كان من الافضل أن لا تنشق "القائمة المشتركة" عشية هذه الانتخابات البرلمانية. أقول هذا رغم أني كنتُ قد كتبتُ عشية تأسيسها في الانتخابات السابقة عام 2015، أنه من الافضل خوض الانتخابات في قائمتيْن كل مع الاقرب إليه سياسيًا وفكريًا وموقفًا إجتماعيًا من بين أحزابها وحركاتها الاربع: "الجبهة" و"الاسلامية" – (الجنوبية)- و"التجمّع" و"العربية للتغيير".
صحيح أن ما يجمعنا كأقلية قومية فلسطينية باقية في وطنها، على اختلاف تياراتنا الفكرية، الشيوعية الجبهوية والاسلامية والقومية، في مقارعة السياسة الصهيونية بحقنا هو أكبر بكثير وأهم من اختلافاتنا الفكرية. لكننا كشعب تغيّرنا كمًا وكيفًا وتعدّدت وتنوّعت واختلفت مشاربنا. ومن واجب قياداتنا السياسية الحزبية، ومن حقنا عليها، أن لا تطمس تنوّعنا الفكري والاجتماعي وتمايزنا في بعض المواقف السياسية، بحجة أن القضية هي مواجهة السلطة العنصرية الحاكمة. بإمكاننا أن نتوحّد كقائمتيْن في مواجهة السلطة العنصرية الاقتلاعية الحاكمة، وأن لا نسمح في الوقت نفسه للتبايُن الفكري والاجتماعي فيما بيننا أن يشرذمنا في مواجهتنا للسياسة السلطوية.
قد يستغرب بعض القراء أن موقفي إزاء الانتخابات الحالية كان هو الحفاظ على القائمة المشتركة وليس خوضها في قائمتين. لأن "المشتركة" تشكّلت، ونشطت في البرلمان على مدى أربع سنوات سابقة. وحققت إنجازات وفرضت على عدة جهات سياسية وإجتماعية داخل إسرائيل النظر إلينا والتعامل معنا كشعب موحّد في مطالبه. وهكذا تعامل معنا العالم أيضًا ومؤسساته الدولية. وأمسى صوتنا حاضرًا دائمًا في مؤتمراته وعنوانًا لكل ما يخص حياة ومعاناة مليون ومائتي ألف باقين في وطنهم. أضف إلى هذا أن المشتركة قلّصت إلى حد بعيد حروب داحس والغبراء بين أحزابنا التي كادت تثير استياء قواعدنا الجماهيرية التي طالبت دومًا بالوحدة وبالحد من الخلافات والصراعات والعداوات الحزبوية.
لاحظوا الذي حصل منذ إتخاذ القرار قبل شهرين بتقديم موعد الانتخابات. كان من المفروض والمأمول أن ننشغل في الشهريْن الماضييْن بمناقشة تجربة عمل "القائمة المشتركة" وإعادة هيكلتها. وبدراسة إيجابياتها وإنجازاتها وماذا كانت أسبابها وكيف يمكن تطويرها، وأيضًا بنقد سلبياتها ونواقصها ووضع الخطط لتلافيها. وأن نثير مسألة نجاحاتنا وإخفاقاتنا في إتقان التعامل مع شتى الكتل في البرلمان وفي خطابنا للجمهور الاسرائيلي اليهودي وظهورنا الاعلامي.
وكان علينا لتلخيص تجربة "المشتركة"، بمناسبة الانتخابات القادمة، أن نتباحث إذا ما كانت قد عملت كتلتنا البرلمانية الواحدة والمشتركة ما هو كافٍ لغرس وتجذير مفاهيم وقيَم التعاون والمشاركة والوحدة في قرانا ومدننا، ونبذ العصبية الفئوية القبلية والطائفية الدينية ومواجهة مظاهر العنف المستشرية في بلداتنا.
وكان علينا أن نتناقش ونتداول مع المشتركة مسألة مدى تنسيقها وتعاونها مع كافة تنظيمات ومؤسسات وجمعيات المجتمع المدني، ومع الشرائح الاكاديمية والمختصة والتعليمية والطلابية والاقتصادية والخدماتية والثقافية، والاستفادة من ذوي الاختصاصات في شتى المجالات. هذا عدا عن بحث موضوع وجوب إعادة إحياء وتفعيل الحراك الشعبي الكفاحي وعدم الاكتفاء بالعمل البرلماني. فكل منهما يجب أن يكون سندًا للآخر لا بديلًا.
كذلك كان علينا أن ننشغل في الشهرين الماضييْن في مناقشة هل حقًا قام نوابنا وقمنا نحن عمومًا بكل ما كان يتطلب لصد مخاطر تفاقم العنصرية الحكومية التي أخذت تلامس الابارتهايد والفاشية في إنفلاتها بحق المواطنين العرب وبهجومها على سلطة القضاء والقانون وعلى الديمقراطية ووسائل الاعلام وكل ما يُسمّى باليسار اليهودي في إسرائيل.
لكن بدلًا من الانشغال في كل ما ورد أعلاه وبما يشبهه أيضًا، وبإشراك الجمهور الواسع في عموم بلداتنا في هذا النقاش بحضور نوّابنا البرلمانيين، إنشغلت "المشتركة"، الاصح بعض مركباتها، وأشغلتنا بقضايا المحاصصة في التمثيل، ولمن تكون الرئاسة، وبنشر الافتراءات والاكاذيب والاهانات، وبتجنيد أبواق وأقلام إعلامية – (عدا عن تلك التي جنّدتها الدولة العميقة) – قذفتنا بأقذر أوساخ "الفيك نيوز" التي يجيدها سيّد "الفيك" ترامب وتابعه النتن ياهو.
نحن فنانون حقًا في عدم تفويت أيّة فرصة لإضاعة الفرصة. لا أقول إن عموم أحزاب وحركات "المشتركة" أشاعت هذه الاجواء الفاسدة والمُفسدة. لكن هذا ما أشاعه بعضها. وهذا ما رقصت على أنغامه شبكات التواصل الاجتماعي الاعلامي التي أشغلت وضلّلت حتى العقلاء بيننا. أوَتتساءلون بعد كل هذا: لماذا ما زالت الحملة الانتخابية فاترة ومفتقدة للحراك الحماسي للناس، رغم أن هذه الانتخابات هي من أهم وأخطر الانتخابات المفصلية التي تشهدها البلاد، ولم يتبق لموعدها في التاسع من نيسان الا ثلاثة أسابيع؟
عندما يقع الجمل تكثر سكاكينه. لكن "المشتركة" ليست جَمَلًا. وشعبنا لم يذبح المشتركة، بل كان المطالب والضاغط الاكبر لوجوب تشكيلها عام 2015. الذي شقّ "المشتركة" هي أوساط من مكوّناتها/مركباتها الاربعة. لقد آثر البعض الارتداد إلى "ثقافة" حزبية القبائل وقبلية الاحزاب وإلى تغليب الذاتوية الضيّقة على المصلحة الجماعية الجامعة. أصلًا بعض هذا البعض لم يتخل عن تلك الثقافة المدمّرة حتى عندما كان ضمن المشتركة.
لكن ما يثير الاستغرابات والتساؤلات هي كتابات وتغريدات –(الاصح نعيقات)- أولئك الكتبة الذين لم يؤيدوا "المشتركة" في الماضي ولم يقترعوا لها ودعوا إلى هدمها. ثم فجأة أخذوا يدعون إلى انشقاقها. وحين انشقت إلى شقّين أعلنوا أنهم لن يصوّتوا لها لأنها انشقت. فباسم مَنْ تغردون يا هؤلاء، وعلى أنغام مَن ولصالح مَن تتراقصون؟ عن هكذا تصرّف قالت حكمتنا الشعبية "إحترنا يا قرعة من وين نبوسك".
كنتُ أفضل أن لا تنشق "المشتركة" وأن تعمل على تطوير ذاتها وأدائها. لكن ما دامت قد انشقت إلى قائمتين، أقول لا بأس في ذلك. ولا أقول هذا فقط من باب لا تكرهوا أمرًا علّه خيرٌ لكم. وكان لينين قد قال في جدليته الرائعة: "دعونا نحدد نقاط الاختلاف حتى... نتفق!".
آمل، ولا أقول أثق، أن لا يعيدنا الانشقاق إلى الصراعات القبلية الحزبوية الضيقة. وكانت قائمة "الجبهة" قد أرسلت رسالة، بعد تقديم القوائم الانتخابية، إلى قائمة "الاسلامية والتجمع" داعية إياها إلى التعاون المشترك مع قائمة "الجبهة والعربية للتغيير" لإسقاط حكومة اليمين المتطرف وللدفاع عن حقوقنا، ولتوقيع إتفاق فائض أصوات بينهما. أجاب د.مطانس شحادة سكرتير عام التجمع، حتى الامس، وعضو كنيست قريبا إذا ما عبرت قائمته نسبة الحسم، بما يلي: "موضوع الاصوات موضوع تقني... شعبنا بحاجة إلى قيادة جديدة تضع مصلحة الجمهور في المركز بعيدا عن الشخصنة والظهور الاعلامي والمنصات والشعارات. لا بد من تراجعكم واعتذاركم قبل فتح صفحة جديدة بين الاحزاب"...
أُقسم بالله العليّ العظيم وبكل القيَم الانسانية،أني استشهدتُ بجواب شحادة حرفيًا. وأضيف أنه في تاريخ إاتماماتي ومطالعاتي السياسية، على مدى خمسين عامًا مضى، لم أقرأ لا محليًا ولا دوليًا ردًّا على دعوة راقية تفيض بروح المسؤولية الوطنية وتنشد التعاون والعمل المشترك بمثل هذه (......). أتوقف عن الرد وأصمت عن الكلام. فبماذا تردّ وتناقش هكذا سقطا أخلاقيا وهكذا إسفافا في فحوى الكلام، مع احتفاظك بكرامة شعبك والقراء وذاتك؟ أقول فقط: اعتذر يا شحادة!
أما بخصوص دعوة قائمة "الجبهة والعربية للتغيير" للتعاون والعمل المشترك مع "الاسلامية – التجمع" فهي دعوة مباركة. لكن أحذر من أن يفهم البعض، خطأً أن تطبيقها ميدانيا يعني عدم الابراز والتركيز على الخصوصية السياسية والاجتماعية، كل لقائمته. الالوان يا سادة يا كرام متعددة وليست فقط إما أسود أو أبيض. وتوجد عدة أطياف حتى للون الواحد. وإحدى أهم وأفضل إيجابيات إنشقاق المشتركة، رغم كل سلبيات الانشقاق، هي إبراز كل شق لشعبنا عمومًا وللناخبين منهم خصوصًا التميّز في المواقف السياسية والاجتماعية والعقائدية التي تخصه. ولتفعل القائمتان هذا بدون تأتأة وتعتيم، بل بصراحة ووضوح وبحدة إبراز الفروقات في البرامج والتوجه.
العمل السياسي ليس دعوة دينية في دور العبادة أن أحبوا بعضكم بعضا. بل دعوة لنصرة برنامج ونهج عمل وفحوى خطاب للذات القومية وللآخر من إثنيات أخرى. كفانا طبطبة وغمغمة ومسايرة ونفاقا على حساب الجوهر. وما من عيب أو إساءة في التنافس بين الاشقاء في الهم والهدف، إذا ما كان التنافس حضاريًا وعقلانيًا ومتميزًا بالمسؤولية الوطنية الجامعة.
إحترموا عقولنا يا قادة وقولوا لنا، ما دمنا قد اتفقنا على عدم التصويت للأحزاب الصهيونية، لماذا يا "جبهة وعربية للتغيير" ويا "إسلامية وتجمع" يعتقد كل منكما أن من الافضل أن نقترع له؟ وللذي يفهم كلامي هذا وكأنّه دعوة لمحاربة القائمتين لبعضهما، أقول لا يضيرنا جميعًا قراءة المكتوب وفهم المقروء.
إضافة تعقيب