news-details

إرهابي نيوزلندا: الإختلال والإختلال المقابل

//حسن مصاروة

بعد المجزرة البشعة التي إرتكبها إرهابي يتبنى ايديولوجيا التفوق العرقي الأبيض، والمسيحية-السياسية العنصرية المعادية للمسلمين، المرتكزة على فكر إنتقامي مُستل من غياهب التاريخ ضد مصلين آمنين في مسجدين في نيوزلندا، كان من ردات الفعل التي طغت على النقاش الغاضب في العالم العربي والاسلامي، إبراز الغضب والإشمئزاز من إزدواجية المعايير الغربية في التعامل مع هذا النوع من الجرائم، حيث تسارع وسائل الاعلام بوصم الفاعل بالارهاب إذا كان من خلفية مُسلمة، ولا تفعل هذا إذا كان ينتمي إلى مجموعة دينية أخرى، بل تحاول وصمه "بالإختلال العقلي".

هذا غضب مبرر ومفهوم. فوسائل الاعلام الغربية، والرأي العام الغربي تجاه هذه الأحداث، هو نتاج منظومة إنتاج معرفة مرسخة ومتجذرة بُنيت على الاسلاموفبيا والاستشراق والمركزية الاوربية لسنوات طويلة، ونقاشها وتحدي وإحراج بُنيتها هو الأمر الطبيعي في حالة مثل هذه. لكن الحذر واجب هنا ايضًا من أصوات تقوم بهذه المقابلة بين الإرهاب والإختلال العقلي على أنهما صفتان متعاكستان لا تجتمعان، لمآرب أيديولوجية أخرى.

 

السفاح الذي قام بهذا العمل الوحشي، هو بالفعل مُختل عقليًا، وكونه وجد لعمله هذا مبررات أيديولوجية يتشارك فيها مع مجموعة من الناس -في هذه الحالة الأصولية المسيحية- مهما بلغ تعدادها، لا ينفي عنه ذلك. والأيدلوجيا الدموية التي تبرر قتل الأبرياء باسم الله، مرتكزة على الدين، أي دين، وعلى أساطير التاريخ ومعاركه الغابرة، ما هي إلا إختلال عقلي جمعي!
يقول أحد معاتيه الاسلامويين المشاهير بعد الحادثة معلقًا على رسم السفاح على سلاحه ما يشير إلى معارك تاريخية بين المسلمين والمسيحيين، "إنه ليس مختلًا عقليًا بل قارئ جيد للتاريخ وحافظ لجميع ما حذفناه من مناهجنا"-هذا هو نفي الإختلال العقلي عن المجرم بهدف تبرير إختلال عقلي من الجهة المقابلة. نحن نعرف التاريخ أيضًا، لكن ما يريده هذا الأصولي وأمثاله هو أن نستل سيوفنا ونريق الدماء ونبني تمترساتنا السياسية والايديولوجية  على غبار معارك القرون الغابرة. إنه الاختلال والاختلال المقابل على شكل وعي تاريخي مُفوت يستحضر أساطير التاريخ ليوظفها في خلق إصطفافات أصولية، دينية وحضارية موهومة ومشوهة.

من قُتل في نيوزلندا يوم الجمعة، هُم ، قبل كل شيء، مواطنون نيوزلنديون، ينتمون لأقلية دينية معرضة للتحريض في ظل ظروف "تاريخية" عينية. الشعب النيوزلندي وحكومته تعاملوا مع الحادث على أنه عملية إرهابية تمس بكل شعب نيوزلندا، تعاطف شعبي حاضن لا يتعامل مع الضحايا على أنهم فقط ينتمون إلى مجموعة دينية معينة، بل على أساس المواطنة المشتركة في مشهد رائع ومثير للمشاعر في زمن الهويات والإنتماءات الدينية والطائفية والإثنية الضيقة.

إن أي كلام عن "حرب على الإسلام"، أو شعارات على غرار "الاسلام سوف ينتصر" كرد على هذه المجزرة هو لعب في ملعب هذا الُمختل الذي قام بالجريمة البشعة، هو كلام يخرج من أرضية فكرية مشتركة مع هذا السفاح ومبرراته الايديولوجية، تدّعي أن هناك صراع وحرب أزلية بين الاسلام كثقافة ودين وحضارة متجانسة وبين الغرب والمسيحية كثقافة ودين وحضارة متجانسة. هذه المُنطلقات الفكرية المختلة التي يتكلم منها البعض هي بشكل أو بآخر إعطاء مبرر لهذه الجريمة. فما دام أن هؤلاء المسلمين الذين قُتلوا في المسجدين هم "حملة ألوية الإسلام" في الغرب كجزء من حرب مستمرة منذ أيام صلاح الدين الايوبي مع "الصليبيين"، في سبيل عزة الإسلام ونصره، كما يصور بعض المختلين بيننا، يُصبح قتالهم أمر شرعي في عُرف المختلين من الجانب الآخر.

إن العداء للمسلمين في أوروبا يحمل أسبابه التاريخية-الاقتصادية- السياسية في ظل تصاعد اليمين الفاشي في الكثير من الدول الاوروبية على أرضية أزمات إقتصادية خانقة، بالتوازي مع حملة أمريكية مستمرة منذ سنوات التسعين لخلق "شيطان" جديد يبرر طغيانها في الشرق والغرب. المسلمون في نيوزلندا وأوروبا لم يتبرعوا ليكونوا محاربين في حربكم الموهومة ، ولا أن يكونوا جزءًا من "صراع الحضارات" أمريكية الابتكار، على يد منظر المخابرات الامريكية صامويل هنتنجتون. هم في الغالب الأعم مواطنون يسعون لأن يكونوا متساوين وأن يندمجوا في مجتمعاتهم وأن يمارسوا شعائرهم الدينية بحرية. إن أي مُطلع على فقه الأقليات المُسلمة في أوروبا وفي الدول الاسكندنافية خاصة، في تياره السائد، يعلم جيدًا أن موضوعه الأساس هو ملاءمة الالتزام بالشرائع الدينية مع الإندماج في المُجتمع وإيجاد أفضل الصيغ التي يستطيع فيها "المُسلم" أن يكون "مواطنًا" كاملًا في هذه الدول. فليترك معاتيه "نصر وعزة الإسلام في الغرب الكافر" هؤلاء البشر يعيشون بهدوء، فيكفيهم ما يواجهونه من اسلاموفوبيا وعنصرية شعبوية متصاعدة بشكل مُرعب، وليسوا بحاجة أن يحملوا فوق ذلك عبء معارككم الوهمية المٌختلة.

أما هذا المُختل الذي قام بهذا العمل، فلدينا هنا في وطننا العربي نُسخ معممة منه ولو على أساس موروث ديني آخر. ولا يمُكن أن تغيب عن ذاكرتنا في هذه السنوات الدموية التي مرت على العالم العربي المساجد التي فُجرت وذبح روادها في العراق وسوريا ومصر على أيدي هذه النُسخ الاسلاموية من سفاح نيوزلندا. الوفاء لشهداء مجزرة نيوزلندا هو القطيعة الكاملة والحرب المُعلنة وضرب كل أساس ايديولوجي يُنتج هذا التطرف الدموي، مهما إختلفت الثقافة أو الموروث الديني، لا تعزيره وتغذيته بالتمترس وراء جدران ثقافية ودينية وحضارية موهومة.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب