news-details

د. الياس عبيد وداعا | د. بطرس دلة

أيها الراحل الكبير!

إن موت عزيز على قلوبنا يترك جرحًا عميقًا في قلوبنا، وقد يتحول هذا الجرح الى قصيدة مطولة حزينة أو إلى لوحة نحتفظ بها بما فيها من الأحلام المبعثرة هنا وهناك أو إلى تمثال ننحته بازميلنا، قلمنا، ريشتنا عندما يضطرنا فكرنا لذلك.

الرجال ايها المفارق الى غير رجعة يذكرون في مواقف الرجال وقد قيل في ذلك:       

وكم رجل يعدّ بألف رجل   وكم رجل يمر بلا عداد

وأنت في مواقفك التي ملأتها فخرا واعتزازا قد ملأت مكانة تعداد من الرجال بهمة لا تضاهى إلا بالأفضل والأحسن والأروع، فقد عشت عصاميا لم تتكل على أحد، بنيت لك مجدا تليدا في ساحة الطب فقدَّرَكَ الناس حق قدرك أحببت الوطن فزادك الحنين تشبثا بفكرة الوطن. بعد حصولك على شهادة التخصص في علم العظام عدت الى المكر وكفرياسيف وأصبحت الطبيب الذي يشار اليه بالبنان إلا أن المرض كان كجدار يحصي عليك خطواتك ولم يمهلك متحديا نواميس الحياة فاختطفك من بيننا وأنت ما زلت في أوج عطائك وما زال في قنديل عمرك زيت كثير!

أيها الصديق الراحل الى أحضان الأبدية! عندما أفقد عزيزًا على قلبي اتساءل دائمًا: كيف يقضي العظماء هكذا وبدون سابق إنذار؟ كنت محبًا للحياة متشبثًا بها حتى الثمالة فسعى اليك الموت من حضن هذه الحياة! إنه ذلك السر الخافي على البشرية والذي لا يعرف كنهه سوى الله تعالى فنقف إزاءه خاشعين مطأطئي الرؤوس وما ذلك إلا من أجل الموعظة التي تُعَلِمُنا إياها مرارة الفراق وجبروت الموت الذي يحني هامات أكبر الجبابرة وأعظم القادة والملوك!

إننا إذ نقدم القهوة السادة المرة في أحزاننا  فإننا نرمز بذلك الى أن الحزن مرّ كالعلقم وهذا المَرار فيه ثلاثة وجوه : فالقهوة مرة كما الحياة، وحلوة في الأفراح  كما الحب، وغامضة في سوادها كما الموت! وهل وجودنا على الأرض سوى حياة وحب وموت؟!

جاء في مقدمة التوراة قوله تعالى: في البدء كانت الكلمة والكلمة كانت عند الله! فإذا ما رحلت هذه الكلمة عنا بالموت عندئذ يصبح كل شيء بلا قيمة! حتى تنسيق الأزهار، والألوان، واختيار الملابس واللقمة التي نأكلها، وكل الاهتمامات اليومية تصبح تافهة أمام سِرّي الحياة والموت. إن حزننا الشديد في فقدان إنسانٍ عزيزٍ   بروحهِ وعملهِ، عظيمِ بعلمهِ وأدبهِ لأننا عندئذ نفكر بعبرة الحياة والموت، عظيمِ بعطائهِ وسيرتهِ، عظيمٍ بفكرهِ وإنسانيتهِ، حزننا هذا هو الألم بعينه وله صراع قدسي في نفوسنا! والإنسان المتألم يصمت أولًا ثم يصرخ عندما يفقد صبره! ففي الصبرِ موعظةٌ، أما الفرح فيحررنا من التفكير في ذلك! 

أيها النسيب الدكتور الياس عبيد! كنت في حياتك ماردًا بطلًا وفارسًا عظيمًا في ميدان العلم والطب، كنتَ شديدَ الاتزانِ في جميع المهمات. لا تفقد السيطرة على النفس مهما جابهك من مهمات ومشاكل عظيمة، ومعروفٌ المثلُ القائلُ بأن الشجيرات والأشتالِ الصغيرةِ تنحني عند هبوب الرياح أما السنديان! ؟

لقد جمعت في شخصيتك شيئًا كثيرًا من المتناقضات: فقد جمعتَ العظمةً الى جانب البساطةِ، جمعتَ الحزمَ والحسمَ الى جانبِ اللينِ والمسايرةِ، جمعتَ القرارَ الصائبَ بغير ما تردد الى جانبِ الصراحةِ حيث لم تقيّدُكَ عن مقولةِ الحقِ حصوةٌ!

كنت بريئًا كاليمام، صريحًا كما الحقيقة، حادًا كما النصل المفولذ، تقيًا طيبًا كأرض هذا الوطن، وطنيًا صادقًا عذب اللسان عفيف اليد، محبًا للعائلة والزوجة المخلصة لدرجةِ التعصبِ حاضرًا عند كل مشكلة ولسانُ حالكَ يقول: الكسول غريبٌ على نواميس الحياة، أما  الحركة والعمل فهما توأما هذه الحياة! 

فيا أبا حنين!

لقد كنت فواحًا كما يفوح عطر البساتين في موسم الازهار، وكنتَ بلسمًا لأدوائنا، طبيبًا تواسي جراحاتنا! معلمًا يهدينا الى خير السبيل، واعظًا ومرشدًا، في دروب الحياة وفوق كل هذا وذاك كنتَ انسانًا حنونًا شفوقًا كريمًا معطاءً واسعَ القلبِ والصدرِ، لا تضمر الضغينة لأحد. لا تنمّ ولا تغتاب أحدًا، سموحًا  ليِّنًا  في وقت اللين، قويًا وصارمًا في أوقات الحزمِ والحسمِ.

فمن كانت هذه سجاياه وهذا عمله فذكره سيظل خالدًا في أفكارنا وقلوبنا ما حيينا.

رحمك الله أيها الطبيب الكبير وأسكنك فسيح جناته! وللأهل الكرام والعائلة العريقة نقدم تعازينا راجين لهم حسن العزاء وجميل الصبر وطول العمر والسلام!

ولما كنت محبا للأرض، لِأرض هذا الوطن فإنني أطرح على ضريحك قصيدةَ الشاعرِ اللبناني فؤاد الخشن التي يقول فيها :

أنا مِن ريفٍ على تِلكَ الربى     أَسبَغَ   اللهُ   عليهِ   فِتَنَه

نَثرَ  الضوءَ  على    تُربَتِهِ       وَبِأزهارِ  الأماني  زيَّنَه

أنا من أرضِ رعاةٍ  جَرَّحوا     سَحبَةَ الناي الحنون المُحزِنه                                                                                               

من جدود عصروا الكرم دما    سكرت منه الخوابي المدمنه

وعلى سمر الدوالي   كتبوا      شرعة الحب وخطوا  سننه!

(كفرياسيف)

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب