ان ما حدث وما حصل للغة العربية في إسرائيل من حيث شطب مكانتها الرسمية واعتبارها حسب القانون الجديد ذات مكانة خاصة في الدولة، لا ولن يُغيّر من واقعها بالنسبة للأقلية العربية الفلسطينية الناطقة بهذه اللغة "أبًا عن جد" والوارثة لها منذ ان كان العرب عربًا في الجزيرة العربية ومنذ ان نزل بها القرآن عربيًا. لقد واجهت هذه اللغة أزمة وجوديّة أقسى وأصعب في زمن الحكم العثماني حين حاول الأتراك تتريك" العرب. ومع ان هذا الحكم استمر حوالي خمسمائة سنة إلا انهم لم ينجحوا في ذلك. لقد كان الدين والقرآن عاملاً قويًا في حفظ وبقاء اللغة العربية حيّة وبقاء الانتماء القومي العربي حّيًا لقد نسيَ المشرّع لقانون القومية اوّلا: ان هذه اللغة كانت سائدة قبل قيام الدولة، وثانياً: ان هذه الأقليّة تحمل شعور الأكثريّة الذي كانت تعيشه زمن الانتداب البريطاني على فلسطين، وثالثاً: انها بقيت حتى اليوم تعيش في بحر متلاطم من الوجود العربي من الخليج إلى المحيط وانها بقيت تتنفّس هذه اللغة كل يوم وكل دقيقة وكل ثانية، نتيجة التواصل اليومي الدائم مع العرب في الدول العربية وذلك من خلال الإعلام الإذاعي والتلفزيوني ومن خلال الزيارات المتواترة لبلدان عربية مثل مصر والأردن، ورابعاً: كون هذه الأقلية عربًا في الداخل يعيشون في تواصل دائم مع العرب الفلسطينيين في الضفّة والقطاع، ويعيشون معهم يوميًا في القدس وجنين وفي نابلس والخليل وفي بيت لحم وطول كرم...
وعليه، فإن هذه اللغة ستظل تعيش فينا ونعيش فيها وستبقى أساس كياننا ووجودنا وعنوان هويتنا العربية. لقد نسي المشرّعون لقانون القومية ان هذه اللغة ستستمر لغة للعلم والتعليم لأولادنا في المدارس وستبقى لغة كتب التعليم المتداولة بين يدي الطلاب، كتبًا مكتوبة باللغة العربية. وسنبقى نحن الفلسطينيين في داخل إسرائيل صامدين كالصخر أمام مدّ العبرية المتغلغل في حياتنا اليومية. ستبقى لغتنا شعار هويتنا، لغة حيّة باقية ولغة مضيئة لا يغطّيها أي تغييب سياسي يفرضه القانون أعلاه. ان اللغة العربية لغة من أجمل لغات العالم ومن اوسعها انتشارًا، ولغةً رابعةً في أروقة الأمم المتحدة، تتداولها الجمعية العامة وتتداولها اليونسكو من أجل نشر الثقافات العالمية والعربية.. ستبقى هذه اللغة "لغة الضاد"، وسيبقى العالم يحتفل بها سنويًا من خلال اليوم العالمي التقليدي للغة الضاد، هذا اليوم الذي تحييه اليونسكو، باعثةً فيها كل سنة اليونسكو وتبعث فيه الحياة عند شعوب العالم أجمع... يحضرني في هذا السياق ما كتبه وقاله لي صديقي محمود أبو رجب صاحب جريدة "الأخبار" الأسبوعية الصادرة في الناصرة، يقول أبو طارق: "ليست لغتنا العربية العريقة لغة القرآن ولغة العرب فحَسب وإنما هي لغة الحضارة ولغة التراث على طوال ألف وخمسمائة سنة... فقد كانت ولا زالت وستبقى لغة حية نامية ولغة متنوّعة الافانين، واسعة البحر، عميقة الغور وذات مكانة سامية، لغة صامدة ليست في خطر يومًا". ان هذه الحقائق دامغة بالرغم مما يجري في ساحة حياتنا اليومية في إسرائيل من محاولات التهميش للغة العربية. ان ما جاء في قانون القومية بما يخصّ اللغة العربية ليس بجديد، فقد كانت هذه اللغة منذ قيام الدولة لغة رسمية ثانية قولاً لا فِعْلاً وكان التعامل مع العرب في الكنيست ومن خلال المعاملات الرسمية للوزارات يؤكد ذلك.
ان الخطر المحيق باللغة العربية في إسرائيل غير صادر فقط عن الجهات الرسمية وإنما عن الناطقين بها. فنحن وللأسف الشديد نستهين بهذه اللغة ونفضّل دون ان نعي ذلك ودون ان نعي إسقاطاته على لغتنا، التكلّم بالعبرية والباس الكلمات العبرية مشكلاً يتماشى مع قوانين العربية في طباعة الكلمة العبرية صياغة عربية وفي إدخال "ال التعريف" عليها وصياغة الكلمات العبرية والأفعال صياغة تتماشى مع قواعد اللغة العربية اليومية كأن يقول "بِدّي أتيّك الأوراق" من كلمة "تيك" العبرية بدلاً من القول "بِدّى أضع الأوراق في مَلّفات خاصة" ومثل هذه التعابير كثير، مما يجعل لغة التكلّم عندنا وبسبب هيمنة اللغة العبرية علينا لغة لا هي عبريّ ولا هي عربيّة، ولغة يصعب على العرب في الضفّة وفي الأردن وفي مصر فهمها لأنها خليط من اللّغتين.. يحضرني بهذا الصدد ما حدث وما حدّثني به صديقي الدكتور غازي منصور من الطيرة، عندما كان مع مجموعة سياحية في القاهرة، فقد قال لي ان احدى المرافقات في الرحلة، شكت له من سلوك وتعامل القائمين على خدمة الزبائن في المطعم وإهمالها وعدم تلبية ما طلبته، ولما سأل الدكتور غازي عامل المطعم لماذا أهملها قال له: "انا يا بيه ما مَفْهِمْتِش عليها إيش حكت" وفي سؤاله للمرافقة ماذا قلت له؟: قالت وبكل ثقة" أنا طلبت أن يحضر لي (عوجا) يدل كعكه و(ميتس) بدل عصير... عندها قال له: احضر لها من فضلك كعكة وكاس عصير... هكذا أصبح كلامنا اليوم خليطا من العربية والعبرية".
ان هذا الوضع السائد اليوم عندنا يتطلّب قليلاً من الانتباه من حيث عدم استعمال كلمات عبرية في خطابنا اليومي واستبدالها بكلمات عربية جميلة وسهلة ومناسبة بدلاً من ذلك... هكذا يحدث في حياتنا اليومية وهكذا يحدث في سلطاتنا المحلية في تفضيلهم التخاطب مع الجمهور بالعبرية بدل العربية علينا ان ندرأ هذا الخطر المحيق بنا بدلا من المساهمة في نشره واستفحاله. عليه فإن العيب لا يمكن في لغتنا بل في الناطقين بها.
لقد قرأت قبل مدّة وفي خِضمّ ما يكتب حول زعزعة مكانة اللغة العربية بسبب قانون القومية الجديد ما كتبه صديقي الشاعر د.اياس ناصر واصفا ما حدث للغة العربية في اعقاب سنّ هذا القانون، إذ يقول: "فاقت اللغة العربية قبل أيام مقصوصة الضفائر، مَرْميّة على قارعة الطريق، وقد وُجد في جيبها رسالة باسم الأكثرية كتب فيها "انّنا نُبَشّرِكَ بانّه تقرّر تجريدك من الرتبة الرسمية التي تحملينها وتَرحيلك عن الوطن الحبيب الذي له لغةُ واحدة هي اللغة العبرية... تُلي الحكُم وأفهِمَ علنا" ويستمر د. إياس بقوله "هذه الرسالة... وُجِّهت إلى ابنائها. انها رسالة المتوجِّس الذي يريد ان يجاهر بمستند رسمي انه صاحب السيادة والسلطة والسلطان.. فلا يُريد أن يُسمَعَ صوتٌ إلّا صوته ولا لغةً إلّا لغته. إن ما حصل من انزال اللغه العربية درجة ومرتبة لا يعنى في نظري إنزال أصحاب اللغة العرب درجة، فنحن سنبقى صامدين على أرضٍ صلبة ومتجَذّرين في أرضنا وفي لغتنا. كما عبّرت عن ذلك في القصيدة الأخيرة التي كتبتها (حولية 2018) فإن هذه اللغة:
1) 2) 3) |
سَتَظلُّ في عُرفِ الزمان هويتي |
يزهو بها الأعرابُ من عدنان |
وأخيرًا علينا أن لا نبقى ساكنين أمام هذا القانون. فنحن نسيء إلى أنفسنا إذا لم نحرّك ساكنًا. علينا أن نعمل بحزم للمحافظة على لغتنا وبروح الاقتراحات التي صدرت عن لجنة متابعة قضايا التعليم العربي أخيرًا. لغتنا اليوم بحاجة إلى من يداويها ويذود عنها... ان هذه الهزة التي عصفت بنا تلزمنا بالتصدّي لها وبتأكيد اللغة العربية في جميع مرافق حياتنا وبالقيام بفعّاليات ونشاطات بروح الاقتراحات التي صدرت من أجل أن نبقى نتنفّس هذه اللغة ومن أجل ان:
تبقى تُلألئ في سماء وجودنا |
وتسيلً نهرًا في فم الأزمان |
إضافة تعقيب