كُنْتُ طفلا في السّابِعَة آنَذاك...
صَحَوْتُ صباحا على جَلَبَة غريبة في بيتنا... أَخَواتي يتراكَضْن من غرفة لأخرى يَحْمِلنَ حقائِبَ وبُقَجا كبيرة الحجم...ترامَتْ الى مَسْمعي أنصافُ جُمَل تجاذبْنَها بسرعة البرْق وبصوت مكتوم : "الناس على المينا زَيّ يوم الِقْيامِه" وصوت الجارة
"جنود اليهود وصلوا التّلّ (تل الفخار)"...قفزْتُ من سريري واذْ بوجوههنّ مُشَحَّرَة بالشّحار الأسود والشّعر منفوش وقد لبِسْنَ فساتينهنّ مقلوبة...دُهِشْتُ...لأَوّل مرّة أشاهدهن غير مُهَنْدَمات... ! فهمتُ أنّ أمي أَمرتهنّ بذلك، لكن لم أفهم لماذا رغمَ تساؤُلي العنيد... تأَفّفوا بعصبية في تلك اللحظة المجْنونة، فهرعتُ الى الحاكوره (قطعة أرض صغيرة مزروعة) لعلّ أحدا يشفي غليلَ حيرَتي. كانت أمي المُقْعَدَه تحت شجرة التوت على كرسيّها الخيزران المعهود، تُطِلُّ خِلاَلَ ثقوب الشَّعَّاري (المشْرَبِيَّه) المحيطة بقاع الدار. وخرير نافورة البركة الرخامية وسط المكان كما هو، واوراق الورد الجوري بألوانه الزهري والأحمر، مفروشة على سطح مائها تسبح بأمان لا تعي ما يحدث...وأختي جميلة تبكي والملاءة السوداء تسقط عن شعرها فترفعها (غطي بناتك يا حاج صبايا وأنت المُؤَذّن.. قال لهن غَطّوا يا بوي)، تذرع الباحة بخطوات محمومة وهي تلهج بنفس القول فاقدة صبرها "ليش تْأَخّرْ أبوي، راح يجيبلنا تكسي صار تكسي...! رح نموت هون..يا ريتني رحت مع أختي أمينة وأولادها...!
صرخْتُ وعيناي محدقتان بالصّيصَان الصفراء في القفص الكبير:" لا أريد أن أترك بيتنا " هدّأَتْ أمّي من روعي لا تقلق يمّا..سنعود بسرعة..ضع لهم طعاما وماء يكفيهم لأسبوع " لكن محاولة طَمْأَنَتي لم تُجْدِ معي فانفجَرْتُ بالبُكاء لا أدري لماذا "بدّيش...بدّيش ". فجأة أَخْرَسَتْنِي صَرخةُ أُمّي وعويلها: "يا ويلي...يا عَلَيّي يا يَمّا وِلكُو هدا صالح الدوخي استشهَدْ على السُّور يا ويلي عليه وعلى أمُّهْ " لطمَتْ على خدِّها، هروَلنا الى ثقوب الشّعّاري لنُطِلّ والفزَع يُسَرْبِلُنا...المَشْهَدُ كان رهيبا..شباب يحملون الشهيد الدّوخي على حمّالة (تَسْكَه كما أَسمتها أمي) رجلاه تخرجان عنها من فرط طول قامته، والدّمُ يتدفّقُ نَبْعا من ثَغْرة واسعة في رأسِهِ إثر شظية أصابته..وجهه كان بلا ملامح..! لم أدرِ كيف تعرّفَتْ أمي اليه.صرخت أخواتي،أما أنا الطفل ارتعدَ كُلّ كُلّي كطير ذَبيح..سمعتُ نَبَضات قلبي كادت تشُقّ صدري...لكنَّ عَيْنَيَّ ظَلّتا مُسَمّرَتَيْن بالرَّجُل الْ بِلَا وَجْه.
سمعت النساء المسرعات عبر الزقاق المؤدي الى جامع الزيتونة فالميناء، يقلن لأمي أن الطرق مقطوعة الى مقبرة النبي صالح أو مقبرة الشيخ مبارك في مدخل المدينة،الجنود اقتربوا.
لذا اضطروا لدفن الشهداء المناضلين على السور في مقام سيدي الشيخ غانم (وأهل البلد يلفظونها الشغانم بدغم الاسمين في واحد)...ومعهم الشهيد صالح الدوخي أجِير الفرن... "شاب حبيب الله...جسمه مثل الجسر".
تشاغلت عن هَوْلِ ما رأيت بطابور نمل طويل يجري ليدخل ثقب حجر تحت الدالية
ويختبئ...وصرصار أحمر يلحق بهم فصرخت بأعلى صوتي لا أدري لماذا! ربما
لتفريغ الخوف وغموض الانتظار: "يَمّا الصراصير مع اليهود أو مع العرب؟"!
"الناس بايش وانت بايش" صرخت أختي جميلة بهستيريّة لتسكتني، وهي الأكثر تشنجا لحظتها، واذا بصرير البوابة الكبيرة يُسْمَع وأبي يظهر أمامنا مخطوف اللون
مهدود الحِيل... لأول مرة أشاهد شحوبا مرعبا على سحنته.
" يِطعَمَك الحِجِّه وِالنّاسْ راجْعَة يا حاجّ...! وين السّيّارة ؟ سألته أمي.
"أقعدوا..مش راحلين آخر سيارة تنازلت عنها للمناضلين شباب نادي أسامة فرغت ذخيرتهم...جنود اليهود دخلوا البلد."
"بِدَّكِ ايّانا نْمُوتْ هُون!؟ صرخت أختي مُوَلْوِلَة.
أسكتَتْها أمي بقولها: "هم أَوْلى مِنّا يَمّا..نصيبنا نبقى..الله يحميهم لشبابهم".
اتّشح وجه أبي بحزن مرير عندما وصف ما شاهدت عيناه "المينا يا حاجة زي الحمام المقطوعة مَيْتُه"...كل يبحث عن جماعته والدموع تنسكب من الماقي مِدْرَارَة دون أن تجد أيدي تجففها في مَعْمَعَة الزّحام والهَرْوَلة...
عادت أمي المُقْعَدَة الى مراقبة ألزّقاق عبْرَ ثُقوب الخَشّابِيِّة بصوت يَعِنّ..كان الزاروب المقابل لبيتنا "يُنْغُلْ نَغِلْ"بالحركة والكلام " اذا فاتوا الليلة ألله يستر ليقتلونا مع أولادنا " " شُفِتْ أخوك ؟!" راجع عالبيت أدَوّر عليه...اِسْتَنّيني بالمينا حَدّ بُقَجْنا"...نساء...نساء وأطفال...وبُقَج...
كان كلامهن سريعا ومُقْتضَبا..وصوتهن راجفا...أجسادهن مندفعة...وكأن غُوْلَا يلاحقهن...
فجْأة دخل أخي الكبير محمد وكان مناضلا عضو نادي أسامة*..عيناه جَمْرتان "قَهِرْ وْكَسْرَة يا يَمّا، يْكِزّعَسْنانُه ويقول اّخ الفَشَك مْبَرِّدْ السلاح فاسد... أنت بقلبُه
أدِّيشْ صعبة عليه ورفاقه من نادي عُمَرْ يِنْسِحْبُوا؟ "أخي البطل وأنا الطفل المتباهي
أمام أصحابي الأطفال "أخوي بطل بِرَفْع الأثقال في كل فلسطين"... حزنت حتى الدموع عليه، أعطى البنادق لأختي أميرة، أخذ مسدّسَيْن فقط أعطى لرفيقه واحدا وقال لها :"ارميهم في البئر وزِتّي عليهم اكياس الخيش أحسن مَيِنِسْفوا البيت، ودّعَ أمي وداعا خاطفا ضَمّتْه مْشَلْوَحَة عليه رفعت يدها بحرقة وغاب في الزّقاق...
ظلَّ الزقاقُ واجِما..."وسَيْلُ الرَّحِيلِ كانَ مُتَوَاصِلا وَمُحْزِنا"*
حملوا أمي بكرسيها الى الداخل... أما أنا فكنت راضيا عن عدم الرحيل...وبقيت مكاني في الحاكورة تحت الدالية أرقب قافلة النمل المطمئنة "صَفِّ العَسْكر توت توتْ وْاِحْنَا رايْحِين عَبِيرُوتْ"...
كَبُرْتُ...لكن صورة الرجل الْ بلا وجه ونبع الدم في رأسِه ورجلاه الخارجتان عن التَّسْكا من فرط طول قامته، لم تبْرَحْ مُخيِّلَتِي !
وما زالتْ تُرافِقُنِي في لحظاتِ وحْدَتِي... حَتّى يَوْمِنا هذا...
إضافة تعقيب