*الحرب على "روح امريكا" ليست حرب جديدة وترامب جلب اليها رسالة قوية. وقد اوضح ترامب بأن فوز الليبراليين في احرب الحضارات لم يقض على المحافظين، بل بالعكس*
مؤتمر الحزب هو بشكل عام حدث احتفالي، سار ومليء بالبالونات الزرقاء والحمراء. هكذا تكون الحال عندما يقومون باطلاق حملة انتخابات رئاسية في الولايات المتحدة. ولكن في العام 1992، لمدة نصف ساعة، تحول الاستاد في بوسطن الى منصة لنبوءات غضب مقلقة ومهددة من ناحية محافظين كثيرين. "نحن في ذروة حرب دينية على روح امريكا"، قال بات بيوكنين. "هذه حرب حضارات ستحسم كيف ستبدو هذه الأمة، بالضبط مثل الحرب الباردة. هذه حرب على روح امريكا".
قيادة الحزب الجمهوري لم ترغب على الاطلاق في أن يلقي بيوكنين خطاب في ذاك المؤتمر، حيث أنه تجاوز الارث الطويل عندما تنافس في الانتخابات التمهيدية ضد رئيس يتولى الحكم من حزبه. لذلك، جورج بوش الأب رفض رؤيته. بيد أن رجال المؤسسة ايضا تفاجأوا من اكتشاف أن بيوكنين حصل على ثلاثة ملايين صوت من اوساط مصوتين جمهوريين.
يمينيون عقلانيون في المدن الكبرى لم يرغبوا في وجود أي علاقة مع هذا الشخص أو مع مؤيديه الذين حصلوا على وصف "الوية بيوكنين". ولكن نطاقهم الواسع والحماس الذي عبروا عنه حولهم الى كتلة انتخابية صغيرة، لكن يمكنها أن تحسم في الانتخابات. عندما خسر بوش في تشرين الثاني، الكثيرون كانوا يأملون أن تختفي الالوية الغاضبة لبيوكنين معه.
خطاب بيوكنين كان خطابا تاريخيا لأنه أدخل الى القاموس السياسي الامريكي مصطلح "حرب حضارات". وكشخص وطني وانفصالي ديني، قدر بيوكنين بشكل صحيح أن النظام السياسي لا يعكس المزاج على الارض. بعد الحرب الباردة ومع اجندة عالمية جديدة ووفرة عالية، فإن الحزبين في واشنطن استمرا في مناقشة نقاشات الماضي. الضرائب، التأمين الصحي والعلاقات الخارجية بقيت في مركز خطابات السياسيين. فعليا في ذلك الحين الامريكيون كانوا قلقين جدا من التغييرات المتسارعة التي تمر فيها الدولة.
بعد مرور 23 سنة، دونالد ترامب اعلن عن ترشحه للبيت الابيض واطلق حملة شعبوية مندفعة جدا. فقد تبنى رسالة حرب الحضارات التي صاغها بيوكنين وحولها الى سلاح فعال في طريقه الى السيطرة، أولا على الحزب الجمهوري وبعد ذلك على البيت الابيض. ومنذ ذلك الحين عمل بشكل ناجع على تكتيل تحالف جمهوري واسع حوله، أكثر بأضعاف من تحالف بيوكنين. ولكن بعد اربع سنوات هو يقدم الاثبات الاول على أن هذا التحالف يمكن أن يستمر.
بين الثلاثة ملايين مؤيد لبيوكنين وبين التحالف الواسع لترامب كانت هناك علامات بارزة لم تحصل على الاهتمام الكافي. احتجاج "حفل الشاي" الذي برز على الفور بعد فوز الرئيس الاسود الاول (براك اوباما) كان العنوان الموجود على الحائط. صحيح أن المتحدثين باسم "حفل الشاي" في وسائل الاعلام حاولوا في معظمهم أن يظهروا مثل جمهوريين تقليديين يعارضون فرض الضرائب وتقديم تأمين صحي للجميع، ولكن الحقيقة جاءت من الجمهور الذي اطلق نداءات ضد "الرئيس المسلم" وضد المهاجرين وضد القيم متعددة الحضارات التي مثلها.
ذكاء ترامب كان في استخدام البنية التنظيمية لـ "حفل الشاي"، لكن أن يعتبرها منصة قفز فقط. شطر تلو شطر ضم اليه اجنحة من الحزب الجمهوري وجذب مصوتين جدد. المعسكر القومي المتطرف والانفصالي القديم، لكن غير الكبير بما فيه الكفاية، تكتل مع كتل اكثر أدبا، مثل المتدينين الافنغلستيين، ومعهم جذب ترامب حلفاء اعتبروا حتى ذلك الحين ديمقراطيين.
حتى هو نفسه تفاجأ في اكتشافه الى أي درجة كانت رسالته فعالة في "الطوق الذي اصابه الصدأ" في شمال – وسط الولايات المتحدة. ولايات مثل بنسلفانيا وميتشيغان ووسكنسون كانت معاقل للديمقراطية بفضل نقابات العمال. ولكن فقدان اماكن العمل بدون أي مساعدة من الحزب الديمقراطي، تركتها غاضبة ويائسة. ترامب سحب منهم ما يكفي في 2016 من اجل الفوز في الانتخابات. وفي العام 2020 تم الاثبات بأن الامر يتعلق بتوجه، الطوق الصديء هو سباق مفتوح من الآن فصاعدا.
خسارة تلو خسارة
اذا خسر ترامب البيت الابيض، وبشكل خاص اذا فاز، فيبدو أن الرئيس الشعبوي اعاد رسم حدود السياسة الامريكية للمستقبل المنظور. الرئيس بوش الاب وبوش الابن والرئيس كلينتون وزوجته هيلاري والرئيس اوباما كانوا سياسيين مختلفين، لكنهم جميعا حاولوا طرح رد على تلك الاسئلة القديمة. ترامب فاز في العام 2016 وأحدث تغيير كبير بمجرد حقيقة أنه وضع للنقاش اسئلة جديدة. وقد واصل التحدث عن الضرائب من اجل الحفاظ على يمينيين تقليديين، لكن لب الترامبية مغروس في معارضته للعالم المتغير، من الاقتصاد العالمي وحتى لغة الرصانة السياسية، هل يجب استيعاب مهاجرين وتعدد الحضارات؟ هل يجب على امريكا التخلي عن مكانة "شرطي العالم"؟ هل عولمة الحضارات والعولمة الاقتصادية هي ظاهرة ايجابية أم ظاهرة سلبية؟ الحملة الانتخابية الحالية قدمت اجابة مدوية على كل ذلك دون صلة بهوية الفائز. اسئلة حضارات واسئلة تتعلق بالهوية تحولت الى مركز حملة ترامب، وفي المقابل، تحولت الى جزء رئيسي في النقاش السياسي. بالنسبة للجمهوريين هذا يؤسس تحالف جديد، اكثر بياضا واكثر غضبا واكثر ذكورية واكثر قلقا فيما يتعلق بالمستقبل.
حسب استطلاع لموقع "بوليتيكا" ومعهد "مورنينغ كونسولت"، نشر قبل اسبوعين تقريبا فإن 69 في المئة من الامريكيين يشعرون بأن "امريكا تسير في الاتجاه غير الصحيح". لذلك، ليس من المفاجيء أن الشعبوية هي ليست ظاهرة جمهورية فقط. ليبراليون مثل السناتور من فيرموند، بيرني ساندرز. والسناتورة من مسوشتيس اليزابيث بيرن، أخذوا القوة من هذا الخوف.
صحيح أنهم خسروا في الانتخابات التمهيدية لصالح جو بايدن، لكنهم ايضا من غير المتوقع أن يختفوا في المستقبل المنظور. وشخصيات مثل عضوة الكونغرس من نيويورك، الكسندريا اوكسيو – كورتز، يشيرون الى مستقبل محتمل لهذه الحركة. لأن احتلال الحزب هو مسألة اخرى. في حين أن الشعبويين في الطرفين يحصلون على القوة من الخوف ومن الغضب من رؤية التغييرات، فإن المسافة بينهم كبيرة. فيرن وساندرز بالتحديد يباركان اجراء تغييرات اجتماعية، والهجرة وشبكة امان اجتماعية. في حين أن البنوك واصحاب رؤوس الاموال تم اعتبارهم أعداء يجب الرقابة عليهم وكسرهم واجتثاثهم.
الترامبية حددت أعداء آخرين. اكثر ضعفا وسهولة لمحاربتهم مثل مهاجرين غير قانونيين واولادهم الذين تم فصلهم على حدود المكسيك؛ فقراء واقليات يعتمدون على شبكة الامان من الدولة؛ الانسحاب من اتفاقات دولية مثلما اثبتوا في هذه الاثناء بافعالهم بخصوص موضوع المناخ والمشروع النووي الايراني.
لقد تم التحدث كثيرا وسيتم التحدث ايضا عن الآمال الفارغة الليبرالية بأن الترامبية ستختفي من تلقاء ذاتها، وأن الجمهوريين سيعودون ليكونوا حزب يمين ينشغل بمواضيع اقتصادية وامنية. اليوم توجد اغلبية في الحزب الجمهوري تنشغل اكثر في المحافظة الاجتماعية، ومعنية اكثر من أي شيء فيما يتعلق بتفشي قيم ليبرالية تهز النظام القائم، اجتماعيا ومن ناحية الجنس والعرق. الدليل الاساسي على ذلك ظهر في السابق في الانتخابات لمجلس الشيوخ ومجلس النواب، حيث هناك الترامبية حققت نجاح اكبر من النجاح الذي حققه الرئيس.
ترامب دخل الى السباق في حزيران 2015، قبل اسبوع فقط على سماح المحكمة العليا الامريكية بزواج المثليين. في حملته اوضح ترامب بأن فوز الليبراليين في حرب الحضارات لم ينجح في القضاء على المحافظين، بل بالعكس، هم فقط زادوا ونموا واصبحوا اكثر غضبا.
سواء غادر ترامب البيت الابيض في 2020 أو أنه سيغادره في 2024 فإن الترامبيين يوجدون هنا من اجل أن يبقوا. والسؤال الذي بقي مفتوحا هو من الذي سيقود قريبا التركة.
هآرتس- 6/11/2020
إضافة تعقيب