الآن وقد حطّت المفاوضات الانتخابية بين الأحزاب الفاعلة على ساحة الجماهير العربية رحالها، سيكون من اللائق ان ننقل نقاشنا من الشكل الى الجوهر، ومن ملابسات المفاوضات الى المضامين السياسية والانتماءات الايديولوجية التي حسمت خيارات الاصطفاف وبناء التحالفات التي تمت. إن مواصلة جر الجماهير العربية وإغراقها في تفاصيل المفاوضات والمناورات التفاوضية لبعض حديثي العهد بالسياسة القطرية (بضم القاف وليس بفتحها وبتسكين الطاء وليس بفتحها)، يهدف الى إخفاء الابعاد السياسية الحقيقية والطابع الاستراتيجي للتحالف الذي قامت الحركة الاسلامية برئاسة د. منصور عباس بجرّ قائمة "التجمع" الى داخله، بديلا واستباقا لاستنفاد الفرص التي كانت حاضرة للحفاظ على القائمة المشتركة، وربما منعاً لإعادة بناء القائمة المشتركة في صيغتها التي قامت على أساسها قبل أربع سنوات، وهو الاقتراح الذي طرحته الجبهة على طول طريق المفاوضات الشائكة. إن هذا يجعل قائمة التجمع برئاسة د. مطانس شحادة للأسف، شريكا كاملا مع رئيس القائمة الاسلامية منصور عباس في تفكيك القائمة المشتركة التي اتسعت للجميع وكان يفترض ان تتسع للجميع في هذه المرة أيضا.
عند تفكيك القائمة المشتركة: الصوت كان صوت أحمد لكن اليدين يدا منصور (عباس)
نعم يجب ان يكون واضحا للناس، أنه عند تفكيك القائمة المشتركة في شباط 2019 كان "الصوت صوت يعقوب ولكن اليدين يدا عيسو".. وبعيدا عن المناكفات الانتخابية، فإن يدي منصور عباس وليس صوت أحمد الطيبي هي التي تتحمل المسؤولية عن تفكيك القائمة المشتركة والزج بمناورات ترفعت عن أن تأتي بمثلها قيادات سبقته الى قيادة القائمة العربية الموحدة والحركة الاسلامية، حظيت باحترام الآخرين، وحتى عندما اختلفنا معها، لم نتردد في ان نشيد بنهجها المسؤول والدمث والمنسجم مع روح العمل الجماعي واليد الممدودة عادة.
في ساعة متأخرة من الفاتح من شباط 2019 كنت في طريق عودتي من المهرجان الانتخابي الافتتاحي الجبار الذي أطلقته الجبهة في مدينة سخنين حيث اختلط دفء سخنين وكرَمُها السياسي والانساني بأمطارها الغزيرة ورعودها الهادرة وبحر من زخم الشيوعيين والجبهويين المتحفزين لإنجاز النصر، وكان الرفيق عادل عامر قد هاتفني وهو في طريق عودته من المهرجان ايضا، وفي نهاية مكالمتنا اقترحت عليه خارج سياق حديثنا، أن أقوم على المستوى الشخصي بالاتصال بالنائب أحمد الطيبي من دون ان يكون ذلك جزءا من أية مفاوضات، علّنا نستجلي ان كان حديثه عن الخروج من القائمة المشتركة نابعا عن موقف سياسي وخيار استراتيجي، أو أنه مناورة تفاوضية لتحسين مواقعه في القائمة المشتركة ووزن حركته العربية للتغيير فيها.
قمت صباح اليوم التالي بالاتصال مع النائب أحمد الطيبي وحدثته بصراحة ووضوح ومباشَرةٍ تسمح بها علاقة الزمالة التي استمرت بيننا حتى حين كنا بعيدين عن التوافق على الرأي والموقف والخيارات، ونقلت اليه موقفي الذي كنت قد نشرته على الملأ والذي يعتبر أن من المشروع ان يقوم بالمناورة لتحسين مواقعه ووزنه في إطار القائمة المشتركة، أما اذا كان يحمل مشروعا سياسيا لتفكيك المشتركة، وأتمنى ألا يكون ذلك هو الحال معه، فإن قراءة المشهد والنوايا السياسية ستحمل مدلولات أخرى وتعاملا مختلفا. وذكّرته بأن الأسباب التي دعتي الى التحفظ على قيام القائمة المشتركة قبل اربعة أعوام هي نفسها التي تجعلني أتحفظ على تفكيكها اليوم، خوفا من ان يكون ذلك نابعا عن حاجات ومعادلات اقليمية وليست محلية فقط في ظل السياق السياسي البائس الذي يطغى على التطورات الاقليمية اليوم.
وأوضحت ما أعتقد من أن الانتخابات الإسرائيلية ليست شأنا محليا فقط، ولا تجري بمعزل عما يدور إقليميًا في منطقة الشرق الاوسط والعالم من أحداث واصطفافات، ولا بمعزل عن مشاريع الرجعية العربية للتطبيع والتحالف العدواني مع اسرائيل ضد شعوب المنطقة، ومشاريع تفكيك القضية الفلسطينية وتفتيت عناصرها.. وأعدت على مسامع الطيبي أن ما جرى لتوه في مؤتمر وارسو بقيادة الإدارة الأمريكية، وما فضحه من تحالفات سافرة بين نتنياهو والانظمة الخليجية والرجعية العربية، للإعداد لحرب على ايران والمقاومة اللبنانية ومواصلة العدوان على سوريا، وتمرير صفقة القرن والإجهاز نهائيا على القضية الفلسطينية والتطبيع الذليل مع اسرائيل، كل هذا هو في صلب معركتنا الانتخابية ويحدد موقفنا من تحالفاتنا ايضا.
فعدوانية نتنياهو المطعّمة بتحالفاته الخليجية والرجعية العربية ستكون وبالا علينا نحن الفلسطينيين الباقين في وطننا وحلفائهم التقدميين في اسرائيل قبل غيرنا. أوقفني النائب الطيبي ومن بين ما قاله: "أنا لم أهاتف محمد بن سلمان قبل ان أعلن عن خوض الانتخابات خارج المشتركة!... كما أنني لا أختلف مع الجبهة في الموقف من مؤتمر وارسو ومن تهافت انظمة عربية على التطبيع مع اسرائيل والتحالف العدواني معها على حساب القضية الفلسطينية وضد المنطقة وشعوبها.. وخصوصا في المعركة لإسقاط صفقة القرن"، وأضاف، "لقد امتنعت خلال عملي السياسي كله عن استعداء الجبهة والتهجم عليها".
مواقفنا في القضايا الأساسية واضحة وضوح الشمس..
فماذا مع مواقف الآخرين ؟
طبعًا لم يكن هدف هذه المحادثة التفاوض ولا الوصول الى أي اتفاق، ولا حل القضايا العينية والتنظيمية، والعلاقات الداخلية التي عددها النائب الطيبي واعتبر انها كانت حجر عثرة امام نجاح تجربة القائمة المشتركة. وإنما أسوق هذا الكلام وأشارك الجمهور بهذه التفاصيل، بعد أن استأذنت النائب الطيبي بأن أذكر مكالمتنا التلفونية مع الاحتفاظ بحقه كاملا أن يضيف او يدقق اي تفصيل يعتبره مهما له، قمت بذلك لكي أؤكد أن المسألة الأهم في الموقف من القائمة المشتركة هي ليست مسألة تنظيمية تتعلق بتركيبة القائمة والمحافظة على توازن القوى القائم فعليا وميدانيا فقط، ولا على تراشق الاتهامات "والتبكبك" بسبب المؤتمر الصحفي الذي عقدته الجبهة لشرح ملابسات المفاوضات على أهمية ذلك، وانما الأهم هو التأكيد على أن مضمون الوحدة وأساس الشراكة يجب أن يستند بالضرورة الى حد أدنى من الاتفاق على الفهم الأساسي للسياق السياسي الذي تقوم فيه القائمة المشتركة او تتفكك، والذي يستدعي التحالف في إطارها أو يقود الى فض هذا التحالف. ليس تفكيك المشتركة تنظيميا هو وحده الموضوع وانما التخلي عن الالتقاء على حد أدنى سياسيا هو صلب المشكلة .
ومهما كان الشكل الذي انتهت اليه المفاوضات والاصطفافات الانتخابية فإننا قبل كل شيء، نطالب الحركة الاسلامية والتجمع، كل واحد منهما على حدة وكلاهما معا في إطار تحالفهما، بان يحددا مواقفهما بوضوح من المؤامرات الاقليمية، بما فيها قرارات مؤتمر وارسو، والتحالف السافر الذي تحوكه أنظمة الخليج في العلن مع نتنياهو زعيم الفاشية الاسرائيلية، والتطبيع معه وعزل القضية الفلسطينية. هذا هو المحك.. وعلى هذا يجب ان يدور النقاش في الانتخابات من قبل كل من يحترم وعي الناس ومخزونهم الوطني. ولن يستطيع أحد الهروب من إعطاء أجوبة واضحة في هذا السياق من خلال الغوص في القيل والقال الخاص بالمفاوضات.
ونحن بدورنا نقول، إن أية قائمة تشارك فيها الجبهة هي بالضرورة قائمة معادية لمؤتمر وارسو وتعمل على اسقاط نتائجه، ومعادية لصفقة القرن، ومعادية لتهافت أنظمة المطبّعين الخليجيين مع اسرائيل واحتلالها وتآمرها الدموي التصفوي على القضية الفلسطينية وعلى حقوقنا المدنية والقومية في وطننا.
نحن نقول إن الاصابع الإقليمية الرجعية ذاتها التي تعبث بوحدة الشعب الفلسطيني وتغذي الانقسام بين غزة والضفة الغربية والقدس المحتلة، وتنقل حقائب بملايين الدولارات القَطَرِية الى حماس في غزة تحت رعاية نتنياهو وخدمة لاستراتيجيته، لن تكون غائبة عن ساحة الجماهير العربية الفلسطينية المواطنة في اسرائيل ولن تسلّم بوحدتها ولو في إطار القائمة المشتركة على محدوديتها. لقد كنت قد تحفظت على الملأ على إقامة القائمة المشتركة قبل أربع سنوات، وأتحفظ بقوة أكبر اليوم على تفكيكها في الظرف القائم، ما دام تفكيكها يصب في خدمة مشاريع إقليمية رجعية مشبوهة، تتناوب عليها الحركات الوهابية والعثمانية الجديدة والإخوان المسلمون التي تمد أذرعها غير البريئة الى ساحتنا. فهل تقول قائمة الحركة الاسلامية والتجمع موقفها للجمهور من ذلك... واجبها أن تقول!
إضافة تعقيب