هرب المستوطنون من الحارة، فتحوَّلت أنظار الحاضرين نحو سمير الذي كان واقفاً على رجليه، بعيداً عن عربة المقعدين التي لم يشاهدوه بدونها.. كانت جزءا منه وكان لا يستطيع الخروج من بيته بدونها.
فتجمَّد الدم في عروق الحاضرين من هول الدهشة والذهول.. عندما استوعبت عيونهم مشهد معجزة وقوف سمير المقعد على رجليه..
كانت ليلة تحالفت فيها جيوش الظلام، مع جحافل سيول المطر على الأطباق على البلد.. وفشلت كل محاولات الأضواء الباهتة أن تطلَّ من سجنها المكبوت، فتقوقعت في داخل بيوتها.
سلَّم أهل البلد أنفسهم لنوم يحميهم من هجمات هذه الليلة المخيفة.. وتركوا لها الساحة خارج بيوتهم، لترقص رقصاتها المجنونة، على "حلِّ شعرها" الأسود.
"سمير..! يهود مستوطنون.. يحومون حول بيتنا.!"
وأُغلق الخط!
هي.. رنا.. صوتها.
ولكن من أين لها هذا الهاتف النقال الذي تتكلَّم منه، وقد كان هو السبب في مصادرته منها!؟ بعد أن "مسكها" والدها "بالجرم الشهود "، وهي تستخدمه للحديث معه.
ولكن لماذا توجهت إليه بالذات!؟ هاجمه سؤال تسلّل من بين تشابك حوّامات الغليان، التي بدأت تتصاعد في داخله، وهو "يسحسل" رجليه، بمساعدة يده.
"رجلان ملعونتان.. أنا وأنتما والزمن طويل!".. زجر رجليه الضعيفتين اللتين مالتا للاستسلام للوهن والضعف..
مسك بيده اليمنى متكئاً على حافة العربة البعيد عنه، التي كانت جاثمة بجانب السرير، متخذاً منها مرتكزاً ضغط عليه بكل قوته، ورمى بنفسه الى داخلها.
ضغط على زِرِّ تشغّيلها، وتقدَّم نحو الباب فتحه و "رمى" بنفسه تحت رحمة ضربات العاصفة الهوجاء و"عميّات" الظلام البهيم.
***
حاول أن يقتل حبَّه لرنا في مهده.. أن يدوسه تحت عجلات عربة الإعاقة التي تمنعه من "الصعود" إليها، ولكنه شعر أن إعاقته نفسها، تعجزه عن تنفيذ هذا الاغتيال!
سلّم الطريق لعربته، تاركاً لها مهمة البحث عن مسارها، بين كتل الوحل والحجارة، التي رمتها السيول في الشارع، و"للخَدَران" في رأسه، الذي سببته موجات الأفكار، التي تدقُّه بعنف مجنون.
" بكى بكاء مراً،عندما طافوا على طلاب دفعته الجامعية، يدعونهم للاشتراك في المظاهرة، للوقوف أمام جيش الاحتلال من أجل منعه، من الدخول الى حرم جامعة المدينة واعتقال عدد من طلابها.
رنا الوحيدة التي أقتربت منه وقالت له: "تستطيع ان تكون معنا." وإلى اليوم لم يجرؤ على سؤالها:
إن كانت تعني بكلمة "تستطيع " أنه مسموح له الاشتراك بالاعتصام أم أنه - حسب رأيّها - يملك القوّة على ذلك.!
"ربما شفقة عليه.!" كان يطرد هذه الجملة اللعينة، عندما تقترب من تفكيره.
ومشى يحثُّ عجلات عربته، كي تجد لها طريقاً تزيد فيها من سرعتها.. لأوَّل مرة يحاول أن يحوُّلها إلى طائرة تطير به الى هناك الى بيت رنا.
لقد توحَّد مع المطر.. أصبح قطعة منه.. وابتلعته الظلمات الحالكة الى جوفها، فكان لا يرى شيئا أمامه، إلا عندما تمزُّق صفحاتها سكاكين الرعد التي يغرسها فيها، فينتج عنها جروح تتدفَّق منها براكين من دماء بيضاء.
كان بيت رنا لا يبعد عن بيته، سوى بضع مئات من الأمتار.. قطعها مئات المرات.. اعتادت عربته على قطعها بزمن لا يزيد عن خمس دقائق..
ولكن في هذه المرّة، المسافة بينه وبين بيتها تطول وتطول حتى شعر أنّها تساوي طول الدهر.
أصبح على بُعد أمتار من البيت.. بصعوبة استطاعت عيناه، أن تفصل شكله عن الظلمات التي تطغى عليه، ولكن الأنوار التي صنعتها تفجّرات الرعد، كشفت عن أشباح سوداء تتحرك حوله.
اقترب أكثر منهم، فسمع أصوات تتهامس بلغة غريبة، تأكَّد أنها عبرية.
من النور الضئيل الذي كان يهب ثم ينطفئ، عرف أنهم يحاولون إشعال نار في شيئ في يدهم لا يستطيع أن يتبيَّنه، وأن هذه النار معدة لرميها داخل البيت لإحراقه.
لا بدَّ من العمل.. لا بدَّ من إنقاذ البيت وسكانه.. قبل فوات الأوان.
أخذ "يدَلِّي" يده من العربة الى الشارع، محاولاً التقاط حجارة من الطريق، كيّ يرميها باتجاههم، لعلَّه يخيفهم فيهربون، فانزلقت العربة على جانبها، ورمته يتخبط في أوحال الطريق.
ترك العربة.. ومثلما كان يفعل قبل ان يحصل عليها.. حبا باتجاه بيت جيران رنا..
مشى يعارك الوحل والحجارة والسيول الجارية في الشارع، إلى أن وصل الى بابه.. تناول حجراً بيده وأخذ يدق به عليه.
سرق نظرة باتجاه بيت رنا، فصادت عيناه ناراً مشتعلة في داخله، تظهر من شباك مفتوح في الطابق الأرضي، فتيقَّن أن المستوطنين استطاعوا رمي فتيل نار في داخله، بعد أن فتحوا إحدى النوافذ.
شعر بأمواج تجتاح جسمه بدأت من التراب الموحل الذي تحت قدميه، أخذت تعلو الى أن وصلت الى رأسه.
وإذا بقوة جارفة تسري في رجليه فتنتصبان رافعة جسمه الى أعلى..
لأول مرة منذ سنين طوال يستطيع الوقوف على قدميه، وتستقيم ساقاه لتثَّبت جسمه واقفاً.
بعد هول المفاجأة خطا خطوة الى الأمام تبعها خطوات.. أعادت الى ذاكرته عندما بدأ يخطو خطواته الأولى في بداية طفولته.
ولكن لم يكن هناك مجال لإضاعة الوقت.. كانت اشتعال النار يكبر في داخل البيت..
مشى بخطوات متسارعة الى أن وصل بيت جيرانهم.
أخذ يدق باب البيت بقوة.. يدق ويدق، وإذ بنور ينطلق من مصباح فوق الباب يلحق به صوت: "مين!؟".
" أنا سمير.. إفتحوا! إفتحوا الباب.. المستوطنون يحرقون دار جيرانكم!".
في لحظات كان البيت يعجُّ بالجيران وأهل الحارة والحارات الأخرى.. "مدججّين" بأسلحتهم، هذا يحمل عصى، وذاك يحمل طورية أو حجر..
ففرَّ المستوطنون هاربين من المكان، بعد أن شعروا بالخطر.
وعندما فتحوا الباب، وجدوا أن النار لم تطل إلا القليل من محتويات الطابق الأرضي. وأن رنا وإخوتها فقد لجأوا الى غرفة صغيرة، كي يحموا أنفسهم من الخطر الذي داهم بيتهم ولم تصلهم النار.
حضر أبو رنا وأمها.. لقد كانا يقضيان ليلتهما بجانب سرير ابنهما الصغير الذي كان يتعالج في مستشفى المدينة.
وحين بدأت حزم الظلام تنهزم هاربة أمام بزوغ خيوط الشمس، بانت عيون المئات من الجماهير التي تنادت لإنقاذ بيت رنا من شرِّ المستوطنين تتوجّه الى سمير، تهتف له وتصفِّق بصمت مهيب.. وهو يمشي باتجاه بوّابة البيت ليصل الى الشارع، ليتخذه طريقه الى الجامعة ليتحد مع الطلاب المعتصمين..
خرج صوت واحد من بين الحاضرين "سمير أنت البطل.. أنت أنقذت لأطفال وبيتهم.!"
كان صوت الحاجة خديجة "قابلة الولادة " في البلد.. شعرت أنها تولّده على يديها مرة أخرى.. استمرَّ بالمشيِّ أمام أعينهم.. وعندما مرَّ بجانب عربته لم يلتفت إليها..
لأوّل مرة يترك عربة إعاقته ويمشي..
عرعرة
إضافة تعقيب