لا شكّ في أن عتبة العنوان هي مدخل أساسيّ في فهم العمل الأدبيّ. واختيار الشاعر للعنوان يدلّ على أنّ الشاعر يريد أنّ يقدّم عمله الشعريّ من خلال هذه العتبة النصيّة. لذلك، لا بدّ أن يشير العنوان إلى البنيّة العميقة للنصّ، لأنّ الشاعر أراد له أن يكون مفتتح عمله الشعريّ، ومن ثمّ فالعنوان أشبه بالبوصلة التي يوظّفها الشاعر من أجل أن يوجّه القارئ إلى اتّجاه ما في فهمه للعمل الشعريّ، أي أن العنوان قد يحدّد الطريق الذي سيسلكه القارئ في القبض على المعنى المتولّد من النصّ، إلا أنه لا يقيّده باتّجاه معيّن. ولذلك، يمكننا اعتبار العنوان دالًّا على الطريق وليس على تضاريسها.
كثرت الدّراسات حول العنوان، وكثرت عنه التّعريفات: "العنوان للكتاب كالاسم للشّيء، به يعرف وبفضله يتداول، يشار به إليه، يدلّ به عليه" (الجزّار، 1998، ص15). و "العنوان تفسير لشيء ما وإنّه يحمل معنى هذا الشّيء وإنّ العنونة شيء بعينه تعدّ سمة هذا الشيء ومعناه ومقصده" (عويس، 1992، ص17). فإنّه يحمل معنى القصد والتّفسير، وهو نصّ بحدّ ذاته يفسّر النّصّ الكلّي ويشير إليه. كما أن موقع العنوان له أهميّة بالغة فهو "علامة لغويّة، تتموقع في واجهة النّصّ، تؤدّي مجموعة وظائف تخصّ أنطولوجيّة النّصّ ومحتواه" (حسين، 2007، ص77).
في مجموعته الشعريّة "بساط الروح" ينتقل الشاعر يحيى عطا الله إلى مورثه الأدبيّ، ذلك الموروث الذي يفتخر به ويجلّه. هذه النقلة هي سفر على بساط الريح/ الروح، وما يمثّله من رمزية متجذّرة في الذات العربيّة الطامحة إلى الكشف والحفر في الذات في بنيتها العميقة. فبساط الريح كنصّ غائب هو موتيف أساسيّ في الثقافة العربيّة، وفي قصص ليالي ألف ليلة وليلة، يحيل إلى المكان المتحرّك الذي يلبيّ رغبات ممتطيه. بينما في عنوان مجموعة الشاعر يحيى عطالله هو نصّ حاضر بدلالة روحيّة تستلهم القيم، وصوت الشاعر الذي يتماهى مع الصوت الجمعيّ للثقافة العربيّة من جهة، ويسافر من خلال بساط روحه إلى أهمّ مفاصل الحياة العربيّة، ليسمع صوته الرافض لكلّ مظاهر الخنوع، والداعي إلى النهوض والتقدّم والنأي عن كلّ أشكال التخلّف والضعف والهزيمة. ويستشرف الشاعر الواقع من خلال هذا البساط. كما يقول:
تعلّى بساطُ الروحِ بي حتى الذرى وسار إلى أفق ورا أفْق الورى (ص101)
هذا السمو بالشاعر الذي ارتفع به بساط الروح يخلق مسافة تفرض رؤيا واضحة لرسالته. والرسالة الحقيقيّة للشاعر راشحة، وعليها ومنها تتفرّع الرسائل الأخرى في جميع المجالات. كما أنّ آلية الجناس بين لفظي الريح والروح تؤكّد حالة الاستشراف التي تنتظم رؤيا الشاعر قلبًا وقالبًا.
إلى دولةِ الإنسانِ خذْني أيها الطريقُ وأَبْقِني بها مُعَمّرا (ص102)
فهذا الارتفاع من خلال بساط الريح هو انفصال عن الانتماءات الضيّقة التي تقف عقبة في وجه تقدّم الإنسان. لذلك، فإنّ السموّ يقتضي الانتماء إلى دولة الإنسان، دولة القيم التي يشترك فيها جميع بني البشر.
تبدأ المجموعة بقصيدة "حوّاء". وهي بمثابة خطاب كونيّ للأنثى التي يعتبرها الشاعر كلًّا وليس نصفًا. والشاعر إذ يفعل ذلك لا يفعل من باب مواكبة التيّار السائد في المجتمع، بل من بصيرته العميقة، ونظرته الروحيّة المتجذّرة.
" ما أنتِ نصفُ الدائرة
بل نقطةُ البيكارِ أنتِ
وأنتِ كلُّ الدائرة" (ص 17)
لقد وظّف الشاعر أسلوب النفي لدحض الفكرة السائدة والمكرورة عن المرأة، ويجعل من ضمير "أنت" محورًا شاملًا للمقطع أعلاه، ويتبدّى ذلك من خلال موضعة الضمير في أماكن مختلفة في السطر الشعريّ؛ فهو في السطر الأوّل في البداية، وفي الثاني في النهايةـ وفي الثالث في البداية، وكأنّ التوزيع الشكليّ يوحي بفكرة الشموليّة والدائريّة التي وُصفت بها جواء، فحواء كالدائرة، كلّ نقطة فيها تعتبر البداية. ومن الملاحظ أن حرف الراء يتكرّر في هذه القصيدة 19 مرّة؛ ليدلّل على ديمومة عطاء المرأة ومركزيّتها في الوجود. لذلك فإن الخطاب الموجّه إليها عنصر من عناصر شعريّة الشاعر.
كما يلاحظ أن عناوين المجموعة في مجملها قصيرة، وخاصّة في العنوان الفرعيّ مراياي، المكون من اثنتي عشرة قصيدة: فتاتي، أمتي، هزيمتي، شنفرتي، لغتي، شراعي، عقلي، منهلي، حرّيتي، بُعدي، كفاحي، سعادتي. وهذا يدلّ على ما في هذه القصائد من بوح وانكشاف، فشعرية البوح تحدّد عناصر الذات الشاعرة: اللغة والهوية والحريّة. والاتّكاء على ضمير المتكلّم يؤكّد علاقة البوح ما بين البساط كعمليّة انفصال عن الواقع من أجل استبصاره، كفعل خارجيّ ماديّ، وبين التأمّل في الذات من خلال المرآة كفعل جوّانيّ داخليّ.
ويغلب على قصائد الشاعر عطا الله الخطاب، والخطاب في معظم القصائد يقينيّ قطعيّ، وهذا يتماشى مع رسالة الشاعر المباشرة في المجال الذاتيّ، والوطنيّ، والقوميّ، والإنسانيّ. ومن مظاهر الدلالة القطعيّة في المجموعة: تعريف الجمال، والجمال عنده يتجاوز الشكل إلى المضمون، فيعبّر عنه بجملة مباشرة تقريريّة.
إنّ الجميلةَ لا تكونُ جميلةً إن لم يكن خلفَ الجمال جمالُ (ص27)
كما أن علاقته بالوطن هي علاقة متوترة بين الأنا والنحن، وفي كلّ منهما تعبير قطعيّ الدلالة؛ إذ تبوح الأنا بضعفها وامتعاضها من الواقع العربيّ المتشرذم، وفي الوقت نفسه تشمخ النحن بما تختزن من صور مضيئة من التراث العربيّ.
ومتى سيطربُني صهيلُ هويّتي ومتى سأفرحُ بانتمائي للعربْ (ص28)
فقد أحال الشاعر الطرب على الصهيل. وهو موتيف مركزيّ في الثقافة العربيّة يشير إلى الانتصار والشموخ الواضحين. والصهيل إعلان موقف، وإعلان ميلاد للفرح. كذلك يوظّف الشاعر ثنائيّة المحو والكتابة، الحضور والغياب، ليشير إلى عودة الشاعر وما يحيل إليه من رمزيّة لهذا الشعب. فالمحو مرتبط بسمته السلبيّة باللجوء والاغتراب، والشاعر يرغب في محو هذه التجربة القاسية من صفحة وجوده. ويلاحظ أن المحو ضدّ الكتابة بمعنى أن هدم السابق هو شرط أساسيّ لتحقيق اللاحق، كما أن الموت، كما هو عنده، شرط للحياة. ويبدو في ثتائية المحو والكتابة سيطرة ضمير المتكلّم، وما يبثّ من دلالات ذاتيّة، وفي ثنائيّة الموت والحياة سيطرة صيغة "النحن" في تضادّ ثنائيّ يجسّده لفظا "السمّ، والشفاء".
متى أمحو لجوئي واغترابي وأكتبُ عودتي نحوَ الديارِ (ص29)
نموتُ لكي نعيشَ وما وجدْنا بغيرِ السُّمِّ ترياقَ الشفاءِ (ص34)
تمتح تجربة الشاعر يحيى عطالله من معين التراث، ويكاد القارئ يلمس صدى لأصوات الشعراء الجاهليّين في شعره، وما هذا التناصّ الأدبيّ إلا ردّ الحاضر إلى الماضي، لينعكس الماضي ببهائة والحاضر بكلّ تشوهاته:
أنا شنفرى هذا الزمانِ بِميْلِهِ "فإنّي إلى قومٍ سواكُم" لأَسْيَرُ
أنا لستُ دونيًّا ففي السحْبِ هامتي ولكنْ بماذا في العروبة أفخرُ (ص71)
وإذا كان التناصّ علاقة نصّ حاضر بنصّ غائب مع انزياح في المعنى، فإنّ الشاعر يتمثّل هذه العلاقة بعدّة مستويات. أوّل هذه المستويات الاختيار، إذ إنّ اختيار شخصيّة الشنفرى دون غيرها من الشعراء في حدّ ذاته يحمل دلالة قبليّة، تحيل إلى الابتعاد عن الواقع. إلا أنّ ابتعاد الشنفرى كان نقدًا اجتماعيًّا، بينما ابتعاد الشاعر نقد للواقع الجمعيّ الذي يصفه، وهو بذلك يضيف طبقة من الدلالة على النصّ الأصليّ. إنّ إقرار الشاعر بتماهيه مع شخصيّة الشنفرى في إعلانه "أنا شنفرى هذا الزمان" فإنّه يوسّع من حدود رؤيته، ليشمل الزمان وهو الوعاء الأكثر شموليّة من المكان. ذلك أنّ الشنفرى في لاميّته ابتعد أولًا عن المكان، وفي هذا المستوى من التوسّع يصبح شنفرى هذا الزمان شاهدًا على ميله. كما أنّ الانفصال عند الشنفرى ذاتيّ، بينما عند الشاعر جمعيّ بإحالته على موقفه الناقد للواقع العربيّ المتردّي.
إن نهاية العديد من قصائد الشاعر يحيى عطا الله حكميّة، وهي تتوافق مع الدلالة القطعيّة التي يتبناها الشاعر في رسالته الواضحة من جهة، وفي شكل القصيدة العموديّ الذي يتعصّب له الشاعر من جهة أخرى.
وللنّهاية وقعها الخاصّ لأنها المحطّة الأخيرة في عمليّة تجسيد الكلام في النصّ الأدبيّ. وهي آخر ما يعلق بالذهن وما تراها العين. إنها لحظة الانفصال بين عالم النصّ وعالم المتلقي. في هذا السياق، التفت النقد الأدبيّ القديم إلى أهميّة النهاية وحيويّتها في النصّ الأدبيّ. يقول ابن رشيق:"وخاتمة الكلام أبقى في السمع، وألصق في النفس، لقرب العهد بها، فإن حسنت حسن، وإن قبحت قبح، والأعمال بخواتيمها" (القيرواني، ج1، 161:2006. وانظر عزام، د.ت، ص 151، ابن منظور، 1992، مادة نهي، ختم). إذًا، فالخاتمة هي من أهمّ عناصر تماسك النصّ الأدبيّ، وقد أوجب النقاد والبلاغيّون فيها، الجودة، والإشعار بالختام:"وأما الانتهاء فهو قاعدة القصيدة، وآخر ما يبقى منها في الأسماع، وسبيله أن يكون محكمًا: لا تمكن الزيادة عليه، ولا يأتي بعده أحسن منه، وإن كان أول الشعر مفتاحًا له وجب أن يكون الآخر قفلًا عليه". (القيرواني، ج1، 2006: 198).
نلاحظ ذلك في نظرة الشاعر إلى الزمان، إذ يرتبط مفهومه للزمان بالحراكيّة والتطّور، على اعتبار أنّ الزمان ظرف يملأه الإنسان بحركة التطوّر والإبداع. وهي حركة نهريّة تتجاوز من يعاديها من جهة، وهي قانون كونيّ مشروط بتقبّل التطوّر أو عدمه، كما هو ملاحظ من البيت الثاني، إذ التغافل نتيجته السقوط، والتفرّس مآله الصعود، ينعكس ها القانون في الترتيب الهندسيّ لبنية البيت الشعريّ.
إن الزمانَ يعادي من يعاندُه لكنْ يصافي الذي جاراه مطّردا
فمن تغافل عن طبع الزمان هوى ومن تفرّس في أطباعه صعَدا (ص96)
يمكن القول كذلك من خلال نظرة كليّة عبى مجموعة الشاعر إنّ مبنى قصائده، في مجملها، يخضع للنسق الثلاثيّ: خطاب يحدّد فيها مباشرة المرسل إليه، ثمّ عرض للموضوعة، ثم تلخيص مشفوع بحكمة.
نلاحظ كذلك أن الصورة الكلاسيكيّة ترشح تلميحًا تارة وتصريحًا تارة أخرى في تلافيف شعره مثل قوله في قصيدة "فاتنتي"
إلى جمالكِ حجَّ القلبُ واتَّبعا دينَ الجمالِ وطافَ المُهْتدي وسَعَى
لمّا رأيتُكِ رقَّ العظمُ في جسدي ورقّتِ الروحُ حتى أصبحت قِطعا (ص19)
فموتيف الحجّ والطواف وربطهما بالغزل صورة مطروقة في أبيات الغزل العربيّ، كذلك صورة الضعف والرقة التي تعتري المحبّ. هذا الأمر يدلّ على تذويت الشاعر لموضوعات الشعر الكلاسيكيّ، وبثّها من جديد شكلًا ومضمونًا. إضافة إلى المعجم الذي ينحو في بعضة إلى التوظيف بدلالته الكلاسيكيّة. مثل شرود الإبل ص30، جلاميد، ص36، الصوارم ص41، ساجم ص42، القشاعم ص43، الزعانف ص43، هياثم ص43.
في قصيدته "نار البرودة " يجمع الشاعر بين ضدين فيما يعرف بالإرداف الخلفيّ، إذ يزاوج بين ضدين في طبعهما. ويسعى الشاعر إلى ثنائيّة المحو والإثبات، فنراه يدعو إلى المحو من أجل بعث جديد. والإحالة إلى الامتلاء في البيتين التاليين هو دلالة على رغبة الشاعر في محو ما هو قائم راهن، واستبداله بما هو منشود ومرتجى، سواء كان هذا الخطاب للأنثى عينيًّا، أو للذات الأنثويّة المتجدّدة في حركة الكون مجازًا.
وهل يظلُّ زماني منكِ ممتلئًا وهلْ يظلُّ مكاني منكِ مُنْقطعا(ص20)
أراكِ أنا ملءَ الوجودِ وأنت لا تَرينَ وجودي وهْو فيكِ ملصّقُ (ص23)
كما أنه يعتبر الولادة من جديد متحقّقة إن سبقها محو أكيد، وهي فكرة فلسفيّة وثقافيّة وشعبيّة في النظر إلى الأشياء، وتقييم حركتها وتأثيرها في الوجود.
لن يَصْلحَ الحالُ إن لم يأت زلزالُ يهدِمُ حالًا ليُبنى بعدَه حالُ (ص99)
فضلًا عن ذلك يتكرّر حرف الحاء في البيت أعلاه بشكل لافت، وهو يرمز صوتيًّا إلى الحياة، والحرارة، والحريق والتحوّل.
تتجلّى هذه الثنائية ثنائية المحو والإثبات بوضوح في الطباق بين الموت والحياة، بين الحضور والغياب.
"أليس الزمانُ
يموت برفقةِ أهلِ السباتِ
ويحيا عزيزَ الحضور
برفقة أهل الحياة".(ص120-121)
ثنائيّة أخرى يحيل إليها الشاعر في مجموعته الشعريّة، وهي الثبات في حبّ اللغة والتغيّر في حركة الكون. هذه الثنائيّة مفهوم أصيل يؤكّد حركة التطوّر في نظرة الشاعر إلى اللغة، فاللغة كائن حيّ يتغيّر تجري عليه سنّة الحركة، لأّن الثبات فيما هو زائل محال.
فليس كتابُ الله سِجنُ حروفها وما هي مثلَ الله لا تتغيّر (ص73)
تغيّر وجهُ الدهر ألفَ تغيّر ووجه الوصايا العشر لا يتغيّر (ص80)
يمكن اعتبار المتنبي الأب الروحيّ للشاعر، فقد نظم قصيدته قمّة القمم على بحر الطويل مشاكلة لقصيدة المتنبي ومحاورة إياها، وإذا كانت القصيدة الأمّ مكونة من 46 بيتًا فإن قصيدة الشاعر مكوّنة من 48 بيتًا، وما هذه الزيادة إلا شعور بغمط حقّ المتنبي الذي تميزّت سيرته بجانبين: الذاتيّ والقوميّ. ومن كليهما يستقي الشاعر شموخه وأنفته. وهي موضوعة تنتظم شعريّة يحيى عطالله فهو شامخ في انتمائه وفي فخره وفي غزله أيضًا. وفي ظنّي أن المتنبي هو مرآة أخرى تنضاف إلى مرايا الشاعر الذاتيّة في هذه المجموعة. ويعتبره الشاعر نموذج أعلى في الشعر. لذلك، يمكن اعتبار هذا التناصّ الأدبيّ في هذه القصيدة إعلان موقف من الشاعر تجاه واقعه المأزوم.
معانيك فوق الدهر لا تحت نابه وأنت كما دهرٌ على الدهر جاثمُ
أبا الطيب استنهضتَ كلَّ عزائمي لأُوفيكَ لكني لحقِّك هاضمُ
بقدري أنا لا أنتَ أُجزي لأنّه على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ (ص41-48).
ممّا لا شكّ فيه أنّ الشاعر يحيى عطالله مفتون بالقصيدة العموديّة، والميتا شعريّة تتجلّى عنده في قصيدة دعني كما أحب أغني، ليبسط عدم تخليه عن هذا الشكل. والملاحظ أنّ الشاعر نظم جلّ قصائده على بحر الطويل والكامل وبحور أخرى. لكنّ اللافت في الأمر أن البحر الطويل ميّز أغراض الشعر الكلاسيكيّ والكامل شاع وانتشر بين شعراء التفعيلة، وهو إذ ينظم قصائده على هذا المنوال، يحاول أن يمزج بين الماضي والحاضر. والشاعر يبشّر بالشكل وعاء يشمل المضمون. فالشاعر منشغل في العمليّة الشعريّة نفسها (فخر الدين2021، ص 139).
كفى وقوفًا على أطلالِك الخُرُبِ وهدرَ قلبِكَ في حزن وفي غضب (ص97)
فالوقوف على الأطلال ينتفي في هذا البيت بمفهومه الكلاسيكيّ، وتصبح الذات مكانًا كالطلل يقف عليه الشاعر متبصّرًا بعواقب هذا الوقوف المتمثّل بهدر القلب حزنًا، وهو إذ يفعل ذلك يتحاور مع تجارب كثيرة في الشعر العربيّ وخاصّة العبّاسي منه، الذي طرح العديد من الأسئلة الذاتيّة والتأمليّة، والشكليّة محاولًا تبيان وظيفة الطلل كمكوّن رئيسيّ في مدونة الشعر العربيّ. يمكن هنا، أن نحيل إلى بيت الشاعر أبي تمّام:
لا تمنعنِّي وقفةً أشفي بها داءَ الفراق فإنّها ماعونُ (أبو تمام،2007، ص169)
يلجأ الشاعر في تبيان موقفه المندغم مع القصيدة العموديّة إلى مفهوم التضفير والتبشير وما يجمع بينهما هو الربط والتأليف حقيقة ومجازًا.
أُقيمُ عمودَ الشعرِ من عظمِ أضلعي وأنسجُ من روحي بيوتًا وأَضفِرُ
وأبقى ولو لم يبق غيري مؤمن بدين عمود الشعر وحدي أبشّرُ (ص75-76)
والتضفير هو فكر بنيويّ يسعى الشاعر فكرة النسج الشعريّ في جسد القصيدة، كما ذهب إلى ذلك رولان بارت، وإلى ملء البيت حقيقة ومجازًا بالرسالة التي يحملها عربيًّا وإنسانيًّا. وفي الأبيات التالية تـأكيد على حالة التماهي بين الذات الشاعرة وبين النموذج الأبويّ للقصيدة العربيّة.
من تراثي نسجْتُ مذهبَ شعري وتفرَّدتُ عن سوايَ بلوْني (ص58)
لعمود القريض سحرٌ رفيفٌ وجمالٌ يتيهُ تيهَ الفَتْنِ (ص59)
كلُّ صدرٍ في البيتِ جملةُ رقصٍ كلُّ عجزٍ في البيتِ وصلةُ مَجْنِ (ص59)
أعلّي شراعي بالقوافي مُنجَّدا وفي أبحرِ الوزن الخليليِ أُبحرُ (ص75)
لكنّنا نستطيع من خلال مقطع آخر نظمه الشاعر في قصيدة التفعيلة أن نلاحظ توتّرًا ما بين الخطاب العامّ المعلن من القصيدة الكلاسيكيّة، والخطاب العميق في بنية قصيدة التفعيلة على قلّتها في المجموعة، لنخلص إلى أنّ التغيير في المضمون يتبعه بالضرورة تغيير في الشكل. ففي قصيدة "غريب" على بحر الكامل يقول الشاعر:
"شبيهُهُم في كلِّ شيء
غيرَ أني
لا أفكِّرُ مثلَهم" (ص109).
نلاحظ كيف أن الشاعر على مستوى الأنا يحمل بذرة التغير، ولن يتأتى ذلك بالمشابهة بل بالمغايرة. وقد فعل ذلك على مستوى الشكل الذي لا ينظم فيه كثيرًا.
يمكن لمن يستبطن مجموعة الشاعر يحيى عطالله"بساط الروح" أن يستقر في وجدانه وعقله أنّ الشاعر حلّق فوق بساط روحه في رحلة تنكشف فيها الذات الشاعرة، فتبثّ شعريّة جزلة شامخة من خلال محاور موضوعاتيّة كبرى من جهة، ومن خلال آليات أسلوبيّة وبنائيّة أشرنا إليها آنفًا من جهة أخرى.
دكتور حسين حمزة
باحث في الأدب العربيّ الحديث
إضافة تعقيب