفنا. 

وأنت - يا بنيَّ - قلمك هو سيفك.

والإعوجاج في هذه الحياة كثير.. 

والعمل الصحفي متعب ومرهق.. ويحتاج الى جهد كبير.

 وأن أردت أن تأكل من هذه الطبخة ، فخذ بنصائحي لعلَّها تعينك في الطريق الشاق، الذي تنوي السَّير فيه.

وأخيراً يا ولدي..

فعالم الصحافة بحر مليء بالأمواج والحوّامات والقراصنة، فإن أردت معاقرته والخوض فيه.. فكلّي أمنيات لك بكلّ الخير والتوفيق في طريقك.

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب