كتبت في الأسبوع الماضي* عن التشبث بالوطن واقتبست من محمود درويش سؤاله للمنفيين "وإذا رجعتم فلأي منفى ترجعون.. لأي منفى ترجعون؟".
وأشرت إلى غسان كنفاني وإميل حبيبي إشارة مختصرة، والصحيح أن الوقوف أمام بعض الروايات لهما ضروري لإيضاح أهمية التشبث بالأرض وعدم مغادرتها رفضاً للتهجير ومقاومة للمشروع الصهيوني القائم على فكرة "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض"، وهو مشروع جسده الأب الروحي للصهيونية (ثيودور هرتسل) "في روايته "أرض قديمة جديدة" (١٩٠٢) وصور فيها العربي، ممثلاً برشيد بك، مبتهجاً لقدوم اليهود إلى البلاد، باعتبارهم الضوء الذي سيشع على هذه الأرض.
لم تكد تمضي ستة وأربعون عاماً على صدور رواية هرتسل حتى تحقق حلمه، فأقيمت الدولة الإسرائيلية، وطرد أهل رشيد بك أكثرهم وتفرقوا أيدي عرب وتشتتوا وعانوا من قسوة المنفى، وهذا ما جسده كنفاني في رواياته مفصحاً عن الخطأ الأكبر الذي ارتكبه الفلسطينيون في العام ١٩٤٨حين لم يتشبثوا بأرضهم ويموتوا فيها.
في "رجال في الشمس" (١٩٦٣) يعيش الفلسطينيون الذين فقدوا أرضهم ظروفاً قاسية، إذ يصبحون عالة على وكالة غوث اللاجئين.
لقد فقدوا بيوتهم ومصادر رزقهم، فعاشوا في الخيام وبيوت الصفيح وأخذوا يبحثون، في العالم العربي، عن فرص عمل لم تتيسر لهم بسهولة ويسر، واضطروا إلى الابتعاد، عن فلسطين، أكثر وأكثر، فماتوا في المنافي.
لعل ما قاله أبو قيس، إحدى الشخصيات الرئيسة في الرواية، وهو يعيش حياة الذل في المنفى، عن الأستاذ سليم الذي توفي قبل سقوط قريته بليلة واحدة، لعل ما قاله هو خير تجسيد لأهمية التشبث بالأرض والدفاع عنها وعدم التفريط بها:
"يا الله! أتوجد ثمة نعمة إلهية أكبر من هذه؟... صحيح أن الرجال كانوا في شغل عن دفنك وعن إكرام موتك.. ولكنك على أي حال بقيت هناك.. بقيت هناك! وفرت على نفسك العار.. يا رحمة الله عليك يا أستاذ سليم.. ترى لو عشت، لو أغرقك الفقر كما أغرقني... أكنت تقبل أن تحمل سنيك كلها على كتفيك وتهرب عبر الصحراء إلى الكويت كي تجد لقمة خبز؟".
وتعد روايات كنفاني الثلاثة اللاحقة استطراداً للكتابة عن قسوة حياة المنفى وخطأ ترك الأرض.
لقد أورث هذا السلوك الفلسطيني العار، وهي الكلمة التي استخدمها أبو قيس وهو يتذكر الأستاذ سليم ويخاطبه. العار الذي عاشه حامد بطل "ما تبقى لكم" والعار الذي عاشه أبو سعد والعار الذي لحق بسعيد. س. حين خاطبه ابنه خلدون/ دوف بما خاطبه به "كان عليكم ألا تخرجوا".
هل تعد روايات حبيبي الذي بقي في حيفا، وكتب الرواية بعد استشهاد كنفاني بعامين، استكمالاً لأفكار غسان ورؤية لها، لكن ممن بقي في الأرض لا ممن غادرها وعاش في المنفى وخبر بؤس حياته؟ هل من رابط مشترك؟ وهل دعا إلى البقاء في الأرض التي لم يغادرها؟ وهل رأى المنفى كما رآه كنفاني، علما بأنه لم يعش حياة المنفى كما عاشها الأول؟ وهل ما كتبه الاثنان يعني الكثير أو القليل لأهل غزة في مقتلة غزة وحرب الإبادة هذه؛ المهلكة؟
تنتهي رواية "المتشائل" (١٩٧٤) بجلوس شخصيتها الرئيسة سعيد على الخازوق "مسك الختام: الإمساك بالخازوق" ويتشبث به "وتشبثت بخازوقي" - أي البقاء في البلاد، وحين يكتب حبيبي وصيته يوصي بأن يدفن في حيفا وأن يكتب على شاهد قبره "إميل حبيبي: باق في حيفا" وقد حقق فكرة البقاء في البلاد التي تغنى بها أدباء المقاومة في الأرض المحتلة وعلى رأسهم الشاعر توفيق زياد صاحب القصيدة الشهيرة المغناة "هنا باقون" التي عبر فيها عن رفض الرحيل، فصارت لازمة يتغنى بها كل فلسطيني يؤمن بفكرة البقاء والصمود وعدم الهجرة.
قبل وفاته بفترة وجيزة عاد حبيبي وأكد على فكرة البقاء في البلاد وعدم الهجرة مبيناً السبب. لقد كتب في نصه الأخير "سراج الغولة هذا" لعلكم تذكرون أني لم أجد من موئل لسعيد أبي النحس المتشائل، في وطنه، سوى رأس خازوق، ولم يدر في خلدي، في ذلك الزمن السحيق، أن الخازوق هو مكان عالٍ يصلح منه الإشراف على آفاق قرن جديد وألف جديدة من السنين، بل لم يدر في خلدي أن لا يجد شعبي مكاناً في وطنه، بعد هذا العمر الطويل، سوى رأس خازوق".
ويضيف: "ولكن حتى لو كانت هذه هي صورة الواقع الحقيقية فإننا نفضل رأس خازوق فوق تراب الوطن على رحاب الغربة كلها".
في العام ١٩٨٢ انتهت الحرب بخروج المقاتلين الفلسطينيين من بيروت وتم توزيعهم على البلدان العربية، فكتب درويش قصيدته "نزل على بحر" وأتى فيها على المؤقت الذي دام: المنفى، فقد طالت نباتات البعيد وتزاوج الفلسطينيون والفلسطينيات من غيرهم "كم قمرا أهدى خواتمه إلى من ليس منا" وولد فلسطينيون كثر في المنافي وظل هؤلاء وهؤلاء يحلمون بالعودة إلى أرضهم وأرض آبائهم وأجدادهم، فالمنفى قاسٍ وموحش.
في هذه المقتلة والمهلكة، ومنذ بداياتها، تطلب إسرائيل من سكان شمال قطاع غزة وسكان وسطه الرحيل إلى جنوبه بحجة أنه أكثر أمناً، ثم.. ثم تقصفهم وتحول حياتهم هناك إلى جحيم.
ترى لو كان الأدباء الأربعة المذكورون على قيد الحياة وعاشوا في غزة، فماذا سيكون موقفهم؟! أيبقون أم يرحلون؟!.
الشيء الذي لا أشك فيه هو أن درويش سيكرر لازمته في قصيدته لمدح المقاومين:
"لا تعطنا يا بحر ما لا نستحق من النشيد".
جريدة "الأيام"
إضافة تعقيب